جولة رحّال داخل الصين ومحاولة لفهم وطبيعة التركيبة العميقة للشعب الصيني بنظر رحّال وليس بنظر سائح .
وساتناول هذا الموضوع ضمن خمس من المناحي الايضاحية لهذه التركيبة.
وسابدأها بتنوع الشعب الصيني وتكوينه القبلي ، ثم علاقة تلك المجتمعات مع بعضها. وثم علاقة المجتمع الصيني مع كل من حوله بالعالم ، وبعدها ساتطرق الى ملامح سلوكية قد تكون غريبة لمن يزور الصين ولم يلحظها ، واخيرا الخلاصة التي وصلت أليها ، والى التفاصيل…
أولاً: تنوّع الشعب الصيني وتكوينه القبلي والإثني
رغم أن الصين تُقدَّم للعالم كأمّة واحدة موحّدة، إلا أنها في عمقها فسيفساء من القوميات والقبائل التي تنصهر في بوتقة الدولة الحديثة:
الأغلبية الهان (Han):
يمثلون نحو 92٪ من السكان، ويُعدّون العمود الفقري للثقافة الصينية، من اللغة إلى الفنون والعادات.
يُعرف الهان بانضباطهم، وولائهم للأسرة، وحبهم للعمل، وبنظامهم الاجتماعي الدقيق الذي يقدّم الجماعة على الفرد.
القوميات الـ 55 الأخرى:
منها الويغور في تركستان الشرقية (شينجيانغ)، والتيبت في الهضبة الغربية، والزوانغ، والمنشور، والمغول، والكازاخ، والهوي (المسلمون الصينيون).
كل مجموعة تحمل مزيجًا من العادات واللغات والمعتقدات والموسيقى والملابس.
بعض القبائل ما زالت تحافظ على نظامها الأمومي مثل قبائل الموسو Mosuo في مقاطعة يونّان، حيث تُنسب الأنساب إلى الأم، وتُعتبر العلاقات الزوجية حرة نسبيًا — وهو أمر يثير دهشة الزائرين من العالم الإسلامي والغرب على حدّ سواء.
🀄 ثانيًا:
علاقة المجموعات ببعضها داخل الصين
التعايش والتنافس:
يعيش الجميع تحت سلطة مركزية قوية تشجّع على الوحدة الوطنية، لكنّ التنوّع العرقي أحيانًا يولّد توتّرًا ثقافيًا مكتومًا، خاصة في المناطق البعيدة مثل التيبت وشينجيانغ.
التمازج الثقافي:
المدن الكبرى مثل شنغهاي وغوانزو وبكين صارت بوتقة تصهر كل الأعراق، حتى تكاد لا تميّز الأصل من اللهجة.
العائلة كوحدة مقدسة:
بغضّ النظر عن الأصل، تقديس العائلة والآباء هو الرابط الذي يجمع الصينيين كافة، حتى أصبح من سماتهم الأبرز عالميًا.
🌏 ثالثًا:
علاقة الصينيين بالآخرين
1- مع الجيران الآسيويين:
العلاقة مع اليابان وكوريا مشوبة بالمنافسة التاريخية والاحترام المتبادل — فهم أبناء حضارة الكونفوشيوسية نفسها.
مع الهند هناك توتر حدودي، لكن تبادل ثقافي قديم يعود إلى طريق الحرير وانتقال البوذية.
مع روسيا ومنغوليا علاقة براغماتية يغلب عليها البعد التجاري والاستراتيجي.
2- مع العالم العربي والشرق الأوسط:
علاقة تقوم على الاقتصاد والاحترام المتبادل أكثر من الفهم الثقافي العميق.
الصين ترى في العرب “بوابة للطاقة والأسواق”، والعرب يرون فيها “قوة اقتصادية بلا استعمار”.
المسلمون الصينيون (الهوي والويغور) يشكلون جسرًا روحانيًا وثقافيًا بين الجانبين، رغم تعقيدات الواقع السياسي.
للعرب حضور قديم في الصين منذ القرن السابع الميلادي، خاصة في مدن مثل قوانغتشو وشيان حيث بُنيت أولى المساجد في شرق آسيا.
3- مع الغرب:
علاقة مركّبة من الإعجاب والريبة؛ فالصيني يحترم تفوق الغرب العلمي، لكنه لا يعترف له بالتفوّق الأخلاقي أو الحضاري.
الغربيون غالبًا يُدهشون من انغلاق الصينيين على خصوصيتهم الاجتماعية، حيث يندر أن يُدخل الصيني الغريب إلى بيته.
🧧 رابعًا:
ملامح سلوكية غريبة أو مدهشة للغرباء امثالنا…
1- حب الصمت والانضباط: الصيني يفضّل الفعل على القول، وغالبًا ما يبتسم بدل الجدال.
2- ثقافة الجماعة:
لا يقدّم نفسه كفرد متفرّد بل كجزء من منظومة — حتى في العمل والسفر والصداقة.
3- تقديس الوقت والإنتاجية: فيُعتبر التأخير وعدم الدقة قلة احترام.
4- تجنّب المواجهة العلنية:
يسمّونها “حفظ الوجه” (Mianzi) أي حفظ الكرامة الاجتماعية، لذا لا ينتقدك مباشرة.
5- عادات الطعام:
يأكلون كل ما يُظن أنه لا يُؤكل، لكن في الغالب عن فلسفة قديمة تعتبر كل كائن دواءً من نوع ما.
6- الزواج والإنجاب:
تُحدده العائلة لا المشاعر، رغم أن الجيل الجديد بدأ يتغيّر.
7- التعامل مع الغرباء:
في البداية يبدو التحفّظ، لكن إذا كسبت ثقته، صار وفيًّا لأبعد الحدود.
🏮 خامسًا: الخلاصة الفكرية المستخلصة لفهم شعب الصين.
> الشعب الصيني يشبه نهر اليانغتسي: واسع، متعدد المنابع، لا يُدرَك من نظرة واحدة.
قد تراه ساكنًا، لكنه يحمل في العمق طاقةً هائلة من الصبر، والالتزام، والإيمان بالعمل كعبادة دنيوية.
ومع أنه يبدو مغلقًا أحيانًا، إلا أن جوهره الإنساني منفتح على السلام والتعايش، ما دام الآخر يحترم حدوده وثقافته.
[١٦/١٠، ١٠:٥٧ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: *الجانب الإنساني والتاريخي من حضارة مسلمي الصين قلّ من يتناوله بدقّة.*
واقدم إليكم عرضًا موجزًا ومنظّمًا يبيّن جغرافية المسلمين في الصين، وتاريخهم، ومعاناتهم وجزء من الذي رأيته وزرته في هذه الرحلة ورحلات ماضية بين مقاطعات شينغيانغ و ينغشي وزيزانج وتشينغهاي وتشينغي وخبي وغيرها…
ولتكوّن رؤية شاملة ومختصرة:
🕌 أولًا: خريطة توزّع المسلمين في الصين
يقدَّر عدد المسلمين بنحو 25 إلى 30 مليون نسمة، موزّعين على أكثر من عشر قوميات، أهمها:
1- الهوي (Hui) – يعيشون في جميع أنحاء الصين، خاصة في مقاطعات نينغشيا، غانسو، ويونّان.
أصلهم من تزاوج العرب والفرس والترك الذين قدموا عبر طريق الحرير منذ القرن السابع الميلادي.
يتميّزون بانسجامهم مع الدولة الصينية مع حفاظهم على الإسلام والعادات العربية (العمامة، المساجد، اللغة العربية الدينية).
2- الويغور (Uyghur) – يعيشون في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) غرب الصين، قرب حدود كازاخستان.
أصولهم تركية، لغتهم قريبة من الأوزبكية.
يعانون من قيود شديدة على العبادة والتنقل والتعليم الديني منذ عقود، وتخضع منطقتهم لرقابة أمنية مكثفة.
الثقافة الويغورية غنية بالموسيقى والرقص والمأكولات المشابهة لآسيا الوسطى.
3- الكازاخ والقيرغيز والطاجيك – في أقصى الشمال الغربي قرب جبال تيان شان والحدود مع آسيا الوسطى.
قبائل رعوية إسلامية، متأثرة بثقافة البدو الرحّل.
يعيشون في مناطق جبلية، ومعاناتهم أقل من الويغور لكنّهم مراقبون بشدة.
4- السالار (Salar) في مقاطعة تشينغهاي شمال غرب البلاد.
أصولهم من التركمان، ويتحدثون لغة تركية قديمة.
يُعرفون بتمسّكهم بالإسلام وبتشييد مساجد جميلة صغيرة الطراز.
5-الباوان والبوهي والمغول المسلمون في غانسو ومنغوليا الداخلية.
تأثّروا بالبوذية المحيطة لكنهم حافظوا على صلاتهم الدينية.
6- مسلمو يونّان (Yunnan Muslims) – في الجنوب الغربي قرب ميانمار ولاوس.
مزيج من الهوي والأقليات المحلية، شاركوا تاريخيًا في التبادل التجاري مع العرب والهنود.
كثير منهم هاجر إلى بورما وتايلاند بعد الثورات في القرن التاسع عشر.
🧭 ثانيًا:
المعاناة عبر التاريخ
1- العصور الإمبراطورية:
المسلمون حظوا باحترام في عهد أسرتي تانغ ويوان بسبب دورهم التجاري والعلمي.
لكنهم تعرّضوا لاحقًا للقمع في فترات أخرى، خاصة بعد تمردات القرن التاسع عشر (مثل ثورة دو ونشيوان في يونّان وثورة دنغن في غانسو).
2- القرن العشرون:
بعد قيام الصين الشعبية عام 1949، اعترفت الدولة رسميًا بالإسلام كدين معترف به، لكن السيطرة الحكومية على المؤسسات الدينية كانت كاملة.
فترة “الثورة الثقافية” (1966–1976) شهدت تدميرًا للمساجد والمخطوطات ومنع الشعائر.
3- العصر الحديث:
اليوم يتمتع المسلمون بحرية محدودة ومراقَبة.
في المدن الكبرى تُسمح المساجد بهدوء، لكنّ التعليم الإسلامي المستقل مقيّد.
الويغور يواجهون أشدّ القيود: إعادة التثقيف الإجباري، مراقبة الاتصالات، وتقييد التنقل.
أما الهوي فمقبولون اجتماعيًا أكثر لأنهم لا يطالبون بالاستقلال ويستخدمون اللغة الصينية.
🌍 ثالثًا: الأثر الثقافي والديني للمسلمين في الصين
أدخلوا إلى الصين الطب العربي، والفلك، والتجارة البحرية.
بنوا أقدم المساجد في شرق آسيا مثل مسجد هوايشن في غوانغتشو ومسجد شيان الكبير.
كانوا جسرًا بين الحضارة الإسلامية والشرق الأقصى عبر طريق الحرير.
ما زال طعامهم (الحلال، النودلز اليدوي، خبز النان) جزءًا محبوبًا من المطبخ الصيني العام.
🕊️ رابعًا: خلاصة فكرية
> المسلمون في الصين يشكّلون خيوطًا دقيقة في نسيج حضارة ضخمة؛
بعضهم مندمج في الجسد، وبعضهم غريب في روحه،
لكنّهم جميعًا يحمِلون نورًا عربيًا تركيًّا فارسيًّا لم يخمد رغم العصور والضغوط.
هم أبناء طريق الحرير، ما زالوا يسيرون عليه… ولكن بأقدامٍ أثقل وخطواتٍ صابرة.
✍️: الرحال وائل الدغفق1447هـ
[١٦/١٠، ١١:٢٤ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: رحلات رحّال الخبر في الشرق الأقصى»، وقد تضمّنتُ فيها التوثيق الجغرافي والوصف الحسي لمساجد وأسواق قومية الهوي، مع روح السفر والتأمل التي تميّزنا فيها.
*🕌 قوم الهوي... حين يتحدث الإسلام بلهجة صينية*
في شمال الصين، حيث يتلوى النهر الأصفر بين التلال الطينية، تمتد أرض نينغشيا كواحةٍ صغيرة في قلب الإمبراطورية الكبرى.
حين تطأها قدماك تشعر أنك لا تسير في الصين فحسب، بل في فصلٍ نادر من تاريخ الإسلام، ذلك الذي لم يُكتب في مكة أو بغداد، بل كُتب بحروفٍ صينية على جدران المساجد القديمة.
🌏 رحلة إلى الشرق الذي صلّى غربًا
وصلتُ إلى نينغشيا عبر قطارٍ طويلٍ يشقّ أراضي الشمال الغربي، تمرُّ بك الحقول المصفّرة والقرى التي ترفرف فيها أعلامٌ خضراء صغيرة فوق القباب.
كل محطةٍ تبدو وكأنها تستقبل ضيفًا من التاريخ فهنا مرّ التجار العرب والفرس الذين جاؤوا منذ أكثر من ألفٍ وثلاثمئة عام يحملون العطور واللؤلؤ والقرآن.
على طريق الحرير، عبروا من سواحل قوانغتشو وتشوانتشو إلى عمق الصين، حيث تركوا وراءهم أسماءً عربيةً كُتبت بخطٍّ صيني على شواهد القبور القديمة.
في تلك الأزمنة البعيدة، كان الإيمان يسافر مع القوافل، لا مع الجيوش.
ولذلك، حين وُلد شعب الهوي، وُلد من رحم التجارة والمودة، لا من فتوحاتٍ ولا حروب.
🕋 من المغول إلى الهان... اندماج دون ذوبان
في القرن الثالث عشر، حين اجتاحت جيوش المغول آسيا الوسطى، كانت تفتح الطرق التجارية والقلوب معًا.
جاء المسلمون من بخارى وسمرقند وهرات إلى أراضي الصين، واستقر كثير منهم في نينغشيا وقانسو وشنشي.
ومع مرور السنين، تزاوجوا مع الصينيين من قومية الهان، فأنجبوا أبناءً عيونهم شرقيةٌ، لكن قلوبهم تتجه غربًا نحو الكعبة.
هكذا نشأت هوية الهوي ليست قومية دمٍ، بل قومية إيمانٍ وثقافة.
يتحدثون الصينية، لكنهم يبدأون طعامهم بـ «بسم الله»، ويُغلقون يومهم بالدعاء على سجادةٍ في زوايا بيوتهم.
وفي حفلات الزواج، يختلط صوت المزمار الصيني بنغمات الأناشيد الإسلامية، كأن ثقافتين تصليان معًا صلاة الجماعة.
🕌 نينغشيا... وطنٌ بلا منفى
حين دخلتُ مدينة ينتشوان عاصمة نينغشيا، شعرتُ أني في مدينةٍ مزدوجة الهوية: فواجهات المتاجر صينية الخط، لكن تحتها عبارات بالعربية: مطعم حلال – السلام عليكم – لحوم طازجة.
في الأسواق القديمة، تلتقي رائحة الكمون الصينية مع طهو اللحم المشوي على الطريقة البخارية، وتسمع أذان المغرب ينساب من مكبراتٍ معلّقةٍ فوق أبواب الطين.
أهل نينغشيا لا يتحدثون كثيرًا عن تاريخهم، لكنه حاضرٌ في ملامحهم.
في كل مسجدٍ حكاية:
في مسجد تشونغوي ترى القباب البيضاء تتناغم مع السقوف الخشبية الحمراء في لوحةٍ لا تشبه إلا الهوي أنفسهم.
وفي مسجد شياهو، يمتدّ محرابٌ نحته الحرفيون الصينيون بدقةٍ مذهلة، لكنه يتجه تمامًا نحو مكة.
🏯 بكين... حين يلتقي الأذان وناطحات الزجاج
من نينغشيا إلى بكين، تأخذك رحلة القطار إلى قلب المدينة الصاخبة، وهناك، وسط الأبراج والمراكز التجارية، يقف مسجد نيوجيه كأقدم شاهدٍ على الإسلام في العاصمة.
تخطو بوابته الخشبية التي كُتبت عليها عبارة «الله أكبر» بخطٍّ عربيٍّ مذهبٍ داخل إطارٍ صينيٍّ من الزخارف التنينية.
وحين يرتفع الأذان بين ضجيج السيارات، تشعر أن الزمن انحنى احترامًا لقرونٍ من التعايش.
في باحة المسجد، يجلس شيخٌ من الهوي يشرح لتلاميذه بالعربية كلماتٍ صينية، ويبتسم قائلاً:
> "الإسلام لا يحتاج لغة، بل قلبًا يعرف الطريق إلى القبلة."
🌙 هوية متجذّرة رغم العواصف
مرّت قرونٌ شهد فيها الهوي محنًا وأحداثًا مؤلمة، من تضييقٍ سياسي إلى ثوراتٍ متقطعة، لكنهم ظلّوا على عهدهم مع الله.
في القرى البعيدة، كانت النساء يعلّمن أبناءهن الوضوء سرًا في فترات المنع، ويُخفين المصاحف في صناديق الشاي القديمة.
حتى اليوم، حين تلتقي أحدهم في قانسو أو يونان أو خنان، تشعر أن الإيمان ما زال حيًّا في ملامحه الهادئة.
🌸 شعبٌ يجمع النقيضين
من أجمل ما يميز الهوي أنهم يعيشون التوازن النادر بين الإيمان والانتماء، بين الأصالة والانصهار.
هم مسلمون تمامًا، وصينيون تمامًا — يقرأون القرآن بلسانٍ صينيٍ واضح، ويحتفلون برمضان بالزخارف الحمراء التي ترمز للحظ السعيد في ثقافتهم.
لقد أصبحوا جسرًا بين الشرق الإسلامي والشرق الأقصى، برهانًا على أن التلاقي لا يفسد الهوية، بل يثريها.
✨ خاتمة الرحلة
حين غادرتُ نينغشيا، كانت المآذن الصغيرة تبتعد عني شيئًا فشيئًا، وكنت أسترجع وجوه الأطفال الذين يردّدون السلام بلغتين:
«السلام عليكم» و«ني هاو».
أدركت حينها أن الإسلام في الصين ليس غريبًا ولا دخيلًا، بل جزءٌ من نسيجها القديم، من نسمة الحرير ومن نكهة الشاي ومن دعاء الأمهات عند الغروب.
> إن شعب الهوي ليس سلالةً من دمٍ، بل من ضوءٍ امتزج بالحضارة الصينية وبقي حيًّا حتى اليوم.
[١٦/١٠، ١١:٥٠ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: رحلاتي بين الأزقّة والأسواق في كاشغر (Kashgar) بمقاطعة شينجيانغ في شمال غرب الصين، نروي قصة قومية الأيغور المسلمين بحسٍّ ترحالي وتعايش بين التوثيق والتاريخ:
*🕌 قومية الأيغور في كاشغر: في قلب آسيا المسلمة*
حين تدخل كاشغر، تشعر وكأنك تقف عند بوابة الزمن، حيث الصحارى تمتد إلى الأفق، والجبال تحرس المدينة بظلّها، والسوق القديم يعجّ بألوان القبّعات والتوابل وصدى الأذان المفقود عدا داخل المسجد وبصوت الهمس. هنا، في الجنوب الغربي من إقليم شينجيانغ (Xinjiang Uygur Autonomous Region)، يعيش الأيغور شعبٌ تركيٌّ مسلمٌ يغزل حياته بين رياح الصحراء وضفاف واحات طريفة، بين القوافل والحدود، بين البساط الحريري وآذان الجمعة.
كاشغر ليست مجرد مدينة إنها قلب الهوية الأيغورية، مفترق طرقٍ بين الشرق والغرب، بين الصين وآسيا الوسطى، بين التاريخ والحاضر.
🌄 منذ القِدم: التاريخ يُكلّم الحجر
قبل أن تُدعى كاشغر بهذا الاسم، كانت تُعرف باسم شولي (Shule)، وقد ذُكرت في السجلات الصينية منذ القرن الثاني قبل الميلاد كواحةٍ في طريق القوافل.
مرّت على هذه الواحة قصص كثير، من إمبراطورياتٍ عابرة، من صراعٍ على الطرق، من أممٍ ودولٍ وملوكٍ:
في عهد أسرة تانغ، دخلت كاشغر ضمن نفوذ الصين في فترات معينة، كحصنٍ على حدود الإمبراطورية الغربية.
عبر العصور، كانت تحت سيطرة الإمبراطوريات التركية، والمغول، والكاراخانيين، وغيرهم من الدول التي تتقاسم السلطة هناك.
في القرن العاشر، اتّخذت سلالة الكاراخانيد الإسلام كدين رسمي، فكان ذلك لحظة محورية في تشكيل الهوية الدينية للمنطقة، وأثرت في كاشغر كأحد مراكز المسلمين الجدد.
في العصور اللاحقة، خضعت لزخم الحركات السياسية والدينية، بما في ذلك محاولات الاستقلال والحكم الذاتي، مثل قيام جمهورية تركستان الشرقية الأولى من كاشغر عام 1933 لفترة قصيرة.
في عهد الإمبراطورية الصينية (السلالة الكينغ)، اجتُلبت المناطق الغربية تدريجيًّا إلى الحكم المباشر الصيني، فواجه الأيغور تحديات السيطرة المركزية.
بذلك، كاشغر ليست فقط مدينة عابرة في التاريخ، بل ميدانٌ تجري فيه قصة الأيغور — خلقوا التاريخ كما يُخلَق التاريخ من روح الناس.
🕌 كاشغر اليوم: السوق والنبض الديني
حين تتجوّل في سوق التجمع الكبير (Grand Bazaar) في كاشغر، ترى بضائعٍ من شرق آسيا ووسط آسيا وأوروبا، وتسمع لغاتٍ تركية وفارسية وصينية تتداخل كأنها ألحانٌ في سيمفونية تجارية.
وفي الأزقة الضيقة تنشق رائحة الخبز الأيغوري المطهو في أفران طينية، وتنظر إلى الحُليّ والنقوش التقليدية التي تحكي تاريخًا وجدانياً للأجيال.
من أبرز معالمها التاريخية والدينية هو جامع إيدي كاه (Id Kah Mosque)، الذي بُني عام 1442م، ويُعدُّ أحد أكبر المساجد في شينجيانغ.
تصميمه يجمع بين الطراز المعماري المركزي-آسيوي والعناصر الإسلامية — يحتوي على ساحات واسعة، وقبة كبيرة، وأبراج دقيقة.
في أيام الجمع ، كان… الملايين من المؤمنين يتجمعون في أفنيته وصحنه للصلاة، وكانت المساجد المحيطة تنبض بالدعاء والقرآن.
لكن السنين الأخيرة شهدت تغييرات كبيرة. بعض المصادر تقول إن المسجد قد تحوّل من مركز عبادة نشط إلى جذب سياحي كمقهى وبعضه حول لمتحف ، وإن الصلوات تُقام بمجموعات محدودة، وأن عدد المصلّين قد تراجع كثيرًا.
بعض المعلمين المطرودين يقولون إن بعض الفقرات الدينية تُرتّب من جهة رسمية وأن النشاط الحقيقي اختفى.
كاشغر اليوم، بالرغم من ضغوط التحديث، لا تزال تحافظ على بقايا هويتها الأيغورية — في المبان التقليدية، وفي أسواق الحرف، وفي همس الأذان داخل المساجد المسموحة للصلاة والذي يختلط بصدى السيارات والازدحام.
🧭 رحلة في الهوية: أمةٌ في مواجهة التحدّيات
الأيغور هم قوم تركيّون مسلمون، لغتهم اللغة الأويغورية تنتمي إلى الفرع التركي لغات آسيا الوسطى، وهي كتابة عربية مخصصة.
هم مرتبطون ثقافيًا وتراثيًا بشعوب آسيا الوسطى، أكثر من ارتباطهم الصيني، لكنهم يعيشون داخل الدولة الصينية، بين الهوية المغايرة والمصلحة السياسية.
على مدى السنوات الأخيرة، تعرض الأيغور لسياسات صارمة من السلطات الصينية: برامج “إعادة التربية” أو “التدريب المهني”، مراقبة واسعة للهوية الدينية، ترحيل قسري، وإفراغ بعض الأحياء القديمة كجزء من مخاطبة “السلامة الوطنية”.
تقارير كثيرة تقول إن مدينة كاشغر القديمة — ومنازلها التقليدية ومساجدها وأزقتها — عُرضت لهدم جزئي أو إعادة بناء بأشكال أكثر تجانسًا مع التخطيط المركزي، مما أثار جدلًا كبيرًا حول ما إذا كان ذلك نوعًا من “محو الذاكرة”.
الهنودسة التي تُرسم في الشوارع الآن قد تبدو عادية، لكن بعض أسماء الشوارع الأيغورية والعلامات الدينية قد “نُقِحت” أو أُزيلت.
حتى لفظة السلام عليكم ورحمة الله ممنوعة من التداول..
كما ان لفظة "حلال" بالمطاعم محرّمة..
هنا في كاشغر، في الأزقة التي تخُتَمّ بالأبواب الخشبية القديمة، تسير نساءٌ يلبسن حجابًا خفيفًا، وبصراحة لم اجد محجبة فعليا خلال زيارتي... يمشين بهدوءٍ تارة، والامر تحت المراقبةٍ الصارمة.
وفي القرى البعيدة، تُروى قصص عن أولئك الذين أُخذوا إلى مراكز “التدريب” (السجون)، ولم يعودوا، أو يعيدون إلى أهلهم بعد تغيّرات لا تُعلن.
✨ في الختام: بين الأمس واليوم
حين تغادر كاشغر، تأخذ معك صوت الأذان المتناثر بين الأزقة، وقطعة خبز يدوية محمصة، وذكريات الحكايات التي لم تُكتب بعد في كتب التاريخ.
تدرك أنه لا شيء يُعطى لهويةٍ مسلمةٍ في قلب الصين، إن لم تحمله الأجيال بصبرٍ وإيمان.
إن الأيغور في كاشغر هم شمسٌ في أفقٍ غير مستقرّ، ينهضون من بين الرمال ليحافظوا على نورهم، رغم العواصف.
> إن كاشغر ليست مجرد مدينة في غرب الصين، بل هي جرحٌ وشاهدٌ وصوتٌ يصارع من أجل ألا يخمد.
✍️: الرحال وائل الدغفق1447هـ
[١٦/١٠، ١١:٥٠ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: رواية شيانغفي: أسطورة العطر والماء
في قلب شينجيانغ، حيث تنساب الرياح الشمالية الشرقية وتحمل معها عبق الماضي، تقع "حديقة شيانغفي" ذات المناظر الخلابة. هناك، حيث تلتقي السماء بالأرض وتلتف الجبال حول القرية الصغيرة "آيزريتي"، في بلدة هاوهان، تظهر الطبيعة على صورتها الأكثر نقاءً. الحديقة التي تمتد على مساحة تزيد عن ألف فدان (حوالي 1000 فدان) لم تكن مجرد بقعة من الأرض، بل كانت بداية لحكاية قديمة تكتبها الرياح والنهر والذكريات.
بدأت رحلة حديقة شيانغفي في عام 2014، عندما قرر القائمون على تطوير المنطقة أن يجعلوا منها معلمًا سياحيًا يعكس الثقافة الفريدة لشعوب المنطقة. ومع مرور السنوات، أصبحت الحديقة في عام 2019 واحدة من الوجهات السياحية الوطنية المصنفة ضمن المواقع السياحية من المستوى 4A، حيث تجذب الزوار من شتى أنحاء العالم لاستكشاف تاريخها العريق وجمالها الخلاب.
داخل هذه الحديقة، سيجد الزائر نفسه محاطًا بمجموعة من المعالم التي تحكي قصصًا ضاربة في عمق التاريخ. من بينها "حجر شيانغفي" الذي يحمل ذكرى تلك الأيام التي ولدت فيها الأساطير، إلى "مقر إقامة شيانغفي السابق" حيث سكن الأشخاص الذين شكلوا تاريخ المنطقة. أما "طاحونة الماء القديمة" فتُعتبر شاهدًا على التقاليد القديمة في استخدام الماء، بينما تحمل "شجرة الحب" رمزًا للرغبات المستحيلة والمشاعر الخالدة.
وفي الزمان الذي نكتب عنه، حيث كانت الأسطورة تُكتب بالحبر ذاته الذي ينساب من عيون الجبال، كانت "أسطورة شيانغفي" تروي عن "المحظية العطرة" التي أصبحت جزءًا من القصص التي يتناقلها الناس. يتداولها الأجداد كما يتداولون الزهور العطرية، لكن الحكاية، رغم جمالها، تحولت إلى مأساة، لتبقى تلك الفتاة العطرة التي "تحولت إلى فراشة" مع مرور الأيام، عالقة في الأذهان.
لكن القصة الحقيقية التي يجب أن تُروى هنا هي قصة "محمد يوسف" الرجل الذي جاء إلى جنوب شينجيانغ ليغير مجرى التاريخ. لم يكن محمد يوسف مجرد معلم صوفي عادي، بل كان رمزا لطريقة "النقشبندية" التي حملها من بلاد ما وراء النهر إلى هذه الأرض، ليبدأ مسارًا روحيًا وأيديولوجيًا كان له الأثر العميق على سكان المنطقة.
عاش "محمد يوسف" في زمن لم يكن فيه الطريق إلى الله إلا عبر المشقة والتضحية، فكان يروج للطريقة النقشبندية التي جمعت بين السلوك الصوفي والالتزام الديني، حتى أصبحت طريقة صوفية لها أتباع مخلصون في كافة أنحاء شينجيانغ. وعندما وافته المنية، خلفه ابنه "آفاق خوجة"، الذي حمل الراية بعده وأصبح خليفته في نشر تعاليم الطريقة.
ورغم أن هذا الضريح الذي يُعد اليوم من أبرز المعالم الإسلامية في شينجيانغ كان في البداية مجرد مكان للراحة الأبدية لمعلم صوفي، إلا أنه سرعان ما تحول إلى رمز من رموز التاريخ الروحي والسياسي في المنطقة. يضم الضريح القبور التي تتراكم عليها طبقات من الزمن لعائلة "آفاق خوجة" التي حملت الإرث نفسه لعدة أجيال.
ومن هنا، تبدأ أسطورة "شيانغفي" في الظهور. كانت أحد أحفاد "آفاق خوجة" قد ارتبطت بإمبراطور "تشيان لونغ" في قصة تُخلد في الزمان والمكان. كانت تلك الفتاة، التي اشتهرت بعطرها الذي لا يُنسى، قد اختارت طريقًا شائكًا، حين تخلت عن أصولها لتصبح محظية في قصر الإمبراطور. لكن ما لبثت أن تلاشت في ظلال القصر، وسط الأحزان والآلام، حتى ظهرت، بعد وفاتها، في الأساطير كفراشة تحلق في السماء، تحمل في جناحيها العطر الذي سلبت به القلوب.
وكلما مر الزمان، كلما تجددت الأسطورة، وتشبثت بالذاكرة الجمعية للناس. فتجدها اليوم في "معرض شيانغفي" داخل الحديقة، حيث تُعرض أدوات وقطع أثرية تحكي عن حياة هذه الشخصية الغامضة، وكذلك في "جناح العطور" الذي يحمل عبير تلك الأيام البعيدة. أما "سوق كاشغر القديم" فيعج بروائح التوابل، حيث يلتقي المزارعون والتجار المحليون، بينما يعكس "المعرض الثقافي" تاريخًا عريقًا يمتد إلى ما وراء حدود الجغرافيا.
ومع كل زاوية في هذه الحديقة، يبقى السؤال نفسه يتردد: هل ماتت "المحظية العطرة" أم تحولت إلى فراشة؟ أم أنها، في الواقع، هي أسطورة بحد ذاتها، ستظل تحوم في الأفق إلى الأبد، مثل العطر الذي لا يزول؟
✍️: الرحال وائل الدغفق1447هـ
✍️: الرحال وائل الدغفق.1447هـ