الجمعة، 8 أغسطس 2025

البحرين ودراسة في أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل"بحيرة هجر" د.وائل عبدالعزيز الدغفق1447هـ

البحرين وبحيرة هجر التاريخية : 
دراسة في أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل.
 
اعداد د.وائل عبدالعزيز الدغفق1447هـ 

المقدمة: 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تتمتع واحة الأحساء، المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، بإرثٍ تاريخي وجغرافي فريد، شكلت فيه مصادر المياه العذبة شريان الحياة وعماد الحضارة منذ آلاف السنين. وفي قلب هذا المشهد الطبيعي الغني، تبرز مسطحات مائية ذات أهمية بالغة، لم تنل حقها الكامل من الدراسة والتوثيق التاريخي المتعمق، وهي بحيرة الأصفر وبحيرة الحبيل شرق واحة الأحساء حاليًا.

وارتبط اسم "البحرين" تاريخيًا بإقليم شرق الجزيرة العربية بأكمله، وهي تسمية اختلف المؤرخون في أصلها؛ فمنهم من أرجعها إلى وجود بحرين بالفعل، أحدهما مالح وهو الخليج العربي، والآخر عذب ومتمثل في بحيرات وينابيع المنطقة الداخلية "بحيرة الأصفر". وقد أشار مؤرخون قدامى مثل ياقوت الحموي والقلقشندي إلى أن بحيرة هجر (الأصفر حاليًا) كانت أحد هذين البحرين، مما يمنحها بُعدًا تاريخيًا وجغرافيًا استثنائيًا.

ومع ذلك، ساد في العقود الأخيرة تصور شائع يربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة، مما يختزل تاريخها الطبيعي العريق ويطمس هويتها الأصلية كتجمع مائي طبيعي، وكان قائمًا قبل هذه المشاريع.

ومن هنا، تنطلق هذه الدراسة لتصحيح هذا المفهوم وتقديم رؤية تاريخية موثقة، تطرح إشكالية رئيسية تتمثل في إثبات الأصل الطبيعي لبحيرتي الأصفر والحبيل، ودورهما المحوري في تشكيل جغرافية وهوية إقليم هجر التاريخي.

ولتحقيق هذا الهدف، نسعى في بحثنا هذا إلى تتبع الإشارات التاريخية والجغرافية للبحيرتين في كتابات المؤرخين والرحالة، والمصادر الأرشيفية العربية والأجنبية. كما نسعى لتحليل السياق الجغرافي الذي أدى إلى ظهور التسمية التاريخية "البحرين"، وربطها بوجود هذين المسطحين المائيين كبحيرتين عذبتين في وسط الإقليم. كما نسعى لدحض النظرية القائلة بأن بحيرة الأصفر هي نتاج صناعي لمياه الصرف الزراعي، وذلك من خلال استعراض الأدلة التي تشير إلى وجودها كمعلم طبيعي قديم.

ولاشك أن استدلالاتنا أتت بعد جمع وتوثيق ما ورد عن بحيرتي الأصفر والحبيل، والتي غالبًا ما تكون الأخيرة أقل حضورًا في الدراسات، وربط تاريخها بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء من نظام مائي متكامل في المنطقة.

إن هذا البحث لا يقتصر على كونه استعراضًا تاريخيًا، بل هو محاولة لإعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية والجغرافية، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق.


الفصل الأول:
 المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"

1.1 الأصل اللغوي لكلمة "البحرين"تُعد كلمة "البحرين" من الكلمات التي تحمل في طياتها دلالات لغوية وجغرافية عميقة، وقد أثارت جدلاً بين المؤرخين واللغويين حول أصل تسمية الإقليم التاريخي المعروف بهذا الاسم. لفهم هذا الجدل وتوضيح الرؤية، لا بد من العودة إلى الأصل اللغوي لكلمة "البحر" في اللغة العربية. ففي الاستخدام الشائع، غالبًا ما يُربط مصطلح "البحر" بالمياه المالحة الشاسعة التي تغطي مساحات واسعة من الكرة الأرضية، كالمحيطات والبحار المعروفة. إلا أن هذا الفهم لا يمثل المعنى الشامل للكلمة في اللغة العربية الفصحى.فاللغة العربية، بثرائها واتساعها، تمنح كلمة "البحر" دلالات أوسع بكثير. فهي لا تقتصر على الإشارة إلى المياه المالحة فحسب، بل تُطلق أيضًا على أي تجمع كبير للمياه، سواء كانت مالحة أو عذبة. وهذا يشمل الأنهار العظيمة ذات التدفق الكبير، والبحيرات الواسعة التي تتجمع فيها المياه بشكل دائم أو شبه دائم. هذا المعنى الواسع لكلمة "البحر" هو حجر الزاوية في فهمنا لتسمية إقليم "البحرين"، ويدعم الفرضية التي سنطرحها في هذه الدراسة.ولتعزيز هذا الفهم، نستشهد بما ورد في أحد أهم معاجم اللغة العربية، وهو كتاب "لسان العرب" لابن منظور. فقد جاء في هذا المعجم أن "البحر هو الماء الكثير، مِلحًا كان أو عذبًا". هذا التعريف الواضح والصريح يؤكد أن مفهوم "البحر" في اللغة العربية يتجاوز حدود المياه المالحة، ليشمل أي مسطح مائي كبير، بغض النظر عن ملوحته. وهذا الدليل اللغوي يقدم أساسًا متينًا لحجتنا بأن تسمية "البحرين" قد لا تشير بالضرورة إلى بحرين مالحين، بل قد تشمل بحرًا مالحًا وبحرًا عذبًا، أو حتى بحيرين عذبين، طالما كانا يمثلان تجمعين مائيين كبيرين.

1.2 التفسير الجغرافي السائد لتسمية إقليم البحرينبناءً على الفهم اللغوي لكلمة "البحرين"، نشأت عدة نظريات لتفسير تسمية إقليم شرق الجزيرة العربية بهذا الاسم. النظرية الأكثر شيوعًا وقبولًا، والتي سادت لفترة طويلة، ترتكز على وجود "بحرين" رئيسيين في هذا الإقليم الممتد من البصرة شمالًا إلى عُمان جنوبًا. هذان البحران هما:

البحر المالح: ويتمثل في مياه الخليج العربي، الذي يحد الإقليم من جهة الشرق. هذا البحر هو المصدر الرئيسي للمياه المالحة في المنطقة، وقد لعب دورًا حيويًا في تحديد جغرافية الإقليم وتاريخه، كونه ممرًا تجاريًا وحضاريًا رئيسيًا.

البحر العذب: ويتمثل في المياه الجوفية الهائلة والعيون والينابيع الغزيرة التي اشتهرت بها المنطقة، وخصوصًا واحة الأحساء والقطيف. كانت هذه المياه تتدفق بغزارة على سطح الأرض، مشكلةً ما يشبه "بحرًا" من المياه العذبة.
 هذه العيون والينابيع كانت شريان الحياة للواحات الزراعية، ومصدرًا أساسيًا للعيش والاستقرار في المنطقة الصحراوية المحيطة.

تعتبر هذه النظرية هي التفسير الأكثر شيوعًا لتسمية "البحرين"، حيث تجمع بين العنصر البحري المالح والعنصر المائي العذب المتوفر بكثرة في المنطقة. ومع ذلك، فإن هذه الدراسة ستسعى إلى تقديم تفسير أكثر دقة وتحديدًا لمفهوم "البحر العذب"، من خلال التركيز على وجود مسطحات مائية عذبة محددة وكبيرة، وهي بحيرتا الأصفر والحبيل، والتي نعتقد أنها كانت الأساس الحقيقي لتسمية الإقليم بـ"البحرين"، وليس مجرد الإشارة العامة إلى المياه الجوفية.
الفصل الثاني: 
أدلة أصالة بحيرة هجر (الأصفر) في المصادر التاريخية. 
بعد أن استعرضنا المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"، ننتقل الآن إلى الأدلة التاريخية الملموسة التي تؤكد أصالة وجود بحيرة هجر، والتي تُعرف اليوم ببحيرة الأصفر، كمعلم جغرافي طبيعي راسخ في واحة الأحساء. هذه الأدلة لا تقتصر على مجرد الإشارات العابرة، بل هي شهادات موثقة من كبار المؤرخين والجغرافيين الذين عاصروا المنطقة أو كتبوا عنها بتفصيل، مما يمنحها مصداقية علمية وتاريخية لا تقبل الشك.

2.1 شهادة ياقوت الحموي (معجم البلدان)
تُعد شهادة الإمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (المتوفى سنة 626هـ/1229م) في موسوعته الجغرافية الخالدة "معجم البلدان"، الدليل الأبرز والأكثر حسمًا في إثبات أصالة بحيرة هجر. ففي سياق بحثه عن الجذور التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، كثيرا ما تبرز قضية أصل "بحيرة الأصفر" كإحدى أهم الإشكاليات البحثية المتنازع عليها. ففي حين يميل التصور الحديث إلى اعتبارها نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي، تقدم لنا المصادر التاريخية أدلة قاطعة على وجودها كمعلم جغرافي راسخ منذ قرون.عند تناوله لأصل تسمية إقليم "البحرين" الكبير، استعرض ياقوت الحموي عدة آراء لغوية، لكنه رفضها واصفًا إياها بـ"التعسف". ثم قدم التفسير الذي اعتمده واعتبره الحقيقة الراجحة، ناقلاً إياه عن اللغوي الكبير أبي منصور الأزهري، حيث قال:"والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: إنما سُمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال: وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق."
(ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: البحرين)

تحليل النص وأبعاده في إثبات أصالة البحيرة:

إن هذا النص الموجز والمكثف لا يمثل مجرد إشارة عابرة، بل هو وثيقة تاريخية وجغرافية متكاملة، يمكن تفكيك أبعادها على النحو التالي:

1- المصداقية والقناعة ("وهو الصحيح عندنا")
 لم يورد ياقوت هذا القول كأحد الآراء المطروحة، بل تبناه بشكل كامل وقدمه على أنه الرأي الصحيح. هذا التبني من قِبَل جغرافي ومؤرخ بحجم ياقوت الحموي، يمنح وجود البحيرة في القرن السابع الهجري مصداقية تاريخية لا تقبل الشك، وينفي بشكل قاطع أي ادعاء بحداثة نشأتها.

2- دقة تحديد الموقع ("على باب الأحساء")
 يدل النص على موقع البحيرة وأنها "على باب الأحساء". وفي ذلك العصر، كانت "الأحساء" تشير إلى مناطق تجمع المياه والعيون الغزيرة. وعليه، فإن وصفها بأنها كانت "على بابها" يتطابق جغرافيًا مع موقع بحيرة الأصفر الحالية، التي تمثل الحافة الشرقية للواحة ونقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة منها.

3- وصف الأبعاد الشاسعة للبحيرة ("ثلاثة أميال في مثلها"):
 يقدر ياقوت مساحة البحيرة بثلاثة أميال في مثلها، أي حوالي 5.4 كم × 5.4 كم تقريبًا (باعتبار الميل يساوي 1.8 كم). هذا دليل على أنها كانت معلمًا جغرافيًا هائلاً وبارزًا للعيان، لا مجرد مستنقع موسمي. هذه المساحة الشاسعة هي التي أهّلتها لتكون "بحرًا" في نظر الأقدمين، وأحد طرفي المعادلة في تسمية "البحرين".

4- الوصف الهيدروجيولوجي الدقيق ("لا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق"):
 يقدم ياقوت وصفًا علميًا دقيقًا لطبيعة البحيرة. فقوله "لا يفيض ماؤها" يؤكد أنها حوض تصريف داخلي مغلق (Endorheic basin)، لا منفذ له إلى البحر. وقوله "ماؤها راكد زعاق" (مالح) هو النتيجة الطبيعية لتبخر المياه في حوض مغلق بمنطقة صحراوية، مما يؤدي إلى تركيز الأملاح. هذا الوصف يطابق تمامًا الطبيعة الجيولوجية والبيئية لبحيرة الأصفر، ويدحض أي تصور بأنها كانت بحيرة عذبة.

خاتمة ما نقل عن ياقوت الحموي واستنتاج:
إن شهادة ياقوت الحموي لا تقتصر على إثبات وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) قبل أكثر من ثمانية قرون، بل هي تؤسس لأهميتها المحورية في هوية الإقليم الجغرافية. وبإثبات وجود "البحر العذب" الأول بشكل قاطع من خلال هذا النص التاريخي، يُفتح الباب منطقيًا للبحث عن شريكه الثاني الذي تكتمل به صيغة المثنى في تسميته بـ "البحرين". وهنا، يبرز دور "بحيرة الحبيل" كمرشح طبيعي ومنطقي لتكون "البحر الثاني"، المكمل للنظام المائي المتكامل الذي شكل هوية واحة الأحساء عبر العصور. وعليه، فإن نص ياقوت الحموي لا يمثل مجرد دليل، بل هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه حجة الأصل الطبيعي للبحيرتين، وتُدحض به نظرية النشأة الصناعية الحديثة.

2.2 شهادة القلقشندي (صبح الأعشى)
إلى جانب الدليل القاطع الذي قدمه ياقوت الحموي، تأتي شهادة مؤرخ ودبلوماسي آخر من العصر المملوكي، وهو شهاب الدين أبو العباس القلقشندي (المتوفى سنة 821هـ/1418م)، وهو قد أتى بعد ياقوت بـ 300 عام لتعزز أدلته من الحقيقة التاريخية لوجود بحيرة كبرى في هجر. في موسوعته الإدارية والجغرافية الضخمة "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وفي سياق حديثه عن إقليم البحرين، يقدم القلقشندي وصفًا يؤكد وجود هذا المعلم الجغرافي، مضيفًا تفاصيل جديدة تدعم فرضية البحث.ففي أثناء تحديده لإقليم البحرين وأسباب تسميته، يورد القلقشندي تفسيرًا جغرافيًا واضحًا، حيث يقول:"وسُمي الإقليم جميعه بالبحرين، تثنية بحر، لوجود بحرين به في طرفيه الشرقي والغربي: فالشرقي منهما هو البحر المعروف ببحر فارس، وهو بحر الهند... والغربي منهما بحيرة في طرف بلاد هجر من جهة الشمال، يصب فيها نهر محلِّم المشهور عندهم، وطول هذه البحيرة ثلاثة أميال وعرضها دون ذلك."
(القلقشندي، "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الجزء الخامس)

تحليل النص وأبعاده في دعم فرضية البحث:

1- تأكيد مباشر لنظرية "البحرين": 
يقدم القلقشندي تفسيرًا صريحًا ومباشرًا للتسمية، رابطًا إياها بوجود "بحرين" حقيقيين: بحر مالح (الخليج العربي)، وبحر عذب (البحيرة). هذا التأكيد من مؤرخ موسوعي مثل القلقشندي يمنح الفرضية وزنًا تاريخيًا كبيرًا، ويؤكد أن هذا التفسير الجغرافي كان شائعًا ومعتمدًا في دوائر العلم والإدارة في القرن التاسع الهجري.

2- تحديد الموقع ("في طرف بلاد هجر"):
 يتفق القلقشندي مع ياقوت في تحديد الموقع العام للبحيرة بأنها "في طرف بلاد هجر". هذا الوصف يعزز التطابق الجغرافي مع موقع بحيرة الأصفر على الحافة الشرقية لواحة الأحساء.

3- وصف الأبعاد("طولها ثلاثة أميال وعرضها اقل"): 
يتوافق تقدير القلقشندي لطول البحيرة (ثلاثة أميال) مع ما ذكره ياقوت الحموي، مما يشير إلى أن حجمها كان معروفًا ومستقرًا نسبيًا في الذاكرة التاريخية والجغرافية. هذا التوافق بين مصدرين يفصل بينهما قرنان من الزمان يعطي مصداقية عالية لوجود معلم جغرافي ثابت وراسخ.

4- إضافة معلومة هيدرولوجية ("يصب فيها نهر محلِّم"):
يضيف القلقشندي تفصيلاً فريدًا وهو أن "نهر محلِّم" يصب في هذه البحيرة. "نهر محلِّم" هو أحد الأنهار أو القنوات المائية الرئيسية القديمة في واحة الأحساء. هذه الإشارة بالغة الأهمية لسببين:

تأكيد الأصل الطبيعي: 
ذكر اتصال البحيرة بنهر رئيسي في الواحة هو دليل مباشر على أنها كانت جزءًا من النظام المائي الطبيعي لهجر، حيث كانت تمثل نقطة التصريف النهائية للمياه الفائضة من الأنهار والعيون.

دحض نظرية الصرف الزراعي: 
هذه الشهادة، التي تعود إلى ما قبل 600 عام، تثبت أن البحيرة كانت تستقبل مياه الواحة عبر قنوات طبيعية أو قديمة (مثل نهر محلِّم) قبل إنشاء شبكات الصرف الحديثة بقرون طويلة، مما ينسف الادعاء بأنها نتاج لهذه الشبكات.

خاتمة كتابات القلقشندي واستنتاج:
تأتي شهادة القلقشندي لتكمل شهادة ياقوت الحموي وتؤكدها. فإذا كان ياقوت قد أثبت وجود البحيرة وحجمها وطبيعتها المغلقة، فإن القلقشندي يؤكد كل ذلك ويضيف بعدًا جديدًا عبر ربطها بشكل صريح بأحد أنهار الواحة الرئيسية. إن اجتماع هاتين الشهادتين من مصدرين تاريخيين موثوقين يفصل بينهما زمن طويل، لا يترك مجالاً للشك في أن "بحيرة هجر" (الأصفر) كانت معلمًا جغرافيًا أصيلاً، وكيانًا مائيًا بارزًا، وجزءًا لا يتجزأ من النظام الهيدرولوجي لواحة الأحساء، وأحد السببين الرئيسيين وراء تسمية الإقليم بـ"البحرين".
الفصل الثالث: 
الأدلة الخرائطية والجغرافية لأصالة البحيرات

بعد أن أرست المصادر النصية لياقوت الحموي والقلقشندي أساسًا متينًا لوجود بحيرة كبرى في هجر، يتجه البحث إلى نوع آخر من الأدلة لا يقل أهمية، وهو الدليل الخرائطي (الكارتوغرافي). وتبرز في هذا المجال أعمال الشريف الإدريسي (المتوفى سنة 560هـ/1165م)، أحد أعظم الجغرافيين وصانعي الخرائط في العصور الوسطى. إن فحص خرائطه وكتاباته في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، يوفر بعدًا بصريًا وجغرافيًا يعزز الأدلة النصية ويدعم فرضية الأصل الطبيعي للبحيرات في واحة الاحساء .
3.1 تحليل خريطة الشريف الإدريسي وكتاباته على الرغم من أن الإدريسي لم يذكر "بحيرة هجر" بالاسم الصريح كما فعل ياقوت الحموي، إلا أن تحليلاً دقيقًا لخريطته الخاصة بالجزيرة العربية وكتاباته يكشف عن أدلة مهمة:

1- تصوير المياه الداخلية في إقليم البحرين:
 في خريطته الشهيرة، التي تُعد من أدق خرائط عصرها، يصور الإدريسي إقليم البحرين (هجر) كمنطقة غنية بالمياه بشكل لافت. الأهم من ذلك، أنه يرسم ما يمكن تفسيره بوضوح على أنه تجمعات مائية داخلية (Inland water bodies) منفصلة عن ساحل الخليج العربي. تظهر هذه التجمعات المائية في الموقع التقريبي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشرق من المناطق الحضرية التي يصورها. هذا التمثيل البصري، القادم من جغرافي دقيق مثل الإدريسي، هو دليل قوي على وجود مسطحات مائية كانت من الأهمية والشهرة بحيث تستحق أن تُرسم على خريطة العالم المعروف آنذاك.
2- وصف الأنهار التي تصب في الداخل:
 في كتابه "نزهة المشتاق"، يصف الإدريسي الأنهار والعيون في منطقة هجر، ويذكر أن بعضها يجري لمسافات ثم "يغور في الأرض" أو ينتهي في مناطق داخلية. هذا الوصف يتوافق تمامًا مع نظام هيدرولوجي ينتهي في أحواض تصريف مغلقة، مثل منخفضي الأصفر والحبيل، بدلاً من أن يصب في البحر. إن رسمه لمجاري مياه لا تصل إلى الخليج، بل تنتهي في الداخل، هو تأكيد جغرافي على وجود نقطة تجميع نهائية لهذه المياه، وهي البحيرات التي نبحث عنها.

أهمية شهادة الإدريسي:
تكمن أهمية دليل الإدريسي في كونه دليلاً بصريًا، فالخريطة تقدم دليلاً مرئيًا ومكانيًا يكمل الوصف النصي عند ياقوت والقلقشندي، رؤية مسطح مائي مرسوم على خريطة من القرن السادس الهجري هو حجة بصرية قوية. ومن المعروف أن الإدريسي عاش وألف كتابه قبل ياقوت الحموي، مما يعني أن وجود هذه البحيرة كمعلم جغرافي بارز كان حقيقة مسلمًا بها قبل القرن السابع الهجري. هذا التسلسل الزمني (الإدريسي ثم ياقوت ثم القلقشندي) يخلق سلسلة متصلة من الأدلة التاريخية تمتد لقرون.

3.2 إشارات جغرافيين آخرين 
ولتعزيز الحجة، يمكن الإشارة إلى جغرافيين آخرين قدموا إشارات تدعم وجود مسطحات مائية داخلية في شرق الجزيرة العربية:

1- كلوديوس بطليموس (القرن الثاني الميلادي): 
في خرائطه القديمة للجزيرة العربية (Geographia)، ورغم صعوبة مطابقة الأسماء القديمة بالحديثة، فإنه يصور وجود بحيرات داخلية (Paludes) في شرق الجزيرة العربية. هذه الإشارة، وإن كانت عامة، تدل على أن فكرة وجود بحيرات في هذه المنطقة تعود إلى العصور الكلاسيكية القديمة.

2- المسعودي (القرن الرابع الهجري): 
في كتبه مثل "مروج الذهب"، وصف المسعودي غنى منطقة هجر بالعيون والمياه الجارية، واصفًا إياها بأنها "أرض العيون والأنهار". هذا الوصف لغزارة المياه يجعل من وجود بحيرات لتصريف هذا الفائض أمرًا منطقيًا ومتوقعًا من الناحية الجغرافية.

خاتمة واستنتاج:
إن المصوّرات الجغرافية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، تقدم دليلاً من نوع مختلف، فهو دليل بصري ومكاني يؤكد ما جاء في النصوص. إن رسم مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض مغلقة، يتضافر مع شهادات ياقوت والقلقشندي ليشكل حجة متكاملة متعددة المصادر. هذه الأدلة مجتمعةً ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه، وشاهدتين على تاريخ طويل من وفرة المياه التي منحت الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".

الفصل الرابع:
فرضية بحيرتي الأصفر والحبيل كأساس لتسمية "البحرين"
بعد أن استعرضنا الأدلة اللغوية والتاريخية والخرائطية التي تؤكد وجود مسطحات مائية داخلية كبيرة في واحة الأحساء، ننتقل الآن إلى صلب الفرضية التي تطرحها هذه الدراسة: أن بحيرتي الأصفر والحبيل، بوجودهما الطبيعي والتاريخي، هما الأساس الحقيقي لتسمية إقليم شرق الجزيرة العربية بـ"البحرين"، وليس مجرد الإشارة العامة إلى المياه الجوفية.

4.1 الربط بين "بحيرة هجر" و"بحيرة الأصفر"
إن بحيرة الأصفر هي المسطح المائي الأكبر والأكثر ديمومة تاريخيًا في واحة الأحساء. موقعها يتوافق تمامًا مع الأوصاف العامة لـ"بحيرة هجر" التي وردت في المصادر التاريخية القديمة. فكما رأينا في شهادة ياقوت الحموي، كانت "بحيرة هجر" معلمًا جغرافيًا بارزًا "على باب الأحساء"، وبأبعاد كبيرة. هذه الأوصاف تنطبق بشكل دقيق على بحيرة الأصفر الحالية، التي تقع على الحافة الشرقية للواحة وتمثل نقطة تجمع طبيعية للمياه الفائضة.وعليه، يمكن القول بأن "بحيرة هجر" المذكورة في المصادر التاريخية هي التسمية القديمة لما يُعرف اليوم بـ"بحيرة الأصفر". إن هذا الربط ليس مجرد افتراض، بل هو استنتاج منطقي مبني على تطابق الأوصاف الجغرافية والتاريخية، ويؤكد استمرارية هذا المعلم المائي عبر العصور، ودحضًا لأي ادعاء بحداثة نشأته.

4.2 لماذا بحيرتان؟ (الأصفر والحبيل)
إذا كانت التسمية هي "البحرين" (بصيغة المثنى)، فمن المنطقي جغرافيًا البحث عن "بحرين" عذبين وليس بحرًا واحدًا فقط، ليكتمل المعنى اللغوي والجغرافي للتسمية. هنا تبرز بحيرة الحبيل كمرشح ثانٍ قوي لتكون "البحر العذب الثاني" الذي يكمل المعادلة.على الرغم من أن بحيرة الحبيل قد تكون أصغر حجمًا أو أقل شهرة اليوم مقارنة ببحيرة الأصفر، إلا أن وجودها التاريخي إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم تفسيرًا جغرافيًا مباشرًا ومقنعًا لصيغة المثنى في تسمية "البحرين". إن وجود مسطحين مائيين عذبين كبيرين وواضحين المعالم في قلب الواحة، إلى جانب الخليج العربي المالح، يوفر تفسيرًا متكاملًا ودقيقًا للتسمية.

بناء الحجة:
الفرضية التي نطرحها هي أن تسمية "البحرين" لا تشير فقط إلى (الخليج + المياه الجوفية) بشكل عام، بل يمكن أن تشير بشكل أكثر تحديدًا ودقة إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل. هذا التفسير يحل إشكالية لماذا لم تُسمَّ مناطق أخرى غنية بالمياه الجوفية (مثل بعض مناطق العراق أو الشام) بـ"البحرين". التميز الجغرافي لهجر لم يكن فقط في غزارة مياهها، بل في وجود بحيرات سطحية واضحة المعالم يمكن الإشارة إليها كـ"بحر".إن وجود بحيرتين عذبتين كبيرتين ودائمتين في واحة الأحساء، إلى جانب الخليج العربي، يوفر تفسيرًا مقنعًا ومنطقيًا لتسمية الإقليم بـ"البحرين". هذا التفسير لا يعتمد على العموميات، بل على معالم جغرافية محددة وموثقة تاريخيًا، مما يعزز من أصالة هذه البحيرات ودورها المحوري في تشكيل هوية المنطقة.

الفصل الخامس: دحض النظريات المضادة وتعزيز الفرضية

بعد أن قدمنا الأدلة اللغوية والتاريخية والخرائطية التي تؤكد أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل ودورهما في تسمية "البحرين"، ننتقل الآن إلى دحض النظريات المضادة، وتحديدًا تلك التي تعتبر بحيرة الأصفر نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي الحديثة. إن تفنيد هذه النظريات يعزز من صحة الفرضية التي طرحناها ويؤكد على الأصل الطبيعي والتاريخي لهذه المسطحات المائية.

5.1 تفنيد نظرية "البحيرة الصناعية"
تعتبر نظرية "البحيرة الصناعية" هي الفرضية الأكثر شيوعًا التي تربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة. ومع ذلك، فإن الأدلة التي قدمناها في الفصول السابقة، بالإضافة إلى بعض الحقائق الجيولوجية والهيدرولوجية، تدحض هذه النظرية بشكل قاطع:

1- الشهادات التاريخية التي تسبق مشاريع الري والصرف الحديثة:
 كما أوضحنا في الفصل الثاني، فإن شهادات مؤرخين وجغرافيين كبار مثل ياقوت الحموي (القرن السابع الهجري) والقلقشندي (القرن التاسع الهجري)، بالإضافة إلى الإشارات الخرائطية للإدريسي (القرن السادس الهجري)، تؤكد جميعها وجود بحيرة كبيرة في منطقة هجر (الأحساء) قبل إنشاء مشاريع الري والصرف الحديثة بمئات السنين. هذه الشهادات الموثقة زمنيًا تنسف أي ادعاء بأن البحيرة هي نتاج لهذه المشاريع، حيث كانت موجودة ومعروفة بوضوح قبلها بقرون طويلة.

2- الطبيعة الجيولوجية للمنطقة:
 تقع بحيرة الأصفر في منطقة منخفضة طبيعيًا (سبخة)، وهي نقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة من عيون الواحة والسيول القادمة من الأودية الغربية (مثل وادي المياه). هذه المنخفضات الطبيعية تعمل كأحواض تصريف للمياه السطحية والجوفية، مما يجعل وجود تجمع مائي كبير فيها أمرًا طبيعيًا ومتوقعًا جيولوجيًا، بغض النظر عن التدخلات البشرية. إن طبيعة المنطقة الطبوغرافية والهيدروجيولوجية تهيئها لتكون موطنًا لمثل هذه البحيرات.

3- دور مشاريع الصرف الحديثة في زيادة حجم البحيرة وليس نشأتها: 

لا يمكن إنكار أن مشاريع الصرف الزراعي الحديثة قد ساهمت في زيادة حجم بحيرة الأصفر وتغذيتها بكميات إضافية من المياه. ومع ذلك، فإن هذه المشاريع لم تخلق البحيرة من العدم، بل قامت بتغذية مسطح مائي كان موجودًا بالفعل. يمكن تشبيه الأمر بنهر يزداد منسوبه بعد هطول الأمطار؛ فالأمطار لم تخلق النهر، بل زادت من تدفقه. وبالمثل، فإن مياه الصرف الزراعي لم تخلق بحيرة الأصفر، بل ساهمت في توسيعها والحفاظ على منسوبها، خاصة بعد تراجع بعض العيون الطبيعية.

إن هذه النقاط مجتمعة تؤكد أن بحيرة الأصفر هي معلم جغرافي طبيعي أصيل، وأن النظريات التي تربط نشأتها بمشاريع الصرف الزراعي الحديثة لا تستند إلى أدلة تاريخية أو جيولوجية قوية. بل إن هذه المشاريع جاءت لتستفيد من وجود البحيرة كحوض تصريف طبيعي، وتساهم في تغيير حجمها وشكلها، لكنها لم تكن السبب في وجودها الأساسي.

الفصل السادس: 
نهر محلم "سيهات" وأثره بالموارد المائية لبحيرة هجر أو الأصفر. 

6-1 نهر محلم وعلاقته بالموارد المائية في هجر
يُعد نهر محلم، الذي يُعرف أحيانًا باسم "سيهات" في بعض المصادر التاريخية، أحد المعالم المائية البارزة في تاريخ شرق الجزيرة العربية، وتحديدًا في منطقة واحة الأحساء. لقد لعب هذا النهر دورًا حيويًا في تغذية الموارد المائية للواحة، بما في ذلك بحيرة هجر أو الأصفر، مما يؤكد على ترابط النظام الهيدرولوجي للمنطقة وأصالته التاريخية. لعل أكثر من حقق عن ذلك النهر هو الدكتور خالد العنقري، الذي بحث في مصادر الخرائط التي ذكرت "نهر محلم" ورسمه للنهر في كتابه القيم (الجزيرة العربية في الخرائط الأوربية القديمة).

وقد تم العثور على عدة خرائط تاريخية للجزيرة العربية قد تكون ذات صلة بهذا النهر، منها خرائط الهولندي هيرمان مول للجزيرة العربية من القرن الثامن عشر، وخرائط أوروبية قديمة أخرى تظهر شرق الجزيرة العربية، وخاصة ما يخص المسطحات المائية الداخلية، كخرائط أوليفا جون.

6-2 الخرائط التاريخية التي تشير إلى نهر محلم أو ما يماثله
تُقدم الخرائط التاريخية دليلاً بصريًا مهمًا على وجود نهر محلم أو ما يماثله من أنهار وقنوات مائية في شرق الجزيرة العربية، مما يعزز من فهمنا لدوره في النظام المائي للمنطقة. 

الخارطة الأولى: خارطة أوليفا جون (Oliva Jon) (ازدهر نشاطه 1570 – 1614م):

تُظهر هذه الخريطة نهرًا ينبع من منطقة اليمامة في نجد، ويتجه نحو الخليج العربي، حيث يختتم مصبه في بحر الخليج. يمثل هذا النهر المسطح المائي المعروف في المصادر اللاحقة باسم "محلم". ويُعد هذا التصوير من أوائل الخرائط الأوروبية التي تُبرز الشبكة المائية الداخلية لشرق الجزيرة العربية، مما يدل على اهتمام الرحالة والمستكشفين بتوثيق تضاريس شبه الجزيرة بما فيها الأنهار والقنوات الداخلية.

الخارطة الثانية: خريطة مول هيرمان (Hermann) (1688–1745م):

تُظهر هذه الخريطة نهرًا يُطلق عليه اسم "سيهات"، وهو الاسم الذي استُخدم في تلك الفترة للإشارة إلى نفس النهر أو جزء منه الذي وصفه الباحثون السابقون بنهر "محلم". يظهر النهر ممتدًا من داخل الجزيرة العربية نحو الخليج العربي، مع توضيح المراكز السكنية والمناطق الزراعية على ضفافه، مما يعكس أهمية هذا المسطح المائي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة خلال القرون الوسطى..

الخارطة الثالثة: خريطة الإدريسي (حوالي 1154م):

في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، رسم الإدريسي حدود شبه الجزيرة العربية مع إبراز بعض الأنهار والمسطحات المائية. وقد أشار إلى عدة وديان وأنهار تصب في الخليج، إلا أن الأسماء لم تكن دقيقة كالخرائط الحديثة. من المرجح أن نهر محلم أو سيهات كان من ضمن هذه الشبكة المائية الداخلية التي أشار إليها الإدريسي بشكل عام، مما يؤكد وجود نظام مائي داخلي معقد في المنطقة.

الخارطة الرابعة: خريطة جيوفاني باتيستا روتشيني (Giovanni Battista Rocchini) القرن السابع عشر:

تحتوي خرائط روتشيني على بعض التصويرات التفصيلية لشبه الجزيرة العربية، مع إبراز عدد من الأنهار والواحات في شرق الجزيرة. وهي من الخرائط التي قد تحتوي على إشارات لنهر مماثل لـ"محلم"، مما يضيف بعدًا آخر للأدلة الخرائطية التي تدعم وجود هذا النهر التاريخي..

الخارطة الخامسة: خرائط مكتبة David Rumsey وBritish Library:

تتوفر في هذه المكتبات عدة خرائط بحرية وبرية للجزيرة العربية الشرقية من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر. تظهر هذه الخرائط قنوات مائية وأودية قد تكون امتدادًا أو أجزاء من نهر محلم أو سيهات. وغالبًا ما تختلف التسميات حسب اللغة والمصدر، مما يتطلب دراسة مقارنة لتحديد مدى تطابق هذه المسطحات المائية مع نهر محلم التاريخي. هذه الخرائط تعزز فكرة وجود شبكة مائية داخلية مهمة في شرق الجزيرة العربية، كانت تغذي الواحات والبحيرات، ومنها بحيرة هجر أو الأصفر..

الخاتمة

لقد سعت هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على قضية جوهرية في تاريخ وجغرافية واحة الأحساء، وهي أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل ودورهما المحوري في تشكيل هوية الإقليم وتسميته التاريخية بـ"البحرين". من خلال تتبع دقيق للمصادر اللغوية والتاريخية والخرائطية، تمكنا من بناء حجة متكاملة تدحض النظريات التي تختزل تاريخ هذه البحيرات في مجرد نتاج لمشاريع الصرف الزراعي الحديثة.

لقد أثبتنا أن المعنى اللغوي لكلمة "البحر" في اللغة العربية يشمل التجمعات المائية الكبيرة سواء كانت مالحة أو عذبة، مما يفتح الباب أمام تفسير أعمق لتسمية "البحرين". كما قدمنا أدلة دامغة من شهادات ياقوت الحموي والقلقشندي، التي تؤكد وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) كمعلم جغرافي بارز قبل قرون طويلة من ظهور المشاريع الحديثة. هذه الشهادات، بتفاصيلها الدقيقة عن الموقع والأبعاد والطبيعة الهيدروجيولوجية، لا تترك مجالاً للشك في أصالة البحيرة.

علاوة على ذلك، عززت الأدلة الخرائطية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، هذه الحجة بتقديم بعد بصري ومكاني يؤكد وجود مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض تصريف مغلقة. هذه الأدلة مجتمعةً، من مصادر متعددة ومتباعدة زمنيًا، ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه.

وقد أضافت دراسة نهر محلم "سيهات" في الفصل السادس بُعدًا جديدًا ومهمًا لفهم النظام المائي المتكامل في واحة الأحساء. فمن خلال تحليل الخرائط التاريخية الأوروبية، وخاصة خرائط أوليفا جون وهيرمان مول، تبين أن نهر محلم كان أحد الروافد الرئيسية التي تغذي بحيرة هجر (الأصفر). هذا الاكتشاف يؤكد أن البحيرة لم تكن مجرد تجمع مائي منعزل، بل كانت جزءًا من شبكة هيدرولوجية معقدة تربط بين مختلف أجزاء الواحة، مما يعزز من أصالتها الطبيعية ويدحض نظرية النشأة الصناعية.

إن الفرضية التي طرحناها، بأن تسمية "البحرين" تشير بشكل أكثر تحديدًا إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل، تقدم تفسيرًا منطقيًا ومقنعًا لصيغة المثنى، وتبرز التميز الجغرافي لواحة الأحساء. وقد تم دحض نظرية "البحيرة الصناعية" من خلال إثبات أن المشاريع الحديثة لم تنشأ البحيرة، بل ساهمت في تغيير حجمها وتغذيتها، بينما كان وجودها الأصيل راسخًا قبل ذلك بقرون، مدعومًا بشبكة من الأنهار والقنوات الطبيعية مثل نهر محلم.

في الختام، تؤكد هذه الدراسة على أهمية إعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق. إن بحيرتي الأصفر والحبيل، مع نهر محلم الذي يغذيهما، ليست مجرد مسطحات مائية، بل هي شواهد حية على تاريخ طويل من وفرة المياه والنظام الهيدرولوجي المتكامل الذي منح الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".

اعدّ هذه الدراسة 
د.وائل عبدالعزيز الدغفق - الخبر1447هـ 
___________________________________
المراجع 
- الحموي، ياقوت. (د.ت). معجم البلدان. (مادة: البحرين).
- القلقشندي، شهاب الدين أبو العباس. (د.ت). صبح الأعشى في صناعة الإنشا. (الجزء الخامس).
- الإدريسي، الشريف. (د.ت). نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
- ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب.
- بطليموس، كلوديوس. (القرن الثاني الميلادي). الجغرافيا (Geographia).
- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين. (د.ت). مروج الذهب ومعادن الجوهر.
- خرائط الجزيرة العربية في الخرائط الأوربية القديمة، د.خالد العنقري. 

الأحد، 3 أغسطس 2025

الجزيرة التي نسيت انها عربية "مالطا" وجولة رحال الخبر عام 2015 الموافق 1436هـ



خراب مالطا... جزيرةٌ نسيتْ أنها عربية

المقدمة:

لم يكن صيف عام 2015 مجرد عبورٍ في مرافئ الذكريات، بل كان انغماسًا في جوهرةٍ نُسيت بين أمواج المتوسط، تُدعى مالطا.
صخرةٌ ضالة بين العروبة واللاتينية، تلوح لك بأسماءٍ عربيةٍ تترقرق بين جدرانها القديمة، وتهمس بلغاتٍ مكسّرة، كأن الزمن خانها ونسيَ أن يُخبر أهلها بأنهم أحفادٌ للغةٍ وأمةٍ مرت من هنا.

دخلتُ فاليتا... وتأملتُ أرصفتها التي لا تزال تحمل ظلال الفرسان والبحارة، ثم اتجهتُ إلى جزيرة غودش، حيثُ برك الملح وقصر Qolla l-Bajda، وهناك شعرتُ أن الريح تتكلم عربيًا منسيًّا.

خريطة تفصيلية لجزيرتي مالطا وغودش

من فوهة البحر الزرقاء إلى جروف Ras id-Dawwara، ومن الكهف الأزرق إلى غار الريح، من بئر زيوجة إلى رأس الفنّك، كنتُ أتتبع خيوط الهوية المختلطة، في لهجةٍ تشبه اللهجة التونسيةً مع خلطة لبنانيةً وسلطة أوروبيةً ممسوخة، وفي ملامحَ تحفظ من الأندلس نكهةً، ومن الجزيرة العربية صدى.

من ازقة مدينة "لا مدينة" غرب مالطا 

دخلتُ مدينة، "المدينة" والصامتة، وشهدتُ المسجد الكبير الذي بناه معمّر القذافي واقفًا كأنما يقول: "نحن هنا… ولو بصمت".
وفي الأزقة، راقصتُ الكلمات بين العربية والإيطالية، بين الميراث والحداثة، بين الفقد والاستذكار…

تلك كانت رحلتي، ومنها كانت البداية…

فقد نسجتَ بخطواتي في جزيرتي مالطا وغودش خريطةً من الجمال المتداخل بين العروبة الغائبة الحاضرة، والأوروبية المتحضّرة المتأرّبة. وها أنا أقدّم لكم روايةً أدبية ترحالية بأسلوب سلس، تنبض بما رأيته، وتُظهر ذوق رحال الخبر المتفنن والذي يجمع بين التأمل العميق والدهشة والذائقة الترحالية.


 "في جزيرةٍ نسيت أنها عربية"

لم يكن صيف عام 2015 عاديًّا، فقد حملتني الرياح إلى صخرةٍ تطفو بين الأمس العربي والغد الأوروبي، اسمها مالطا. لا تُشبه شيئًا، ولا يشبهها شيء، تتداخل في شوارعها اللغة كما تتداخلُ الصخور في جسدها الجبليّ، وتتمازج الأرواح كما تمتزجُ مياهُ المتوسط عند جروفها العجيبة.

جزء من خليج مالطا الداخلي وقلاع فاليتا العاصمة

دخلتُ فاليتا، تلك العاصمة التي تحنّ إلى العثمانيين من زاوية، وتشمخ برأس فرسانها من زاويةٍ أخرى. وعلى رصيفها البحري، تأملتُ وجوه المارة، أبحث في ملامحهم عن شيء من هلال بن أبي بقال، أو لعله طيفٌ من أبي نواس قد تاه في الأزقة.

من المطل على خليج فاليتا لمالطا وخليجها 

ثم انطلقتُ إلى جزيرة غودش، حيثُ قصر الملح القديم، Qolla l-Bajda Battery، يقف كبقايا حضارةٍ عربية هجرتها الرمال وتركها البحر في عهدة الذكرى. وعلى مقربةٍ منه، كانت برك الملح تصطفّ كأصابع الزمن، تنقشُ على وجه الأرض حكايات العمل والشمس والعرق.

خلفي برك وممالح استخراج الملح في غودش

وفي الغرب، هناك حيث فوهة البحر الزرقاءBlue Hole Viewpoint – تلك التي لو أُلقي فيها الحنين لعاد إلينا مرسومًا بلون البحر. إنها واحدة من عجائب الطبيعة، تفتح فمها لجوف البحر وتدعوك إلى الغوص في سرٍّ لا يُقال.


واصلت الطريق إلى Ras id-Dawwara، رأسٌ تدور فيه الأرض إن وقفت على حافته، كأنما هو حارسٌ صامت يطل على البحر من أعاليه.

أما الكهف الأزرق، فهو أغنيةُ الحنين الحزينة... هناك في الجنوب الشرقي من الجزيرة الأم، يغني البحر لحناً بلون اللازورد، وتتنفس الكهوف بعمق التاريخ العربي الذي ما زال يُهمس في الصخور.


غار الريح... يا له من اسمٍ! كم حمل من قصص المسافرين والعشاق والغرباء، سكنته الرياح فصارت له أنفاسٌ، كل زائرٍ يخرج منه محمّلاً بعبقٍ لا يُوصف.

وزرتُ قرية بئر زيوجة، التي تحتفظ باسمها العربي في عنادٍ جميل، كأنها تأبى الترجمة، وتكتفي بأن تكون شهقةً من ماضٍ عربيّ لا يموت.

وهناك، عند رأس الفنّك ومرتفعات زبار، رأيتُ كيف تسكن العربيةُ في الحجارة، وتتسللُ إلى أعمدة الكنائس، وتتوارى خلف نوافذ البيوت، وتتنفس في أسماء القرى والشوارع، وكأنّ الأغالبةَ ما زالوا بيننا.

ولأنني أهوى تتبّع الأرواح القديمة، دخلتُ المدينة القديمة (لا مدينة)، وهي أشبه بكتاب مفتوح، صفحاته من الحجر، وكلماته من عبق التاريخ.

      مع امام مسجد مريم البتول وسط مالطا 

وفي إحدى الزوايا، وجدتُ المسجد الكبير الذي بناه معمّر القذافي، يقف شامخًا كغريبٍ وجد في الجزيرة غربةً تشبهه، واحتضن المصلّين كأمٍّ حنونة تعيد أبناءها إلى حضنها.


 قصة بناء مسجد جامع مريم البتول بمالطا

عند استقلال مالطا عن بريطانيا 1964 ، كانت ليبيا كانت أول دولة تعلن الاعتراف بها.

وبعد استقلال مالطا منح رئيس وزراءها "دوم منتوف" في السبعينات القذافي قطعة أرض مساحتها 6500 هدية، وعرفانا منه على مواقفه ودعمه المتواصل لمالطا و كفاحها من اجل نيل استقلالها الكامل من بريطانيا.

القذافي امر ببناء أول مركز إسلامي كامل في الجزيرة، حيث ضم مسجد ومدرسة مريم البتول و المقبرة الإسلامية.

والمسجد الذي يتسع لاكثر من 500 مصلٍ كان أول مسجد يبنى في الجزيرة بعد خروج الاسلام منها عام 1492م.

وخلال زيارة القذافي لمالطا عام 1984 قام بافتتاح هذا المسجد ورفع الاذان فيه لاول مرة بنفسه. 

الألسنة هنا في مالطا ، كانت سيمفونية عجيبة... مزيجٌ من التونسية المنسية، واللبنانية المحوّرة، والإنجليزية المتعجرفة، والإيطالية الغنائية. فإذا ناداك طفل في السوق بلغةٍ هجينة، فاعلم أن اللغة العربية ما زالت تعيش، لكن في ثوبٍ آخر، أو على هيئة ظلّ.

                 قرية بوباي الشهيرة 

كل زاويةٍ زرتها، من قرية بوباي السينمائية إلى جزر كمونة بتجاويفها وخلجانها المتراقصة، كانت تشهد بأن هذه الأرض لم تكن يومًا مجرّد جزيرةٍ أوروبية، بل كانت قلبًا عربيًا تنكّر للعروبة حينًا، وأحبّها في السرّ دومًا.

 خلفي حصن فاليتا والذي لم يمنع من خرابها

مسجد القذافي وسط الجزيرة من ابرز معالم الاسلام هناك 


خراب مالطا:

 سرد لتاريخ سبعة خرابات وليس واحدة. 

لم تكن جزيرة مالطا مرتعًا للسلام يومًا، بل كانت جبهةً متقدمة في صراع حضارات. وكل من مرّ بها، ترك فيها أثراً... وخراباً. فكان تاريخها متسلسلًا على سبعة فصول من الانهيار:ا

الخراب الأول – 868م

فتحها الأغالبة بقيادة هلال بن أبي بقال، وبدلاً من إعمارها، هُجّر سكانها، وقَلَّ العمران، وسادت الوحشة، فبدأ يُشار إليها بـ"خراب مالطا".ا

الخراب الثاني – 1091م

استولى عليها النورمانديون المسيحيون بقيادة روجر الأول، فانهار ما تبقّى من الوجود الإسلامي، وتم استغلال الجزيرة كقاعدة لحروب صقلية، دون تنمية حقيقية.

الخراب الثالث – 1530م

سلّمها الإمبراطور شارل الخامس إلى فرسان القديس يوحنا، الذين أقاموا نظامًا عسكريًا قاسيًا، فُرضت فيه الضرائب، وتم تهميش السكان، وانقطعت مسارات التنمية.

الخراب الرابع – 1565م

الحصار العثماني الكبير بقيادة سنان باشا وطرغود باشا، لم ينجح في السيطرة، لكنه خلّف دمارًا هائلًا اقتصاديًا وبشريًا، دفع مالطا ثمنه طويلًا.

الخراب الخامس – بعد 1600م

دخلت الجزيرة في عهد الاستبداد الداخلي من فرسان مالطا أنفسهم، تفاقم فيه الفقر، وتراجعت الزراعة، وساد الإهمال والتفكك الإداري.

الخراب السادس – 1798م

دخل نابليون بونابرت الجزيرة في طريقه إلى مصر، وطرد الفرسان، ونهب الكنوز، وفرض العلمانية بقوة السلاح. ثار المالطيون، لكن الثورة زادت الانهيار الداخلي، وطلبوا النجدة من بريطانيا.

الخراب السابع – 1800م إلى 1964م

دخل البريطانيون واحتلوا مالطا حتى الاستقلال. لم يُعمروها، بل جعلوها قاعدة عسكرية، واستُنزفت مواردها لمصلحة الإمبراطورية، ولم تشهد الجزيرة تنمية تليق بتاريخها حتى مغادرتهم.

هكذا، على مدى ألف عام، تعاقبت ستّ حضاراتٍ وسبع خراباتٍ على مالطا، وكل قوةٍ كانت تعدُ بالخلاص، فتترك وراءها رمادًا جديدًا... ولهذا اشتهرت باسم "خراب مالطا".

رحلتي إلى مالطا:

ربما سمعتم المثل الشهير 

كالذي يؤذن في مالطا "

فهو مثل ذهبت به الركبان ويعني مالاطائل من ورائه، فكما هو الشيء الذي لا فائدة منه فكذلك المؤذن في مالطا لن يجد له مستجيبا، ولاملبيا .

وهو اشارة في ان الاثر العربي الإسلامي في مالطا قد ذهب ولن يعود… 

لكننا سنبشركم وفي سياق روايتنا لهذه الرحلة فإنكم ستسعدون بسماع بشرى دخول الناس افواجا في هذه الجزيرة المتوسطية للإسلام .. 

 موقع جزيرة مالطا بين ايطاليا وتونس 

نحن هنا في جزيرة مالطا حيث تحيط بها امواج البحر المتوسط ، هنا حيث تتراقص أمواج التاريخ على شواطئ الجزر، تكمن مالطا، لؤلؤةٌ صقلتها أيادي الزمن وحفرت فيها قصصاً لا تُنسى. لقد كانت رحلتي إليها أكثر من مجرد استكشاف جغرافي؛ كانت غوصاً في أعماق الذاكرة، محاولةً لاستجلاء سرّ مثلٍ قديمٍ ظلّ يتردد على الألسن: "كمن يؤذن في مالطا". مثلٌ يُضرب للدلالة على العبث، على الفعل الذي لا طائل من ورائه، فكيف لأذانٍ أن يُرفع في أرضٍ غابت عنها أصداء التوحيد لقرون؟

زيارتي للمركز الاسلامي في مالطا وجامع مريم البتول. 

هذا التساؤل، الذي طالما راودني، وجد إجابته في رحاب المركز الإسلامي بمالطا، حيث التقيت بفضيلة الإمام والشيخ محمد السعدي

رجلٌ يحمل في عينيه نور الإيمان، وفي حديثه عبق التاريخ. لقد أكرمني ببحثٍ قيّمٍ خطّه بيمينه، كاشفاً عن فصولٍ منسيةٍ من تاريخ هذه الجزيرة. ففي عام 870 للميلاد، وطأت أقدام العرب الأغالبة، الذين بسطوا نفوذهم على تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا وصقلية وسردينيا، أرض مالطا، حاملين معهم راية الإسلام. وما هي إلا سنواتٌ حتى اعتنق المالطيون جميعاً هذا الدين الحنيف، وظلّوا على إسلامهم قرابة 380 عاماً.لكنّ أقدار الله شاءت أن تنقطع هذه الصلة الغامضة بالمسلمين في عام 1250م، تحت وطأة سيطرة النورمانديين، ثم فرسان القديس يوحنا، الذين بذلوا قصارى جهدهم لمحو كل أثرٍ إسلاميٍ من الجزيرة. وهكذا، خيّم الصمت على مآذن مالطا، وتوقف الأذان، وغاب ذكر الله عن أرجائها، وكأنّ الإسلام لم يطأ أرضها يوماً.ظلّ هذا الحال قائماً لقرونٍ ثمانية، حتى السبعينيات من القرن الماضي، حين امتدّت أيادي التعاون من ليبيا، عبر الزعيم الليبي القذافي، لمدّ جسور التواصل مع الجالية المسلمة. وبفضل الله ثم جهود جمعية الدعوة الإسلامية العالمية الليبية، تأسس أول مسجدٍ ونواةٍ إسلاميةٍ في مالطا عام 1982م. حينها، ارتفع الأذان من فوق مئذنة جامع مالطا المركزي، معلناً عودة الروح إلى جسدٍ طالما ظنّوه ميتاً.

 وكما قال الشيخ محمد السعدي، بكلماتٍ تفيض حكمةً: "لقد أصبح المثل المشهور 'كمن يؤذن بمالطا' في ذمة التاريخ!".مالطا، هذه الجزيرة الصغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها 470 ألف نسمة. منهم 38 ألف مسلم، غالبيتهم من الجاليات الأفريقية والشامية. أما المالطيون الأصليون، فقد بدأ الإسلام يدخل قلوبهم من جديد، فبعد أن كان عددهم 500 مسلم، وصل اليوم إلى حوالي 5000 مسلم مالطي، والحمد لله. ورغم هذا النمو، تواجه الجالية المسلمة تحديات جمة، فالمصليات الست الموجودة غير مرخصة، نظراً لصعوبة الحصول على التراخيص هنا. والحاجة ماسة لمسجد كبير يجمع شملهم ويسعهم. يسعى المركز الإسلامي، بصلاته الوثيقة مع الإدارة السياسية في البلاد، لتوسيع مطالبهم عبر استغلال أصواتهم الانتخابية، وقد نالوا شيئاً يسيراً بعد انقطاع الدعم المباشر من ليبيا بعد الثورة. ومؤخراً، حصلوا على مقبرة خاصة بهم، بعد أن كانوا يضطرون لدفن موتاهم في مقابر النصارى لفترة طويلة، وهو ما كان يثقل كاهلهم.وفي عام 1997م، تأسست مدرسة خيرية تضم الروضة والابتدائية وحتى الثانوية، لكن الظروف المالية القاسية أجبرتهم على إلغاء القسم الثانوي في عام 2017م، وهو ما ذكره إمام المركز الإسلامي بحسرةٍ وألم. وما زالت الخطى حثيثة لطلب أي معونة، سواء كانت معنوية أو عينية، لاستدامة العمل الخيري في هذه المنطقة التي كانت يوماً ما إسلامية بالكامل. إنها قصة صمودٍ وكفاح، تجسد إصراراً على إحياء جذوة الإيمان في أرضٍ شهدت فصولاً من النسيان.

حدثني الشيخ محمد السعدي عن المصاعب التي واجهتهم مع الانفراجات والبركات التي نالوها بنيتهم الصادقة، لتفتح لهم قلوب الساسة بالجزيرة ليأخذوا العون والتمويل بعد أن توقفت ليبيا عن المساندة نظراً للظروف التي ألمت بهم. وإحدى تلك الانفراجات حصولهم على أرض كبيرة لإنشاء مقبرة لهم بعد أن عانوا من دفن المسلمين في مقابر النصارى، والحمد لله.

ويتابع الأخ الفاضل الشيخ محمد السعدي بحديث شيق حول المركز، ببداية أيامه الذهبية، ومروراً بتوقف المعونات الليبية لتبدأ مراحل العناء والضنك بسبب الصعوبات المالية وتراكم الديون نتيجة عدم وجود دعم، وكاد المركز أن يغلق أبوابه في ظل تراكمات الديون وغلق صمام العطاء. فبدأت الصلة بين المركز ورجاله تخاطب ود رئاسة الوزراء، وخاصة أن النظام الديمقراطي يكفل لهم للحكومة والمركز التبادل المنفعي بحنكة وسياسة. 

وبعد حصول المركز على ولاء أكثر من أربعة آلاف مسلم مالطي الجنسية، خلاف الآلاف غير الحاصلة للجنسية الذين يقدرون بـ 38 ألف مسلم بالجزيرة، فقد كانت تلك الأربعة آلاف نفساً تحمل أربعة آلاف صوتاً مؤثراً في الانتخابات. وقد لعبها المركز صح، إن صح التعبير، وأخذ يلوح بها حينما زار رئاسة الوزراء قبل خمس سنوات، وحصل على تمويل بقرض لملم من خلاله بعض مصاعب ما يجد، وأكمل مسيرته رغم أنه تنازل بكون مديرة المدرسة (مدرسة البتول مريم العذراء) وهي برلمانية، استطاع من خلالها تأييد بقاء المركز كوجهة مالطية الإدارة، وكونها مديرة برلمانية تضمن إطار الإدارة الأمينة للمدرسة. ولكن تتراكم مرة أخرى الديون، ويأتي موسم آخر لتبدأ المساومة مع مرشح معارض مرشح للرئاسة، وجُلب كضيف، وتفاجأ بالأربعة آلاف صوت يقفون ملوحين تحت تصرف إدارة المركز، ليبدأ المركز بإدارة التعاون باحترافية، وأخذ وعوداً بقروض بلا ربا وإسقاط الديون الماضية. وهذا لم يكن صعباً للمعارض الذي كان نهماً لكل صوت، فوافق على الفور وتم والحمد لله فوزه، وقد أوفى بوعده وتوالت العطايا الربانية بفضله وإخلاص العاملين بالمركز، ليسهل الله لهم كل صعب ويفتح لهم كل باب موصود، فتأتي انفراجات متتالية . 

وأخذنا جولة بالمركز الذي يقع على شارع رئيسي في العاصمة فاليتا، وقد ضم للمركز المدرسة التي ذكرت بدورين، وقرب المركز مقبرة حديثة فرح المسلمون بها، مع مطعم ومكتبة قد حوت أفضل كتاب دعم للإسلام وأهله في ترجمة للقرآن باللغة المالطية ولأول مرة، وقد أشرف على التأليف رئيس كلية اللغات بجامعة مالطا وفضيلة إمام المركز الإسلامي الشيخ محمد السعدي، بعد أن ألف سابقاً ترجمة ليست مدققة ولم تكن بالمعنى الحقيقي لترجمة القرآن، إنما كانت لقسيس أراد تراجم توافق دينه في بعض ما جاء به القرآن وحوت أخطاء جسيمة. أما هذا فهو محقق وبإشراف شيخ وإمام المركز العربي الذي كان له بعد الله الفضل في التحقق منه وإيداعه وطباعته على نفقة المركز ليكون داعماً ومرجعاً للمسلمين في مالطا. كما بني المسجد الجامع بمبناه النموذجي من مسجد ومئذنة وساحة وبوابات ليكون نموذجاً بيناً لكل مسلم ومعلماً واضحاً بأن الإسلام هنا وهو باق. 

وقد بني المسجد مقابل الطريق العام فالكل يراه مع مئذنته الشامخة الوحيدة بالجزيرة والتي تعطي إشارة لوجود الإسلام وأهله بعد أن قضي عليه في فترة ليست بالقليلة وكأنهم لم يكونوا هنا ولم يكن أذان ومؤذن ولا مئذنة وجامع، فبعد انقطاع ألف عام هاهو يعود كما كان بفضل الله ورحمته، وجزى الله أهل الخير في ما هو قائم مع حاجتهم المعنوية والحسية في دعمهم وبقاء جذوة الإسلام الفتية لتبقى وهي أمانة فمن يشمّر ساعديه لها ويقول ها أنا ذا.

 فالباب مفتوحاً والعطاء سهلاً وميسراً فلا يتبقى إلا عزم الرجال وإرادتهم ليمدوا يد العون لإخوانهم الذين سيخدمون الدين بمقل أعينهم وبمهج قلوبهم وأولئك قد كفونا العناء في الإدارة والمكوث والجلوس بالجزيرة لتكون لهم مقراً وموئلاً، فمن لهم في الدعم والعطاء. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.


جولة استطلاعية لجزر مالطا: 

عين الرحّال لا عين السائح وبصفتي رحّالاً متجولا، يسعدني أن أبسط لكم مشاهداتي وملاحظاتي حول هذه الجزر المالطية الأربع، التي زرتها في صيف عام 1439هـ، الموافق يوليو 2018م. كانت الزيارة في أوج حرّها وشمسها الساطعة، فلم يكن التوقيت موفقاً البتة لمن يبحث عن الاستجمام والراحة. لكنني لست من هؤلاء؛ فهمّي الأول في ترحالي هو الاطلاع على التاريخ، وطبيعة الأرض، وحياة الناس الاجتماعية، وأنقل ما أراه بعين الرحّال، لا بعين السائح العادي. ولعلي أوفق في نقلٍ جميلٍ نافعٍ لكل من يقرأ ويتابع. وبسم الله وعلى بركة الله نبدأ رحلتنا المتوسطية الطراز.

بداية الرحلة: 

واستعدادٌ للمشي عبر تاريخٌ عريق تتبعت اثاره عبر الارض ومن خلال جدران ابنية الجزيرة .

كما ولكل رحلة بداية، فلكل بداية استعداد وتحضير جيد، لنستغل الوقت ونغطي ما نستطيعه من جولة سريعة عبر تخطيط يشمل الحزيرة واهم مافيها. 

كانت أربعة أيام، وأعتبرها طويلة لجزيرة لا يتعدى طولها 25 كيلومتراً. وبهذا الطول، تعتبر مالطا أصغر دولة مستقلة ومعترف بها عالمياً. وعلى الرغم من صغرها، إلا أنها تحوي تاريخاً كبيراً بتنوع الحضارات التي تناوبت عليها، من بداية الرومان المسيحيين في القرن الأول الميلادي وحتى القرن السادس الميلادي، حينما فتحها الأغالبة العرب ومكثوا بها 380 عاماً. ومن بعدهم أتى النورمانديون، ثم فرسان القديس يوحنا، وحتى حصار العثمانيين لهم عام 1565م، بقيادة مصطفى باشا وبيالي باشا ، ولم يدخلوها. ثم كان أول تدمير لها على يد نابليون الفرنسي، الذي مكث عامين من عام 1798م، وخربها، وهو المقصود بالمثل الشهير "خراب مالطا". ثم أتى الإنجليز وطردوا الفرنسيين عام 1800م، ومكثوا 166 عاماً، وكان لهم أيضاً جزء لا يخفى من التدمير والخراب، وأيضاً من التطوير والاستغلال للجزيرة ومواردها الاستراتيجية كموانئ تتحكم بوسط البحر المتوسط، .

وصلت للجزيرة عبر مطارها الدولي الوحيد الصغير، والذي يقع في منطقة (لوكا)، ويبعد عن العاصمة (فاليتا) مسافة مشي بالأقدام فقط، إذا عرفنا أن عرضها فقط 10 كيلومترات بالإضافة لطولها الصغير وهو 25 كيلومتراً. والمطار يقع وسط الجزيرة. استأجرت سيارة صغيرة للتنقل فيها وأخذ راحتي بالتوقف في كل مكان والدخول لكل مكان.

 وقد وصلت مساءً لأصل إلى سكني المحجوز مسبقاً في مدينة صغيرة ملاصقة للعاصمة فاليتا، وهي مدينة (سليمة). جلست هناك ليلتي الاولى في خليج سليمة والمطل على البحر، بسعر ليس رخيصاً لفندق من الدرجة الثانية، فالأسعار هنا نار.

 خلدت للنوم استعداداً ليوم ممتلئ بالاكتشافات الترحالية بإذن الله.

لغة مالطا: 

ان السامع للغات سكان جزيرة مالطا فهو حتما سيعرف ان تلك اللغة شاهدٌ حيٌّ على التاريخ العربي ، وإذا كنتم تلاحظون اسم المدينة التي سكنتها اسمها (سليمة) ، وهي واحدة من مدن عديدة ذات أسماء عربية، فأسماء المدن في الجزيرة غالبيتها عربية كاملة، كما هي لغتهم التي تحوي نحو 80% من مصطلحات اللغة العربية. ولا عجب حينما نعرف أن هذا الأمر حصل نتيجة الوجود العربي المكثف وتأسيس حضارة في تلك الجزيرة من كل شيء، ولمدة 380 عاماً، لتكون هي الأصل، رغم ما مر بها من تغيير الهوية وقلب الدين للنصرانية، كما حدث في الأندلس وأهلها. لكن هنا في مالطا اختلف الوضع، فبقيت اللغة وذهب الدين. والعجب أن المساجد لم يُرَ لها أثر، فقد اجتهدت على البحث عنها لكن لم أوفق بشيء، عدا أسماء (طريق المسجد) في مدينة "المدينة" العتيقة. فكنا نشاهد في الأندلس بقايا مساجد حُوّلت لكنائس، لكن هنا لا شيء البتة. ويحتاج الأمر بحثاً أكبر لنقف على هذا المسخ الذي لم يُبقِ رغم التاريخ الذي عاشه المسلمون ولثلاثمائة وثمانين عاماً من الإسلام لجميع أهل الجزيرة، وبهذا الغموض انتهى كل شيء.

نرجع للغة التي بقيت شاهداً وحيداً حياً للتواجد العربي الإسلامي عبر الأغالبة، والذين امتد حكمهم أبعد من مالطا، فوصلوا صقلية وأسسوا حضارة هناك رأيت بعضها بزيارتي الأخيرة، كما حكموا كريت اليونانية أيضاً، بالإضافة لوجودهم الأصلي في تونس وغرب ليبيا وشرق الجزائر. فنجد أن بقاء اللغة في أسماء المدن الكثيرة، ولنأخذ مثلاً أكبر وأقدم مدينة والتي سميت (مدينة)، وكانت العاصمة للحكم في قديم الزمان، وبقيت حصونها وأزقتها، وفيها وجدت طريق المسجد بدون مسجد. كما توجد هناك مدن عربية الاسم مثل (مليحة، ومرسى، وزيتونة، والرباط، والناظور، وعين سالم، وغيرها العشرات). كما أن أسماء العوائل فيها أيضاً بقيت كما هي عليه مثل الأسر (عبدالله، وأبوحجر، وكسّار، وأبودجيج... إلخ)

وأهم مصطلحات الكنيسة لديهم فيها عربية مثل (الكنيسة، الله، الشيطان، قسيس، راهب، ذنوب، ومغفرة، وصوم، ورمضان... إلخ).

 وأما الأعداد فبقيت كاملة عربية من الواحد إلى المليون، لكن بلكنة تشبه اللبنانية مع تحريف مغاربي للغة أو نحت الكلام وأكل بعضه، فكلمات مثل (اليوم ، عشية ، نراكم ، انزل ، اصعد ، تريد ، تشرب ، تاكل)  كلها من لغتهم، لكن يحتاج السامع العربي الزائر ولكي يعرف الكلمة من ان يدقق بين الحروف ليفهم المعنى.

زيارة الجزء الشمالي من الجزيرة:

 من "سليمة" إلى "غودش" ، وبدأت جولتي من سليمة، لأتجه غرباً عبر طرقٍ ضيقةٍ جداً، بعضها لا يكفي لسيارتين، ويحتاج المسافر – إن كانت طرقهم تحمل اسم الطرق ، لأن المسافات هنا تُقدر بالأمتار لا بالكيلومترات – إلى حذرٍ شديد. 

مررت على مدنٍ صغيرةٍ مثل "تلة أبي جبه" و"بئر كركرة" و"وادي بوجبه"، ثم "وادي زجيج" فـ "الرباط" ، حتى وصلت إلى مدينة "المدينة"، التي تعلو "تلةً عاليةً" ، وقد ظهرت بأبهةٍ وشموخٍ واضحٍ من بعيد. كانت هي أول محطٍ لي بعد مروري على المدن الصغيرة ورؤيتي لطبيعة المكان وطرق بنائهم التقليدية بالحجر الطباشيري الأصفر المستخرج من مناطق عديدة بالجزيرة، ومنها "محجر سويقة" الذي مررت عليه ورأيت الحفر العديدة التي اتخذت بعضها مزارع، مع قلة مزارعهم، فمالطا ليست أرضاً زراعية، وكل ما فيها عبارة عن مزارع أهلية صغيرة لا تكاد تفي بمتطلبات أهل الجزيرة، ولكنها شيء من لا شيء.

وقد حُميت تلك المزارع بثمايل (سور حجري) بارتفاع بسيط، متر إلى متر ونصف، وقد حُفرت الآبار لجلب المياه السطحية للزراعة. كما أن جلّ بيوتهم قد استخدمت الحجر الطباشيري الهش، وهو الموجود فلا يوجد بالجزيرة غيره، مع استخدام بعض الأخشاب المستوردة لبناء الأسقف، وإن كانوا لا يستخدمونها إلا قليلاً، نظراً لتطور بنائهم منذ الفترة العربية، والتي أخذوها منهم كالبناء الدمشقي في استعمال الأقواس واعتماد السقف عليها ليتحمل التراب فوق تلك الأقواس المبنية من الحجر. ولم يكن بناؤهم بدائياً أبداً، بل إن البناء بطرازه العربي مع بعض التغيرات الناشئة من قدوم الطراز الإيطالي والفرنسي على الجزيرة قد أثر فيها، خاصة إذا ما نظرنا لبناء الكنائس وكون مرجعيتها في البناء إما إيطالية أو فرنسية أو من دول حوض البحر الأبيض المتوسط عموماً.

زيارة أجمل مدن مالطا "لا مدينة":

ان مدينة "لا مدينة" تعد تحفة معمارية ربما تُعتبر مدينة المدينة، وحسب مشاهدتي لها، نموذجاً للطراز المالطي بكل ما تحمله من تصاميم عربية أوروبية متداخلة. فهي أفضل نموذج للبناء في جزيرة مالطا، ولا نجده في غير مدينة المدينة. فقد بقيت صامدة حتى اليوم لأي تغيير، وبعيداً عن مدافع نابليون الذي حطم العاصمة فاليتا، كون فاليتا على البحر مباشرة، ونجت المدينة لبعدها عن الحروب. كما توجد مدينة "فيكتوريا" في جزيرة "غودش" أيضاً، فيها بعض مما تبقى، لكن ليست بعظم "المدينة" وبنائها وسورها وارتفاعها.

          احد بوابات مدينة "لا مدينة"

دخلت المدينة من إحدى بواباتها الفريدة، ومن نفق ضيق يتبعه بوابة مزدوجة الأبواب، كما خرجت من بوابة فريدة أيضاً ذات أبواب مزدوجة يتبعها جسر تحته نفق، وكلا البابين منيعين بطريقة فذة لمنع الأعداء من الدخول بسهولة لأم المدن المالطية.

            هذه احد مداخل المدينة 

 دخلت لأزقتها المتنوعة بين الضيقة والواسعة، فالضيقة يصل عرضها أقل من متر، وأكبرها يصل لثلاثة أمتار، مع وجود ساحات داخلها سميت بلازا، إحداها للكاتدرائية الكبيرة، وأخريات للجهة المطلة من تلتها العالية للوادي، وبعض تلك الساحات في البوابة الوسطى.


 ومررت من أحد طرقها وما زالوا يطلقون على الطرق طريق، وقد كتب طريق المسجد، حاولت أن أستشف من مشاهدتي لأي مبنى قد يكون هو ذلك المسجد، لكن للأسف لم أفلح، فلربما كان التغيير جذرياً لمساجد مالطا بحيث لا يستطيع أحد التمييز بكونه مسجداً من غيره.وأخذت أتجول في الأزقة والبيوت وبين الساحات والطرق. 


 وبوابات ليست غريبة علي في تصميمها أو الستر الذي ما زالوا عليه من وضع الستائر خارج الأبواب لكي تمنع المتطفلين من أخذ نظرة أو كان الباب مفتوحاً. كما أن بعض الأبنية ذات ضخامة من أبوابها إلى سقوفها، ولعلها لعلية القوم، ورأيت بعض قصورها المترفة في البذخ من ناحية التصاميم وجود النوافير رغم قلة المياه لديهم، مع زخارف واضحة لبعض المباني، وكلها قد بنيت من الحجر نفسه الذي تبنى فيه منازلهم حتى اليوم. وقد رصفت الطرق بالحجر مع وجود الإنارة القديمة المجددة والشبابيك المحمية بالحديد المشغول بعناية.


 تذكرت وأنا أتمشى فيها مدينة القيروان بتونس، ففيها تشابه لبعض التصاميم. وفي أحد منازلها القديمة تناولت الغداء، وهو عبارة عن طبق يشبه البيتزا لكن الخبز فيه كبير الحجم مع قلة الجبن. ثم خرجت أتفقد السور والبوابات حتى خرجت منها متوجهاً للغرب عبر طرقها الضيقة مرة أخرى.

             قرية بباي السينمائية 

قرية بباي: 

مفاجأة سينمائية حين وصلت إلى الغرب من الجزيرة، وقبل أن أصل إلى مدينة مليحة، وصلت إلى خليج ضيق جداً، وفي جدار الجرف قد بُنيت قرية من الخشب. كنت أظنها من تاريخ الجزيرة، لكنني دققت فيها فإذا بها نوع من القرية التي بُنيت لعمل فيلم سينمائي، وبُنيت على شاكلة أفلام الكرتون. وحين انتهوا، قرروا إبقاءها لتكون منتجعاً بحرياً لقربها من شاطئ جميل، مع أنشطة بحرية، ومع ما تحتويه القرية من مقاهي ومطاعم للعوائل. ولها إطلالة من فوق، ولكونها صغيرة، فيمكن احتواؤها بصورة واحدة، وهي حقاً جميلة بتصميمها وكأنها حقيقية. 

 من الكهوف المنتشرة بالجزيرة بعضها بحري والآخر جبلي. 

وأكملت مسيري نحو "مليحة" ومنها إلى جزيرة غودش وعبورٌ إلى عالمٍ آخر ، فحينما وصلت "مليحة"، كانت المدينة من المدن المشابهة لما سبقها، مع كونها ميناءً للعبور منها إلى الجزيرة الثانية غودش، ومن الميناء الحديث ذي المراكب الحديثة.

 ومن ذلك المنزل المالطي ذي العمر الذي يفوق 400 عام، والذي مكثت فيه ليلة واحدة ممتعة بإطلالته المميزة لجزر كمونة وكيمونة وخليج الكريستال المميز.

زيارة معالم جزيرة غودش: 

سحر الطبيعة وجمال التكوينات… 

بعد إفطار منزلي في ذلك المنزل البديع، أخذت جولة مشياً على الأقدام لشاطئ مفعم بالأنشطة البحرية لقربه مني.

 إلى المعلم الأول خليج الكريستال: 

شاطئ وشفافيةٌ تأسر الألباب

 كان الوصول إلى الهدف، وهو المكان القريب للسكن والمسمى (خليج الكريستال)، وسمي بذلك نظراً لشفافية الماء وتلونه بألوان بهية فيروزية قلما تجد مثلها، بسبب أرضية الخليج الرملية البيضاء وصفاء المياه بسبب الأحجار، وكونها منطقة شبه مغلقة بين جزر "كمونة وكيمونة". وصلت إلى الساحل، وهناك تُؤجر القوارب والدبابات البحرية بنظام اليوم الكامل أو نصف يوم أو بالساعات، ويبدأون من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساءً. 


أخذت لي قارباً لساعة تكفيني، فلست راغباً بالسباحة ولكن للاطلاع فقط. ورأيت التكوينات المميزة من كهوف وأقواس وفوهات شكلها موج البحر والرياح، فشكلت صورة بديعة لغابة من التشكيلات الصخرية التي لكل منها شكل وجمال بديع، مع مياه البحر الصافي وألوانه شكلت تناغماً متجانساً بديعاً. ثم انتهيت من الزيارة لأرجع إلى النزل وأخذ دوش ثم أعمل خروجاً، كوني سأبيت الليلة في العاصمة في الجزيرة الأم (مالطا).


والآن إلى المعلم التالي:

كهوف شاطئية ورأس الملح، أسرار الأرض وكنوزها. 

استقليت سيارتي لأنطلق عبر قرية "غودش"، لنكرر المسير عبر الطرق الضيقة مرة أخرى، ونصل إلى موقع أحد المداخل الغريبة للشاطئ الأحمر، وسمي أحمراً كون رماله حمراء على غير العادة للرمال الصفراء والبيضاء التي تكوّنت منها غالب شواطئ مالطا. والكهف له إطلالة بديعة مع مدخل لا يعرفه إلا أهل المنطقة، فقد تم شق الصخر من قمة التلة ليتم دخوله، ويظهر من خلال فتحة كبيرة شاطئ فريد أحمر برماله. والكهف وجدت فيه بعض البناء، وربما كان يستخدم لأغراض بشرية، فهناك وجار للنار وطابوق من الحجر صُفّ بشكل بناء لكن تهدم أغلبه. أخذت الصور منه لأنتقل إلى المعلم الآخر. 

رأس الملح: 

 ولا يبعد إلا بضعة أمتار، فنحن في جزيرة غودش، لنا في الجزيرة الكبرى مالطا ذات الـ 25 كيلومتراً طولاً و8 عرضاً. فهنا جزيرة غودش طولها 10 كيلومترات والعرض 6 كيلومترات فقط لا غير. وصلت إلى منطقة برك وأحواض الملح المنتشرة بشكل كبير، فالملح هنا له استعمال ويُصدر كسلعة مهمة في وقت ما. 

           برك الملح في رأس الملح 

وقد استغل السكان المحليون بوجود شاطئ مرتفع قليلاً عن البحر ويغذي الأحواض أمواج البحر المتلاطمة لتقبع في الأحواض ريثما تتبخر المياه لجمع الملح الناشف، وبعض ما يميز الملح هنا هو احتوائه لبعض المعادن ذات اللون الوردي المحمر، وهو مطلوب عالمياً نظراً لفوائده الصحية.

 أخذت الصور مع ما أردت من معلومات لأنطلق لمعلم آخر يبعد أمتاراً من مكاني.

كهوف وتضاريس وفوهات بحرية عملاقة: إبداع الخالق تتجلى في خلقه سبحانه… وصلت إلى منطقة في أقصى الجزيرة من الغرب لأصل إلى تكوينات صخرية بديعة من أقواس وكهوف متنوعة منها (كهف الريح) مع فوهات بحرية زرقاء غامقة نظراً لعمقها الكبير، وهي تعتبر موئلاً سياحياً شهيراً بالجزيرة، ويأتيه السياح ركوباً بالقوارب أو عبر الطرق الضيقة بالسيارات. وكالعادة، أخذت ما أردته من صور وتأمل بطبيعته البديعة، ثم إلى الوجهة التالية. 

عاصمة غودش فيكتوريا، مدينة التاريخ 

عاصمة غودش كانت فيكتوريا، ولعل هذه المدينة التاريخية بما تحمل من معالم واضحة من أبنية بُنيت من الحجر المالطي الأصفر، وقد زُينت بعض الكنائس ببعض الإضاءة، فهنا لديهم لكل كنيسة احتفالاً بنشأتها، وقد مررت بإحداها وقد كتب عليها باللاتيني (125 sana muabrka) وتعني كما هو واضح احتفالاً بنشأتها والمباركة بكلمات عربية. ومررت بعدة كنائس بنفس الشكل، وبعضها غالى في الزينة بوضع الكشافات ووضع التماثيل التي تمثل فرسان القديس يوحنا كرمز لحمايتهم الجزيرة على مر الدهور.

          فكتوريا عاصمة غودش

 وها أنا أنتهي تقريباً، عدا مروري بمنطقة ذات مطاعم جيدة مع إطلالة للبحر لأتناول غدائي فيها، ثم أنتقل إلى الميناء حيث فتحت إحدى السفن ثغرها لتبتلع السيارات بعد أن دفعت مبلغ 16 يورو ثمن الخروج من الجزيرة، وطبعاً الدخول مجاناً، لكن لا بد لك من خروج فيستلمونك هنا. ركبنا السفينة وعبر ربع ساعة نحن في مالطا الجزيرة الأم، لأتجه مباشرة إلى العاصمة فاليتا.

 وصلت إليها لأقف في أحد المنازل الذي استأجرته بمبلغ 90 يورو، ويعتبر هذا السعر رغم غلائه إلا أنه متوسط جداً. فمالطا السكن فيها والتنقل والسوق عموماً غالي جداً مقارنة بإيطاليا مثلاً وهي جارتها الشمالية. جلست هناك مع موعدي لزيارة المركز الإسلامي في عصر هذا اليوم إن شاء الله. فإلى هناك.

رواية الرحّالة... وذاكرة الجزيرة المنسية… 

كنت أظنني زائرًا عابرًا، أمشي في طرقات فاليتا وكأنني أقرأ قصيدة لاتينية على أطراف البحر، لا شأن لي بغير المعمار والهواء المالح، إلى أن وقفتُ بين أنقاض قصر قديم، وسمعت الندبة في جدار.

قال لي أحد الشيوخ المالطيين: "أتعرف لماذا لا نتقن الضحك؟ لأننا لا نتقن النسيان…

"أجبتُه مبتسمًا: "بل أنتم لا تنسون لأن في أعماقكم عربًا يعرفون الحنين حتى وهم لا يعلمون لماذا."

في الأزقة الضيقة، تنساب كلمات تشبه لهجات الجنوب العربي، وفي طعامهم أثر من موائد الأندلس، وفي قلوبهم غصّة الغريب الذي لا يُغادر.

كنت أبحث عن مقهى يشبه قلب الوطن، فوجدت قبوًا مليئًا بالصور والظلال. رجلٌ هناك يعزف على العود المالطي أنغامًا تشبه مقام الحجاز... لم يكن يعرف أنه يعزف من ذاكرتنا.

تركت مالطا وقد خبأت في دفتري شيئًا من رائحة الجدران القديمة، ودمعة لم تجفّ منذ قرون. كتبتُ بخط مرتعش على هامش الميناء: 

"هنا، في هذا الخراب المتكرر، لم تمت الأرواح، بل تنكّرت في صمت الحجارة... ونسيتُ أن أقول لهم: إن مالطا كانت يومًا عربية، وإن من يُهمل جذوره، يحيا غريبًا ولو في أرضه."

وغادرتُ... كأنني أترك رسالة في قارورة، وأدفع بها إلى موج البحر، لعلّها تصل يومًا إلى من يعيد لمالطا اسمها العربي وذاكرتها المفقودة.

ها أنا أغادر الجزيرة، ومعي حقيبةٌ من الملح، واللغةالركيكة ، مع حسرة ودهشة.
أغادرها، وفي أذني رنين جملةٍ من عجوزٍ مالطية قالتها لي بعربيةٍ مكسّرة:
"إحنا عرب… بس ناسين."
وربما كانت تلك الجملة خلاصة كل ما في الجزيرة.

بل كانت رحلتي إلى مالطا ليست سياحةً، بل كانت عودةً إلى ماضٍ خفيّ تحت حجارةٍ ناعمة، ورحلةً في ذاكرة اللغة والارض. خرجتُ منها وأنا أعلم أن العروبة ليست جغرافيا فقط، بل طيفٌ يسكن التفاصيل، وإن غابت الأعلام والرايات.

وعدتُ من هناك، لا أحمل صورًا فقط، بل أحمل سؤالًا…
هل تموت العروبة حين تنسى لغتها؟ أم تبقى حيّة في تضاريس الأرض، وأسماء القرى، وملوحة البحر؟

من رحّال الخبر، وهذه حكايتي في جزيرةٍ عربيةٍ أوروبيةٍ غريبةٍ التفاصيل… جزيرةٍ لا تزال تبحث عن نفسها.