السبت، 4 أكتوبر 2025

مسلاخ الذئب في وادي حضرموت بين الأسطورة والذاكرة (مستئذب صيعر) رحال الخبر.

*مسلاخ الذئب في وادي حضرموت: بين الأسطورة والذاكرة* 


✍️: اعداد وتحقيق

د. وائل بن عبدالعزيز الدغفق


مؤرخ  رحّالة الجزيرة العربية – المملكة العربية السعودية

 

مقدمة: 

في قلب الربع الخالي، حيث تتثاءب الرمال وتغفو الأساطير على وهج الشمس، نشأت حكايةٌ هزّت خيال المؤرخين والرحّالة والعلماء معًا: 

حكاية المستئذب الصيعري.

هناك، في أودية حضرموت البعيدة، يُروى أن الإنسان لم يعد يكتفي بجلده، بل لبس مسلاخ الذئب وخرج يركض في القفر بحثًا عن النجاة أو الفناء.

ليست هذه سطور رواية خيالية، بل أثرٌ حقيقي دوّنه المقريزي في القرن التاسع الهجري، وشهد عليه فقهاء ومؤرخون، ثم صوّر وجوه أهله الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر، قبل أن يدوّن عنهم الأنثروبولوجي النمساوي والتر دوشتال في القرن العشرين.


بين الخرزة المنسوبة لقوم عاد، وفتوى السقّاف عن الذئب البشري، تمتدّ هذه الأسطورة مثل ظلٍّ طويلٍ على رمال حضرموت:

هل كان أولئك رجالًا التهمهم الجوع فصاروا ذئابًا؟ أم أن الذئب هو الذي تعلّم من الإنسان كيف يخفي أنيابه؟


الملخص

تتناول هذه الدراسة رواية فلكلورية موثَّقة من حضرموت، تتحدث عن قبيلة الصيعر التي ارتبط اسمها بما يُعرف في التراث الشعبي بـ«مسلاخ الذئب» أو «الاستئذاب»، حيث يُروى أن بعض أفرادها يتحولون إلى ذئاب ضارية بابتلاع خرزةٍ منسوبةٍ إلى قوم عاد.

وتتابع هذه الورقة مسار الحكاية من أقدم مصدرها عند المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في القرن التاسع الهجري، مرورًا برواية ابن جندان في القرن الثامن، وفتوى السقّاف في القرن الرابع عشر، ثم توثيق ويلفريد ثيسيجر المصوّر عام 1947م، وصولًا إلى الدراسة الأنثروبولوجية الميدانية للباحث والتر دوشتال في القرن العشرين، لتبيّن كيف انتقلت الأسطورة من فم الجوع إلى مدوّنة العلم.

 

 تمهيد:

 بين الأسطورة والأنثروبولوجيا

يُعدّ التراث الشعبي الحضرمي أحد أغنى المخازن الأسطورية في الجزيرة العربية، إذ تختلط فيه عناصر البيئة الصحراوية بالعزلة الجغرافية والذاكرة الشفهية المتوارثة. ومن أبرز تلك الأساطير قصة استئذاب الصيعر، التي جمعت بين الرمز والمعاناة، بين الجوع والتحوّل، وبين الإيمان والخرافة.

 

الرواية الأولى: 

المقريزي (ت 845هـ)

يُعدّ المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي أول من دوّن خبر “تحوّل” قبيلة الصيعر في رسالته النادرة «الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة». كتبها سنة 839هـ أثناء مجاورته بمكة، استنادًا إلى روايات حضرمية نقلها عنه “العبد الصالح أبو بريك عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن سالم بن بريك الحضرمي” (من بني سيف الشبوي).

قال المقريزي في نصّه:

«… وبأرضهم نبق كثيرة جدًا… فإذا أجدبت أرضهم لقلة الغيث انقسم الصيعر قسمين: فرقة تخيف السبيل، وفرقة تتقلب ذئابًا ضارية. وذلك أن الواحد منهم عنده خرزة من كنوز ظفروا بها من عهد عاد، فإذا أراد أن ينقلب ذئبًا تثاءب مرارًا… ثم يبتلع الخرزة فينقلب في الحال ذئبًا له وبر وذنب… فإذا أراد الرجوع تمرّغ بالأرض فعاد بشرًا، وتبقى الخرزة… وهذا أمر مشهور عند جميع أهل حضرموت لا ينكره أحد منهم»【1】.

بهذا النصّ، أسّس المقريزي ما يشبه النواة الأنثروبولوجية الأولى لفكرة “التحوّل الحيواني” في التراث العربي، قبل ظهور مصطلح werewolf في الدراسات الغربية بقرون.

 

شهادة ابن جندان (القرن الثامن الهجري)

يورد ابن جندان العلوي الحضرمي في كتابه «مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت» أن سنة 790هـ شهدت مجاعة كبيرة “كان فيها جماعة من الصيعر على سفوح الجبال ينهشون لحوم البشر”【2】.

هذا الوصف، وإن لم يصرّح بـ"الخرزة" أو التحوّل، إلا أنه يربط الظاهرة بالجوع الشديد والانفلات الحيواني، مما يؤكد أن الأسطورة لم تكن خرافةً صافية بل نتاجًا لتجربة بيئية قاسية.


وهنا اتت فتوى السقّاف في (القرن الرابع عشر الهجري)

وبعد قرون من المقريزي وابن جندان، ترد هذه الفتوى النادرة للعلامة المفتي والمؤرخ عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف (توفى 1375هـ) في كتابه «بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد»، جاء فيها:

«سُئلتُ عن رجلٍ من أهل بلادنا يتصوّر بصورة الذئب ويعدو على الغنم، فأفتيتُ بحلّ قتله ما دام على تلك الصورة، ولا سيما في حال اعتدائه. وما كدت أصدّق بذلك حتى كادت تتواتر الأخبار عن مشاهدته»【3】.


الفتوى تُبرز تعامل الفقيه مع الحكاية كواقعة حسّية ذات أثر فقهي، لا كخرافةٍ أو حكايةٍ للتندر.

وهي من أقوى الشواهد على أن الفولكلور المحلي تسلل إلى بنية الفقه الاجتماعي، ليصبح الحدّ بين الخيال والحقيقة غائمًا في الوعي الجمعي.

 

الشاهد البصري: 

ويلفريد ثيسيجر (1947م)

في منتصف القرن العشرين، زار الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر (Wilfred Thesiger) وادي حضرموت، ووثّق بعدسته صورًا لقبيلة الصيعر عام 1947م في مناطق "منوخ وبئر تامس".

تظهر صوره المحفوظة في Pitt Rivers Museum – Oxford رجال الصيعر بملامحهم البدوية الصلبة، ونساءً يملأن القِرب من الآبار【4】.

لم يذكر ثيسيجر حادثة “التحوّل” صراحة، لكنه سجّل القبيلة نفسها التي تناقلتها الأسطورة، مضيفًا بذلك بعدًا بصريًا للذاكرة الفلكلورية.

 

وهنا الدراسة الأنثروبولوجية الأكثر حداثة: 

لوالتر دوشتال(1960–1995م)

ففي ستينيات القرن العشرين، أجرى الباحث النمساوي Walter Dostal دراسة ميدانية شاملة عن قبائل شمال شرق اليمن، منها الصيعر، ركّزت على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقبيلة【5】.

ورغم أن دراسته لم تذكر الاستئذاب نصًا، إلا أن الباحث أشار إلى وجود تصورات أسطورية عن التحوّل الحيواني في المرويات الشفوية للبدو، مما يؤكد بقاء الظاهرة كموروثٍ رمزيٍّ حيّ.

 

وهنا استقصاء لما وراء الأسطورة: 

ودلالات الاستئذاب في الوعي الجمعي العربي. 


هناك تقاطع لحالة “مسلاخ الذئب” وهو مايطلق عليه غربيا في اساطيرهم "المستئذب" وهو تحول رجال لذئاب في حالات خاصة. 

اما عربيا فهناك رموزٍ فولكلورية مشابهة في عالمنا العربي منها :

• السعلوة في العراق والجزيرة؛

• القطرب في الحجاز؛

• البودا (الإنسان-الضبع) في السودان والقرن الإفريقي. 


وجميعها تشير إلى تحوّل الإنسان تحت وطأة الجوع أو اللعنة أو السحر.


في ضوء ذلك، يمكن قراءة “خرزة عاد” بوصفها رمزًا لقوةٍ كامنة في الإنسان تُخرجه من إنسانيته حين تشتدّ الحاجة أو الفناء ، وفي جلب عاد لسياق القصة كون قصة عاد من القصص الشهيرة وذات دلالة اسطورية يصعب نكرانها مع صعوبة اثباتها كون عاد بكبر قصتها وقوتها واساطيرها غير موجودة ، فتنسب كل مجهول لمجهول لتتراكم الاسطورة بعضها فوق بعض .

فالذئب هنا ليس حيوانًا فقط، بل استعارةٌ عن التحوّل النفسي والوجودي في مواجهة القفر والمجاعة.

ومن بين الحيوانات المعروفة تظل اسطورة الذئب وخباياه والأساطير التي تروى عنه وعلاقته بالجن وما الى ذلك حاضرة في مسلاخ الذئب في قصتنا… 


 

واذا اردنا ان نستبدل البحث التاريخي والموثق برواية فلكلورية لمسلاخ الذئب في وادي حضرموت فسيكون لها معنى واسطورة ممكن فهمها خلال الرواية لا البحث والاستدلال.. 


ولتكن البداية من نثر غبار القفر ومن صرخة التحوّل في حال الفقر ، لتبدأ الحكاية… 


ففي الليالي التي كان القمر فيها كقرص نحاسيّ يطفو على رمال حضرموت، وحين كانت المجاعة تلسع الأرض وييبس النبق في سدر وادي الصيعر.

هناك، بين هضاب “جارول” ورمال “الربع الخالي”، يُروى أن رجالًا من الصيعر إذا اشتدّ بهم الجوع، ولاذت السماء بالصمت، تحوّل بعضهم إلى ذئاب ضارية؛ فيلتهمون الغنم والبشر على السواء.

وقد أمدّنا المؤرخ المصري تقيّ الدين المقريزي(ت 845هـ) حيث دوّن ما سمعه من “ثقاتٍ من أهل حضرموت” أثناء مقامه بمكة سنة 839هـ.. 

ففي رسالته النادرة «الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة».


قال عن قبيلة الصيعر شيئا عجيبا حيث قال:

«… فإذا أجدبت أرضهم لقلة الغيث، يبس شجر النبق، وانقسموا قسمين: فرقة تخيف السبيل "قطّاع طرق"، وفرقة تتقلب ذئابًا ضارية "المستئذبون"، يبتلع الواحد خرزةً من كنوزٍ قديمةٍ من عهد عاد، فينقلب في الحال ذئبًا ذا وبرٍ وذنب، فإذا أراد الرجوع تمرّغ بالأرض فعاد بشرًا، وتبقى الخرزة…».

وأنهى المقريزي سرده بقوله:

«وهذا أمرٌ مشهورٌ عند أهل حضرموت لا ينكره أحدٌ منهم».

هكذا سجّل أول “شاهد حضرمي-منقول” لفكرة مسلاخ الذئب، ودوّنها في وثيقة علمية لا في أسطورةٍ شفهية.

وما حال المجاعة الكبرى عام (790هـ) وشهادة ابن جندان العلوي الحضرمي بعد نصف قرنٍ من المقريزي، في كتابه «مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت» أن سنة 790هـ شهدت مجاعةً عظيمة:

«وكان جماعة من الصيعر على سفوح الجبال ينهشون لحوم البشر».

قد لا يذكر “خرزة عاد”، لكنه يربط الجوع بالعنف الحيواني، وكأن أسطورة المقريزي وجدت شاهدها الواقعي في زمن المجاعة.


وفي خضم النقاش والتاويل وفنش الرواية تأتي فتوى السقّاف

بعد ستة قرون وفي الوقت الحاضر، حيث عاد الصدى في فتوى الفقيه عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف (ت 1375هـ) في كتابه «بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد»، ص 460 بقوله :

«سُئلتُ عن رجلٍ من بلادنا يتصوّر بصورة الذئب ويعدو على الغنم، فأفتيتُ بحلّ قتله ما دام على تلك الصورة، ولا سيما في حال اعتدائه… حتى كادت تتواتر الأخبار عن مشاهدته».

تلك الفتوى المدهشة أعادت للموروث القديم حياةً فقهية، إذ تعامل السقّاف مع التحوّل كـ”واقعة حسّية” تستوجب حكمًا شرعيًا، لا كخرافة.


وفي مشهد أخير عام 1947م

وبعد الحرب العالمية الثانية، عبر الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر وادي حضرموت وعدّسته ترصد وجوه الصيعر في بئر منوخ وبئر طامس وريضة صيعر .

وتُظهر صوره المنشورة في Pitt Rivers Museum – Oxford رجالًا أشدّاء بملامحٍ صارمةٍ كأنها استبقت في ملامحها ظلال الحكاية القديمة؛ لم يرَ ثيسيجر “ذئبًا”، لكنه وثّق القبيلة ذاتها التي حملت الأسطورة قرونًا.

والدراسة الحديثة للباحث النمساوي والتر دوشتال (1960 – 1995م)

في ستينيات القرن العشرين، حيثأجرى Walter Dostal دراسةً ميدانية عن قبائل اليمن، شملت الصيعر، بعنوان «Sozio-ökonomische Aspekte der Stammesdemokratie in Nordost-Yemen» وغيرها، ثم أضاف ملاحظات حتى 1995م.

تناول مساكنهم ونظامهم الاجتماعي وتأثير الحداثة، ولم يؤكد روايات “التحوّل”، لكنه سجّل أن “الأسطورة عن رجلٍ يتلبّس شكل الذئب لا تزال حيّة في الذاكرة الشفوية للصيعر والبدو المجاورين”.

فكانت دراسته صكّ توثيقٍ إثنوغرافي لما تبقّى من صدى الأسطورة.

ولكي نفهم الجذور الفولكلورية لأساس قصتنا. 

من فكرة التحوّل إلى حيوان وكونها ليست حصرًا على حضرموت بل تعدّت للعالم العربي والغربي :

ففي الجزيرة العربية عُرف القُطرُب أو السَّعلوة، ذلك الكائن الذي يتبدّل ليلًا بين إنسانٍ ووحش.

وفي السودان والقرن الإفريقي ووحش “البودا” المتحول ببن (الرجل-الضبع).

وفي العراق خرافة “السعلوة” التي تأكل المسافرين.

كل تلك الحالات والخرافات تؤكد أن الخوف من الجوع والعزلة والقفر والفقر يولّد في خيال الشعوب كائنًا يتقمّص الوحش ليبقى حيًا.


وفي الختام بين الأسطورة والذاكرة، وبين خرزة عاد واستئذاب الصيعر، وما بين خرزة المقريزي ومجاعة ابن جندان وفتوى السقّاف وعدسة ثيسيجر ودراسة دوشتال—تُرسم ملحمة حضرمية نادرة:

أسطورةٌ بدأت من فم الجوع، وخرافة خرزة قوم عاد لتتحوّل إلى فتوى، ثم إلى ذاكرةٍ مصوّرة، ثم إلى مادةٍ إثنوغرافية، وأخيرًا إلى أيقونة من أساطير حضرموت.

وفي كل مرةٍ يُروى فيها عن “مسلاخ الذئب”، يختلط الصدق بالعجب، ويبقى السؤال معلّقًا فوق وادي حضرموت:

هل كان الصيعر ذئابًا بالفعل؟ أم أن الذئب كان رمزًا للجوع، والخرزة استعارة عن تحوّل الإنسان حين تضيق به الحياة؟

ولعلّ السرّ يكمن في “خرزة عاد”، فإذا اكتُشف موضعها يومًا، اكتملت الرواية.

 

المراجع

1. تقيّ الدين المقريزي، الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة، تحقيق طارق بن محمد العمودي، صـ 23–26.

2. ابن جندان العلوي الحضرمي، مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت، جـ1، صـ 71.

3. عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف، بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد، صـ 460.

4. Wilfred Thesiger, Arabian Sands, and photographic archive, Pitt Rivers Museum (Oxford), “Sa’ar tribe at Minwakh, Hadramawt, 1947.”

5. Walter Dostal, Sozio-ökonomische Aspekte der Stammesdemokratie in Nordost-Yemen, Sociologus, Vol. 24, No.1 (1974); and subsequent notes (1995), Vienna Academy of Sciences.

 

د. وائل بن عبد العزيز الدغفق  1447هـ

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

اول زيارة للهند 1980 وزيارة بعد40 عام لرحال الخبر ..My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

الرحلة الأولى إلى الهند (1400هـ / 1980م) 

My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

رواية من فصول الذاكرة

المقدمة:

من الثانوية إلى المطار

كنتُ حينها طالبًا في المرحلة الثانوية، أبحث عن معنى للحياة خارج أسوار المدرسة. كان الصيف فرصة ذهبية، فالتحقت ببرنامج عمل للطلبة لاكتساب الخبرات، وكان الراتب مجزيًا بمعايير ذلك الزمن. شيئًا فشيئًا، تجمّع في يدي مبلغ طيب بلغ نحو 2000 ريال، وهو ما اعتبرته ثروة صغيرة تمنحني جناحين لأحلّق بهما.

عندها بدأ الحلم يتشكّل: أن أستقل الطائرة وحيدًا، وأن أعتمد على نفسي، وأختبر قدرتي على مواجهة المجهول.

اختيار الوجهة: وكانت الهند.

وحددت خط الانطلاق: 

ومن مطار الظهران الدولي، ذلك المطار العريق الذي كان آنذاك في أوج شهرته، بوابة الشرق الأوسط إلى العالم، قبل أن يتوقف عمله لاحقًا ويُستبدل بمطار الملك فهد بالدمام.

وحين جلست على مقعدي في طائرة Air India، شعرت لأول مرة أنني لم أعد مجرد طالب ثانوي، بل مسافر على أعتاب حياة جديدة.


الفصل الأول. 

بومباي… مسرح المغامرة الأولى

هبطت الطائرة في بومباي، فوجدت نفسي في مدينة تضج بالحياة والفوضى معًا. هناك بدأت المغامرة الكبرى لاكتشاف ذاتي. ارتديت اللباس الأبيض الهندي، واندمجت بين الناس كأنني واحدٌ منهم. سكنت فنادقهم الشعبية في أزقة ضيقة، واستأجرت دراجة هوائية، أجوب بها شوارع المدينة المزدحمة بحرية دون أن يلحظني أحد.

قضيت أسبوعًا كاملًا في هذه التجربة، أعيش بينهم بلا وسطاء، أتناول طعامهم، أرى حياتهم اليومية عن قرب. رأيت مشاهد ستبقى محفورة في ذاكرتي: أطفال يخرجون من أنبوب معدني مخصّص للمجاري، ثم يرتدون زيّ المدرسة الأزرق والأبيض ويذهبون بابتسامة بريئة. مزيج من الفقر والعزيمة، من البؤس والكرامة.

في بومباي تعلمت أن المغامرة الحقيقية ليست في رؤية الأماكن، بل في الانغماس بالحياة كما يعيشها أهلها. وهناك أيقنت أنني اجتزت الاختبار الأول للاعتماد على النفس، وأن هذه ليست سوى بداية الطريق.

اول صورة لي في بومبي1980

الصورة الثانية بعد مرور 40 عام على الاولى كانت في عام2020

التقطت في هذا الشارع في بومبي


الفصل الثاني:

 اللقاء في دلهي

بعد أسبوع من مغامرتي في بومباي، جاءني خبر أن والدي قد وصل إلى دلهي لإنهاء أعماله الخاصة بالمصانع وجلب المعدات والعمال. حملت حقيبتي، وتركت وراء ظهري أزقة بومباي الصاخبة، وانطلقت لألتحق به.

في دلهي كان اللقاء. أخبرته عن مغامرتي الأولى، وكيف نجحت في أن أعيش وحدي بينهم دون أن ينكشف أمري. ابتسم الوالد، وربما شعر بالارتياح أن ابنه بات يملك الجرأة والقدرة على مواجهة الحياة. 



الفصل الثالث:

 دلهي… بين التاريخ والمآذن

انطلقت مع والدي أستكشف وجهًا آخر للهند. دخلنا القلعة الحمراء، حصن المغول، حيث كان السلطان "أكبر" يبسط سلطانه على الهند والسند. وبين جدرانها شعرت أنني أسمع همس التاريخ وصليل السيوف.

ثم زرنا المسجد الجامع (المغولي الأحمر)، المهيب بمآذنه الشامخة وساحاته الواسعة. هناك ازداد يقيني بعظمة البصمة الإسلامية في أرض الهند، وكيف أنها لم تكن عابرة، بل جزء أصيل من حضارتها.

مع الوالد في زيارة لتاج محل في اكرا

الفصل الرابع: أغرا… مرثية من الرخام الأبيض

ومن دلهي ارتحلنا إلى أغرا، حيث وقفت وجهاً لوجه أمام أعجوبة الدنيا: تاج محل. كان المشهد أكبر من الكلمات، مبنى أبيض من المرمر يضيء كالحلم، مرثية خالدة للحب. تجولت بين حدائقه وقبابه، والدهشة لا تفارقني.

إلى جواره وقفنا عند القلعة التي بناها السلطان "أكبر"، رمز القوة والسيطرة. في تلك اللحظة أدركت كيف تجتمع في الهند كل المتناقضات: الحب والحرب، الرخاء والفقر، العظمة والبساطة. 


الختام:

 انطلاقة نحو العالم

هكذا كانت رحلتي الأولى: بدأت وحيدًا في بومباي لاختبار نفسي، ثم التقيت والدي في دلهي، وأكملنا سويًا جولة في أغرا حيث تاج محل الخالد.
كانت تجربة صغيرة في ظاهرها، لكنها شكلت بدايتي الحقيقية. لقد علمتني أن السفر ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو انطلاقة نحو الذات أولًا، ثم نحو العالم. ومن هناك بدأت رحلتي الطويلة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، والحمد لله على التيسير.

وائل بن عبدالعزيز الدغفق1980 1400هـ
_________________________________
وهنا الرحلة بعد ترجمتها باللغة الانجليزية

My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

A Tale from the Early Days of Rahhal al-Khobar

Prologue: From Schoolboy to Traveler

At the time, I was still a high school student, restless and curious about life beyond the classroom walls. During the summer, I joined a student work program designed to build character and provide practical experience. The pay was generous for those days, and by the end of the season, I had managed to save around 2,000 Saudi riyals — a small fortune in my young eyes, yet enough to give me wings.

The dream quickly took shape: to buy a ticket, board a plane alone, and rely entirely on myself in a foreign land.

The departure point was Dhahran International Airport, the legendary hub of the Eastern Province and one of the busiest airports in the Middle East before it was later replaced by King Fahd International. My ticket was with Air India, and as I fastened my seatbelt, I felt a surge of anticipation. This was no ordinary trip; it was my initiation into the world of independence and discovery.


---

Chapter One: Bombay — A Stage for the Self

When the aircraft descended over Bombay (now Mumbai), I stepped into a city brimming with chaos and vitality. It was here that my true adventure began — a test of courage, self-reliance, and the art of blending in.

I donned the simple white attire of the locals, checked into modest lodgings tucked away in narrow alleys, and rented a humble bicycle. With this disguise, I roamed the city freely, moving unseen through crowded markets and teeming streets.

I lived for a week among the people of Bombay — eating their food, watching their daily struggles, listening to their laughter and quarrels. Some images etched themselves forever into my memory: children crawling out of a sewer pipe in the morning, only to emerge freshly dressed in crisp blue-and-white school uniforms; a family living in despair, yet holding on to dignity; the endless rattle of buses, rickshaws, ox-drawn carts, horse carriages, even elephants pulling wagons. A river of humanity, all flowing in directions that seemed chaotic yet strangely harmonious.

That week in Bombay was more than survival; it was an awakening. I realized that the essence of travel lies not in monuments or photographs, but in immersing oneself in the rhythm of ordinary lives.


---

Chapter Two: Reunion in Delhi

After seven days of anonymity in Bombay, news reached me that my father had arrived in Delhi to oversee factory arrangements and the import of machinery and workers. I gathered my few belongings, left the bustle of Bombay behind, and made my way north.

There, in Delhi, I rejoined him. With excitement, I recounted my hidden adventure, how I had lived unnoticed among strangers. He listened with quiet pride, perhaps relieved to see that his son had the courage to carve his own path.


---

Chapter Three: Delhi — Where History Whispers

With my father beside me, I discovered another face of India: its imperial grandeur. We walked through the towering gates of the Red Fort, once the seat of the mighty Mughal emperor Akbar. The fortress walls seemed to murmur tales of power, conquest, and splendour.

Not far away, we stood in awe at the Jama Masjid, one of the largest mosques in India, with minarets piercing the Delhi sky. In its vast courtyard, I felt the weight of history — of Islam’s enduring imprint on this land.


---

Chapter Four: Agra — A Love Carved in Marble

From Delhi, our journey took us further to Agra, and there I encountered one of the world’s wonders: the Taj Mahal. No words could capture the majesty of that white marble mausoleum, gleaming like a dream against the sky. It was not merely architecture, but a poem in stone — a love story immortalized in symmetry and silence.

Beside it stood the massive fort built by Emperor Akbar, a reminder that India has always been a land where beauty and might, romance and empire, lived side by side.


---

Epilogue: A Beginning, Not an End

And so ended my first voyage to India: beginning alone in the labyrinth of Bombay, continuing in Delhi with my father, and culminating in Agra before the timeless Taj.

What began as the adventure of a high school boy with 2,000 riyals became the foundation of a lifelong journey. That trip taught me that travel is more than movement across maps; it is an inward discovery, a dialogue with the self, and an endless invitation to the world.

From that summer of 1980, my life as a traveler truly began. And for that, I remain forever grateful.