الجمعة، 8 أغسطس 2025

البحرين ودراسة في أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل"بحيرة هجر" د.وائل عبدالعزيز الدغفق1447هـ

البحرين وبحيرة هجر التاريخية : 
دراسة في أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل.
 
اعداد د.وائل عبدالعزيز الدغفق1447هـ 

المقدمة: 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تتمتع واحة الأحساء، المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، بإرثٍ تاريخي وجغرافي فريد، شكلت فيه مصادر المياه العذبة شريان الحياة وعماد الحضارة منذ آلاف السنين. وفي قلب هذا المشهد الطبيعي الغني، تبرز مسطحات مائية ذات أهمية بالغة، لم تنل حقها الكامل من الدراسة والتوثيق التاريخي المتعمق، وهي بحيرة الأصفر وبحيرة الحبيل شرق واحة الأحساء حاليًا.

وارتبط اسم "البحرين" تاريخيًا بإقليم شرق الجزيرة العربية بأكمله، وهي تسمية اختلف المؤرخون في أصلها؛ فمنهم من أرجعها إلى وجود بحرين بالفعل، أحدهما مالح وهو الخليج العربي، والآخر عذب ومتمثل في بحيرات وينابيع المنطقة الداخلية "بحيرة الأصفر". وقد أشار مؤرخون قدامى مثل ياقوت الحموي والقلقشندي إلى أن بحيرة هجر (الأصفر حاليًا) كانت أحد هذين البحرين، مما يمنحها بُعدًا تاريخيًا وجغرافيًا استثنائيًا.

ومع ذلك، ساد في العقود الأخيرة تصور شائع يربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة، مما يختزل تاريخها الطبيعي العريق ويطمس هويتها الأصلية كتجمع مائي طبيعي، وكان قائمًا قبل هذه المشاريع.

ومن هنا، تنطلق هذه الدراسة لتصحيح هذا المفهوم وتقديم رؤية تاريخية موثقة، تطرح إشكالية رئيسية تتمثل في إثبات الأصل الطبيعي لبحيرتي الأصفر والحبيل، ودورهما المحوري في تشكيل جغرافية وهوية إقليم هجر التاريخي.

ولتحقيق هذا الهدف، نسعى في بحثنا هذا إلى تتبع الإشارات التاريخية والجغرافية للبحيرتين في كتابات المؤرخين والرحالة، والمصادر الأرشيفية العربية والأجنبية. كما نسعى لتحليل السياق الجغرافي الذي أدى إلى ظهور التسمية التاريخية "البحرين"، وربطها بوجود هذين المسطحين المائيين كبحيرتين عذبتين في وسط الإقليم. كما نسعى لدحض النظرية القائلة بأن بحيرة الأصفر هي نتاج صناعي لمياه الصرف الزراعي، وذلك من خلال استعراض الأدلة التي تشير إلى وجودها كمعلم طبيعي قديم.

ولاشك أن استدلالاتنا أتت بعد جمع وتوثيق ما ورد عن بحيرتي الأصفر والحبيل، والتي غالبًا ما تكون الأخيرة أقل حضورًا في الدراسات، وربط تاريخها بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء من نظام مائي متكامل في المنطقة.

إن هذا البحث لا يقتصر على كونه استعراضًا تاريخيًا، بل هو محاولة لإعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية والجغرافية، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق.


الفصل الأول:
 المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"

1.1 الأصل اللغوي لكلمة "البحرين"تُعد كلمة "البحرين" من الكلمات التي تحمل في طياتها دلالات لغوية وجغرافية عميقة، وقد أثارت جدلاً بين المؤرخين واللغويين حول أصل تسمية الإقليم التاريخي المعروف بهذا الاسم. لفهم هذا الجدل وتوضيح الرؤية، لا بد من العودة إلى الأصل اللغوي لكلمة "البحر" في اللغة العربية. ففي الاستخدام الشائع، غالبًا ما يُربط مصطلح "البحر" بالمياه المالحة الشاسعة التي تغطي مساحات واسعة من الكرة الأرضية، كالمحيطات والبحار المعروفة. إلا أن هذا الفهم لا يمثل المعنى الشامل للكلمة في اللغة العربية الفصحى.فاللغة العربية، بثرائها واتساعها، تمنح كلمة "البحر" دلالات أوسع بكثير. فهي لا تقتصر على الإشارة إلى المياه المالحة فحسب، بل تُطلق أيضًا على أي تجمع كبير للمياه، سواء كانت مالحة أو عذبة. وهذا يشمل الأنهار العظيمة ذات التدفق الكبير، والبحيرات الواسعة التي تتجمع فيها المياه بشكل دائم أو شبه دائم. هذا المعنى الواسع لكلمة "البحر" هو حجر الزاوية في فهمنا لتسمية إقليم "البحرين"، ويدعم الفرضية التي سنطرحها في هذه الدراسة.ولتعزيز هذا الفهم، نستشهد بما ورد في أحد أهم معاجم اللغة العربية، وهو كتاب "لسان العرب" لابن منظور. فقد جاء في هذا المعجم أن "البحر هو الماء الكثير، مِلحًا كان أو عذبًا". هذا التعريف الواضح والصريح يؤكد أن مفهوم "البحر" في اللغة العربية يتجاوز حدود المياه المالحة، ليشمل أي مسطح مائي كبير، بغض النظر عن ملوحته. وهذا الدليل اللغوي يقدم أساسًا متينًا لحجتنا بأن تسمية "البحرين" قد لا تشير بالضرورة إلى بحرين مالحين، بل قد تشمل بحرًا مالحًا وبحرًا عذبًا، أو حتى بحيرين عذبين، طالما كانا يمثلان تجمعين مائيين كبيرين.

1.2 التفسير الجغرافي السائد لتسمية إقليم البحرينبناءً على الفهم اللغوي لكلمة "البحرين"، نشأت عدة نظريات لتفسير تسمية إقليم شرق الجزيرة العربية بهذا الاسم. النظرية الأكثر شيوعًا وقبولًا، والتي سادت لفترة طويلة، ترتكز على وجود "بحرين" رئيسيين في هذا الإقليم الممتد من البصرة شمالًا إلى عُمان جنوبًا. هذان البحران هما:

البحر المالح: ويتمثل في مياه الخليج العربي، الذي يحد الإقليم من جهة الشرق. هذا البحر هو المصدر الرئيسي للمياه المالحة في المنطقة، وقد لعب دورًا حيويًا في تحديد جغرافية الإقليم وتاريخه، كونه ممرًا تجاريًا وحضاريًا رئيسيًا.

البحر العذب: ويتمثل في المياه الجوفية الهائلة والعيون والينابيع الغزيرة التي اشتهرت بها المنطقة، وخصوصًا واحة الأحساء والقطيف. كانت هذه المياه تتدفق بغزارة على سطح الأرض، مشكلةً ما يشبه "بحرًا" من المياه العذبة.
 هذه العيون والينابيع كانت شريان الحياة للواحات الزراعية، ومصدرًا أساسيًا للعيش والاستقرار في المنطقة الصحراوية المحيطة.

تعتبر هذه النظرية هي التفسير الأكثر شيوعًا لتسمية "البحرين"، حيث تجمع بين العنصر البحري المالح والعنصر المائي العذب المتوفر بكثرة في المنطقة. ومع ذلك، فإن هذه الدراسة ستسعى إلى تقديم تفسير أكثر دقة وتحديدًا لمفهوم "البحر العذب"، من خلال التركيز على وجود مسطحات مائية عذبة محددة وكبيرة، وهي بحيرتا الأصفر والحبيل، والتي نعتقد أنها كانت الأساس الحقيقي لتسمية الإقليم بـ"البحرين"، وليس مجرد الإشارة العامة إلى المياه الجوفية.
الفصل الثاني: 
أدلة أصالة بحيرة هجر (الأصفر) في المصادر التاريخية. 
بعد أن استعرضنا المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"، ننتقل الآن إلى الأدلة التاريخية الملموسة التي تؤكد أصالة وجود بحيرة هجر، والتي تُعرف اليوم ببحيرة الأصفر، كمعلم جغرافي طبيعي راسخ في واحة الأحساء. هذه الأدلة لا تقتصر على مجرد الإشارات العابرة، بل هي شهادات موثقة من كبار المؤرخين والجغرافيين الذين عاصروا المنطقة أو كتبوا عنها بتفصيل، مما يمنحها مصداقية علمية وتاريخية لا تقبل الشك.

2.1 شهادة ياقوت الحموي (معجم البلدان)
تُعد شهادة الإمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (المتوفى سنة 626هـ/1229م) في موسوعته الجغرافية الخالدة "معجم البلدان"، الدليل الأبرز والأكثر حسمًا في إثبات أصالة بحيرة هجر. ففي سياق بحثه عن الجذور التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، كثيرا ما تبرز قضية أصل "بحيرة الأصفر" كإحدى أهم الإشكاليات البحثية المتنازع عليها. ففي حين يميل التصور الحديث إلى اعتبارها نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي، تقدم لنا المصادر التاريخية أدلة قاطعة على وجودها كمعلم جغرافي راسخ منذ قرون.عند تناوله لأصل تسمية إقليم "البحرين" الكبير، استعرض ياقوت الحموي عدة آراء لغوية، لكنه رفضها واصفًا إياها بـ"التعسف". ثم قدم التفسير الذي اعتمده واعتبره الحقيقة الراجحة، ناقلاً إياه عن اللغوي الكبير أبي منصور الأزهري، حيث قال:"والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: إنما سُمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال: وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق."
(ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: البحرين)

تحليل النص وأبعاده في إثبات أصالة البحيرة:

إن هذا النص الموجز والمكثف لا يمثل مجرد إشارة عابرة، بل هو وثيقة تاريخية وجغرافية متكاملة، يمكن تفكيك أبعادها على النحو التالي:

1- المصداقية والقناعة ("وهو الصحيح عندنا")
 لم يورد ياقوت هذا القول كأحد الآراء المطروحة، بل تبناه بشكل كامل وقدمه على أنه الرأي الصحيح. هذا التبني من قِبَل جغرافي ومؤرخ بحجم ياقوت الحموي، يمنح وجود البحيرة في القرن السابع الهجري مصداقية تاريخية لا تقبل الشك، وينفي بشكل قاطع أي ادعاء بحداثة نشأتها.

2- دقة تحديد الموقع ("على باب الأحساء")
 يدل النص على موقع البحيرة وأنها "على باب الأحساء". وفي ذلك العصر، كانت "الأحساء" تشير إلى مناطق تجمع المياه والعيون الغزيرة. وعليه، فإن وصفها بأنها كانت "على بابها" يتطابق جغرافيًا مع موقع بحيرة الأصفر الحالية، التي تمثل الحافة الشرقية للواحة ونقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة منها.

3- وصف الأبعاد الشاسعة للبحيرة ("ثلاثة أميال في مثلها"):
 يقدر ياقوت مساحة البحيرة بثلاثة أميال في مثلها، أي حوالي 5.4 كم × 5.4 كم تقريبًا (باعتبار الميل يساوي 1.8 كم). هذا دليل على أنها كانت معلمًا جغرافيًا هائلاً وبارزًا للعيان، لا مجرد مستنقع موسمي. هذه المساحة الشاسعة هي التي أهّلتها لتكون "بحرًا" في نظر الأقدمين، وأحد طرفي المعادلة في تسمية "البحرين".

4- الوصف الهيدروجيولوجي الدقيق ("لا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق"):
 يقدم ياقوت وصفًا علميًا دقيقًا لطبيعة البحيرة. فقوله "لا يفيض ماؤها" يؤكد أنها حوض تصريف داخلي مغلق (Endorheic basin)، لا منفذ له إلى البحر. وقوله "ماؤها راكد زعاق" (مالح) هو النتيجة الطبيعية لتبخر المياه في حوض مغلق بمنطقة صحراوية، مما يؤدي إلى تركيز الأملاح. هذا الوصف يطابق تمامًا الطبيعة الجيولوجية والبيئية لبحيرة الأصفر، ويدحض أي تصور بأنها كانت بحيرة عذبة.

خاتمة ما نقل عن ياقوت الحموي واستنتاج:
إن شهادة ياقوت الحموي لا تقتصر على إثبات وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) قبل أكثر من ثمانية قرون، بل هي تؤسس لأهميتها المحورية في هوية الإقليم الجغرافية. وبإثبات وجود "البحر العذب" الأول بشكل قاطع من خلال هذا النص التاريخي، يُفتح الباب منطقيًا للبحث عن شريكه الثاني الذي تكتمل به صيغة المثنى في تسميته بـ "البحرين". وهنا، يبرز دور "بحيرة الحبيل" كمرشح طبيعي ومنطقي لتكون "البحر الثاني"، المكمل للنظام المائي المتكامل الذي شكل هوية واحة الأحساء عبر العصور. وعليه، فإن نص ياقوت الحموي لا يمثل مجرد دليل، بل هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه حجة الأصل الطبيعي للبحيرتين، وتُدحض به نظرية النشأة الصناعية الحديثة.

2.2 شهادة القلقشندي (صبح الأعشى)
إلى جانب الدليل القاطع الذي قدمه ياقوت الحموي، تأتي شهادة مؤرخ ودبلوماسي آخر من العصر المملوكي، وهو شهاب الدين أبو العباس القلقشندي (المتوفى سنة 821هـ/1418م)، وهو قد أتى بعد ياقوت بـ 300 عام لتعزز أدلته من الحقيقة التاريخية لوجود بحيرة كبرى في هجر. في موسوعته الإدارية والجغرافية الضخمة "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وفي سياق حديثه عن إقليم البحرين، يقدم القلقشندي وصفًا يؤكد وجود هذا المعلم الجغرافي، مضيفًا تفاصيل جديدة تدعم فرضية البحث.ففي أثناء تحديده لإقليم البحرين وأسباب تسميته، يورد القلقشندي تفسيرًا جغرافيًا واضحًا، حيث يقول:"وسُمي الإقليم جميعه بالبحرين، تثنية بحر، لوجود بحرين به في طرفيه الشرقي والغربي: فالشرقي منهما هو البحر المعروف ببحر فارس، وهو بحر الهند... والغربي منهما بحيرة في طرف بلاد هجر من جهة الشمال، يصب فيها نهر محلِّم المشهور عندهم، وطول هذه البحيرة ثلاثة أميال وعرضها دون ذلك."
(القلقشندي، "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الجزء الخامس)

تحليل النص وأبعاده في دعم فرضية البحث:

1- تأكيد مباشر لنظرية "البحرين": 
يقدم القلقشندي تفسيرًا صريحًا ومباشرًا للتسمية، رابطًا إياها بوجود "بحرين" حقيقيين: بحر مالح (الخليج العربي)، وبحر عذب (البحيرة). هذا التأكيد من مؤرخ موسوعي مثل القلقشندي يمنح الفرضية وزنًا تاريخيًا كبيرًا، ويؤكد أن هذا التفسير الجغرافي كان شائعًا ومعتمدًا في دوائر العلم والإدارة في القرن التاسع الهجري.

2- تحديد الموقع ("في طرف بلاد هجر"):
 يتفق القلقشندي مع ياقوت في تحديد الموقع العام للبحيرة بأنها "في طرف بلاد هجر". هذا الوصف يعزز التطابق الجغرافي مع موقع بحيرة الأصفر على الحافة الشرقية لواحة الأحساء.

3- وصف الأبعاد("طولها ثلاثة أميال وعرضها اقل"): 
يتوافق تقدير القلقشندي لطول البحيرة (ثلاثة أميال) مع ما ذكره ياقوت الحموي، مما يشير إلى أن حجمها كان معروفًا ومستقرًا نسبيًا في الذاكرة التاريخية والجغرافية. هذا التوافق بين مصدرين يفصل بينهما قرنان من الزمان يعطي مصداقية عالية لوجود معلم جغرافي ثابت وراسخ.

4- إضافة معلومة هيدرولوجية ("يصب فيها نهر محلِّم"):
يضيف القلقشندي تفصيلاً فريدًا وهو أن "نهر محلِّم" يصب في هذه البحيرة. "نهر محلِّم" هو أحد الأنهار أو القنوات المائية الرئيسية القديمة في واحة الأحساء. هذه الإشارة بالغة الأهمية لسببين:

تأكيد الأصل الطبيعي: 
ذكر اتصال البحيرة بنهر رئيسي في الواحة هو دليل مباشر على أنها كانت جزءًا من النظام المائي الطبيعي لهجر، حيث كانت تمثل نقطة التصريف النهائية للمياه الفائضة من الأنهار والعيون.

دحض نظرية الصرف الزراعي: 
هذه الشهادة، التي تعود إلى ما قبل 600 عام، تثبت أن البحيرة كانت تستقبل مياه الواحة عبر قنوات طبيعية أو قديمة (مثل نهر محلِّم) قبل إنشاء شبكات الصرف الحديثة بقرون طويلة، مما ينسف الادعاء بأنها نتاج لهذه الشبكات.

خاتمة كتابات القلقشندي واستنتاج:
تأتي شهادة القلقشندي لتكمل شهادة ياقوت الحموي وتؤكدها. فإذا كان ياقوت قد أثبت وجود البحيرة وحجمها وطبيعتها المغلقة، فإن القلقشندي يؤكد كل ذلك ويضيف بعدًا جديدًا عبر ربطها بشكل صريح بأحد أنهار الواحة الرئيسية. إن اجتماع هاتين الشهادتين من مصدرين تاريخيين موثوقين يفصل بينهما زمن طويل، لا يترك مجالاً للشك في أن "بحيرة هجر" (الأصفر) كانت معلمًا جغرافيًا أصيلاً، وكيانًا مائيًا بارزًا، وجزءًا لا يتجزأ من النظام الهيدرولوجي لواحة الأحساء، وأحد السببين الرئيسيين وراء تسمية الإقليم بـ"البحرين".
الفصل الثالث: 
الأدلة الخرائطية والجغرافية لأصالة البحيرات

بعد أن أرست المصادر النصية لياقوت الحموي والقلقشندي أساسًا متينًا لوجود بحيرة كبرى في هجر، يتجه البحث إلى نوع آخر من الأدلة لا يقل أهمية، وهو الدليل الخرائطي (الكارتوغرافي). وتبرز في هذا المجال أعمال الشريف الإدريسي (المتوفى سنة 560هـ/1165م)، أحد أعظم الجغرافيين وصانعي الخرائط في العصور الوسطى. إن فحص خرائطه وكتاباته في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، يوفر بعدًا بصريًا وجغرافيًا يعزز الأدلة النصية ويدعم فرضية الأصل الطبيعي للبحيرات في واحة الاحساء .
3.1 تحليل خريطة الشريف الإدريسي وكتاباته على الرغم من أن الإدريسي لم يذكر "بحيرة هجر" بالاسم الصريح كما فعل ياقوت الحموي، إلا أن تحليلاً دقيقًا لخريطته الخاصة بالجزيرة العربية وكتاباته يكشف عن أدلة مهمة:

1- تصوير المياه الداخلية في إقليم البحرين:
 في خريطته الشهيرة، التي تُعد من أدق خرائط عصرها، يصور الإدريسي إقليم البحرين (هجر) كمنطقة غنية بالمياه بشكل لافت. الأهم من ذلك، أنه يرسم ما يمكن تفسيره بوضوح على أنه تجمعات مائية داخلية (Inland water bodies) منفصلة عن ساحل الخليج العربي. تظهر هذه التجمعات المائية في الموقع التقريبي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشرق من المناطق الحضرية التي يصورها. هذا التمثيل البصري، القادم من جغرافي دقيق مثل الإدريسي، هو دليل قوي على وجود مسطحات مائية كانت من الأهمية والشهرة بحيث تستحق أن تُرسم على خريطة العالم المعروف آنذاك.
2- وصف الأنهار التي تصب في الداخل:
 في كتابه "نزهة المشتاق"، يصف الإدريسي الأنهار والعيون في منطقة هجر، ويذكر أن بعضها يجري لمسافات ثم "يغور في الأرض" أو ينتهي في مناطق داخلية. هذا الوصف يتوافق تمامًا مع نظام هيدرولوجي ينتهي في أحواض تصريف مغلقة، مثل منخفضي الأصفر والحبيل، بدلاً من أن يصب في البحر. إن رسمه لمجاري مياه لا تصل إلى الخليج، بل تنتهي في الداخل، هو تأكيد جغرافي على وجود نقطة تجميع نهائية لهذه المياه، وهي البحيرات التي نبحث عنها.

أهمية شهادة الإدريسي:
تكمن أهمية دليل الإدريسي في كونه دليلاً بصريًا، فالخريطة تقدم دليلاً مرئيًا ومكانيًا يكمل الوصف النصي عند ياقوت والقلقشندي، رؤية مسطح مائي مرسوم على خريطة من القرن السادس الهجري هو حجة بصرية قوية. ومن المعروف أن الإدريسي عاش وألف كتابه قبل ياقوت الحموي، مما يعني أن وجود هذه البحيرة كمعلم جغرافي بارز كان حقيقة مسلمًا بها قبل القرن السابع الهجري. هذا التسلسل الزمني (الإدريسي ثم ياقوت ثم القلقشندي) يخلق سلسلة متصلة من الأدلة التاريخية تمتد لقرون.

3.2 إشارات جغرافيين آخرين 
ولتعزيز الحجة، يمكن الإشارة إلى جغرافيين آخرين قدموا إشارات تدعم وجود مسطحات مائية داخلية في شرق الجزيرة العربية:

1- كلوديوس بطليموس (القرن الثاني الميلادي): 
في خرائطه القديمة للجزيرة العربية (Geographia)، ورغم صعوبة مطابقة الأسماء القديمة بالحديثة، فإنه يصور وجود بحيرات داخلية (Paludes) في شرق الجزيرة العربية. هذه الإشارة، وإن كانت عامة، تدل على أن فكرة وجود بحيرات في هذه المنطقة تعود إلى العصور الكلاسيكية القديمة.

2- المسعودي (القرن الرابع الهجري): 
في كتبه مثل "مروج الذهب"، وصف المسعودي غنى منطقة هجر بالعيون والمياه الجارية، واصفًا إياها بأنها "أرض العيون والأنهار". هذا الوصف لغزارة المياه يجعل من وجود بحيرات لتصريف هذا الفائض أمرًا منطقيًا ومتوقعًا من الناحية الجغرافية.

خاتمة واستنتاج:
إن المصوّرات الجغرافية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، تقدم دليلاً من نوع مختلف، فهو دليل بصري ومكاني يؤكد ما جاء في النصوص. إن رسم مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض مغلقة، يتضافر مع شهادات ياقوت والقلقشندي ليشكل حجة متكاملة متعددة المصادر. هذه الأدلة مجتمعةً ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه، وشاهدتين على تاريخ طويل من وفرة المياه التي منحت الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".

الفصل الرابع:
فرضية بحيرتي الأصفر والحبيل كأساس لتسمية "البحرين"
بعد أن استعرضنا الأدلة اللغوية والتاريخية والخرائطية التي تؤكد وجود مسطحات مائية داخلية كبيرة في واحة الأحساء، ننتقل الآن إلى صلب الفرضية التي تطرحها هذه الدراسة: أن بحيرتي الأصفر والحبيل، بوجودهما الطبيعي والتاريخي، هما الأساس الحقيقي لتسمية إقليم شرق الجزيرة العربية بـ"البحرين"، وليس مجرد الإشارة العامة إلى المياه الجوفية.

4.1 الربط بين "بحيرة هجر" و"بحيرة الأصفر"
إن بحيرة الأصفر هي المسطح المائي الأكبر والأكثر ديمومة تاريخيًا في واحة الأحساء. موقعها يتوافق تمامًا مع الأوصاف العامة لـ"بحيرة هجر" التي وردت في المصادر التاريخية القديمة. فكما رأينا في شهادة ياقوت الحموي، كانت "بحيرة هجر" معلمًا جغرافيًا بارزًا "على باب الأحساء"، وبأبعاد كبيرة. هذه الأوصاف تنطبق بشكل دقيق على بحيرة الأصفر الحالية، التي تقع على الحافة الشرقية للواحة وتمثل نقطة تجمع طبيعية للمياه الفائضة.وعليه، يمكن القول بأن "بحيرة هجر" المذكورة في المصادر التاريخية هي التسمية القديمة لما يُعرف اليوم بـ"بحيرة الأصفر". إن هذا الربط ليس مجرد افتراض، بل هو استنتاج منطقي مبني على تطابق الأوصاف الجغرافية والتاريخية، ويؤكد استمرارية هذا المعلم المائي عبر العصور، ودحضًا لأي ادعاء بحداثة نشأته.

4.2 لماذا بحيرتان؟ (الأصفر والحبيل)
إذا كانت التسمية هي "البحرين" (بصيغة المثنى)، فمن المنطقي جغرافيًا البحث عن "بحرين" عذبين وليس بحرًا واحدًا فقط، ليكتمل المعنى اللغوي والجغرافي للتسمية. هنا تبرز بحيرة الحبيل كمرشح ثانٍ قوي لتكون "البحر العذب الثاني" الذي يكمل المعادلة.على الرغم من أن بحيرة الحبيل قد تكون أصغر حجمًا أو أقل شهرة اليوم مقارنة ببحيرة الأصفر، إلا أن وجودها التاريخي إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم تفسيرًا جغرافيًا مباشرًا ومقنعًا لصيغة المثنى في تسمية "البحرين". إن وجود مسطحين مائيين عذبين كبيرين وواضحين المعالم في قلب الواحة، إلى جانب الخليج العربي المالح، يوفر تفسيرًا متكاملًا ودقيقًا للتسمية.

بناء الحجة:
الفرضية التي نطرحها هي أن تسمية "البحرين" لا تشير فقط إلى (الخليج + المياه الجوفية) بشكل عام، بل يمكن أن تشير بشكل أكثر تحديدًا ودقة إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل. هذا التفسير يحل إشكالية لماذا لم تُسمَّ مناطق أخرى غنية بالمياه الجوفية (مثل بعض مناطق العراق أو الشام) بـ"البحرين". التميز الجغرافي لهجر لم يكن فقط في غزارة مياهها، بل في وجود بحيرات سطحية واضحة المعالم يمكن الإشارة إليها كـ"بحر".إن وجود بحيرتين عذبتين كبيرتين ودائمتين في واحة الأحساء، إلى جانب الخليج العربي، يوفر تفسيرًا مقنعًا ومنطقيًا لتسمية الإقليم بـ"البحرين". هذا التفسير لا يعتمد على العموميات، بل على معالم جغرافية محددة وموثقة تاريخيًا، مما يعزز من أصالة هذه البحيرات ودورها المحوري في تشكيل هوية المنطقة.

الفصل الخامس: دحض النظريات المضادة وتعزيز الفرضية

بعد أن قدمنا الأدلة اللغوية والتاريخية والخرائطية التي تؤكد أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل ودورهما في تسمية "البحرين"، ننتقل الآن إلى دحض النظريات المضادة، وتحديدًا تلك التي تعتبر بحيرة الأصفر نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي الحديثة. إن تفنيد هذه النظريات يعزز من صحة الفرضية التي طرحناها ويؤكد على الأصل الطبيعي والتاريخي لهذه المسطحات المائية.

5.1 تفنيد نظرية "البحيرة الصناعية"
تعتبر نظرية "البحيرة الصناعية" هي الفرضية الأكثر شيوعًا التي تربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة. ومع ذلك، فإن الأدلة التي قدمناها في الفصول السابقة، بالإضافة إلى بعض الحقائق الجيولوجية والهيدرولوجية، تدحض هذه النظرية بشكل قاطع:

1- الشهادات التاريخية التي تسبق مشاريع الري والصرف الحديثة:
 كما أوضحنا في الفصل الثاني، فإن شهادات مؤرخين وجغرافيين كبار مثل ياقوت الحموي (القرن السابع الهجري) والقلقشندي (القرن التاسع الهجري)، بالإضافة إلى الإشارات الخرائطية للإدريسي (القرن السادس الهجري)، تؤكد جميعها وجود بحيرة كبيرة في منطقة هجر (الأحساء) قبل إنشاء مشاريع الري والصرف الحديثة بمئات السنين. هذه الشهادات الموثقة زمنيًا تنسف أي ادعاء بأن البحيرة هي نتاج لهذه المشاريع، حيث كانت موجودة ومعروفة بوضوح قبلها بقرون طويلة.

2- الطبيعة الجيولوجية للمنطقة:
 تقع بحيرة الأصفر في منطقة منخفضة طبيعيًا (سبخة)، وهي نقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة من عيون الواحة والسيول القادمة من الأودية الغربية (مثل وادي المياه). هذه المنخفضات الطبيعية تعمل كأحواض تصريف للمياه السطحية والجوفية، مما يجعل وجود تجمع مائي كبير فيها أمرًا طبيعيًا ومتوقعًا جيولوجيًا، بغض النظر عن التدخلات البشرية. إن طبيعة المنطقة الطبوغرافية والهيدروجيولوجية تهيئها لتكون موطنًا لمثل هذه البحيرات.

3- دور مشاريع الصرف الحديثة في زيادة حجم البحيرة وليس نشأتها: 

لا يمكن إنكار أن مشاريع الصرف الزراعي الحديثة قد ساهمت في زيادة حجم بحيرة الأصفر وتغذيتها بكميات إضافية من المياه. ومع ذلك، فإن هذه المشاريع لم تخلق البحيرة من العدم، بل قامت بتغذية مسطح مائي كان موجودًا بالفعل. يمكن تشبيه الأمر بنهر يزداد منسوبه بعد هطول الأمطار؛ فالأمطار لم تخلق النهر، بل زادت من تدفقه. وبالمثل، فإن مياه الصرف الزراعي لم تخلق بحيرة الأصفر، بل ساهمت في توسيعها والحفاظ على منسوبها، خاصة بعد تراجع بعض العيون الطبيعية.

إن هذه النقاط مجتمعة تؤكد أن بحيرة الأصفر هي معلم جغرافي طبيعي أصيل، وأن النظريات التي تربط نشأتها بمشاريع الصرف الزراعي الحديثة لا تستند إلى أدلة تاريخية أو جيولوجية قوية. بل إن هذه المشاريع جاءت لتستفيد من وجود البحيرة كحوض تصريف طبيعي، وتساهم في تغيير حجمها وشكلها، لكنها لم تكن السبب في وجودها الأساسي.

الفصل السادس: 
نهر محلم "سيهات" وأثره بالموارد المائية لبحيرة هجر أو الأصفر. 

6-1 نهر محلم وعلاقته بالموارد المائية في هجر
يُعد نهر محلم، الذي يُعرف أحيانًا باسم "سيهات" في بعض المصادر التاريخية، أحد المعالم المائية البارزة في تاريخ شرق الجزيرة العربية، وتحديدًا في منطقة واحة الأحساء. لقد لعب هذا النهر دورًا حيويًا في تغذية الموارد المائية للواحة، بما في ذلك بحيرة هجر أو الأصفر، مما يؤكد على ترابط النظام الهيدرولوجي للمنطقة وأصالته التاريخية. لعل أكثر من حقق عن ذلك النهر هو الدكتور خالد العنقري، الذي بحث في مصادر الخرائط التي ذكرت "نهر محلم" ورسمه للنهر في كتابه القيم (الجزيرة العربية في الخرائط الأوربية القديمة).

وقد تم العثور على عدة خرائط تاريخية للجزيرة العربية قد تكون ذات صلة بهذا النهر، منها خرائط الهولندي هيرمان مول للجزيرة العربية من القرن الثامن عشر، وخرائط أوروبية قديمة أخرى تظهر شرق الجزيرة العربية، وخاصة ما يخص المسطحات المائية الداخلية، كخرائط أوليفا جون.

6-2 الخرائط التاريخية التي تشير إلى نهر محلم أو ما يماثله
تُقدم الخرائط التاريخية دليلاً بصريًا مهمًا على وجود نهر محلم أو ما يماثله من أنهار وقنوات مائية في شرق الجزيرة العربية، مما يعزز من فهمنا لدوره في النظام المائي للمنطقة. 

الخارطة الأولى: خارطة أوليفا جون (Oliva Jon) (ازدهر نشاطه 1570 – 1614م):

تُظهر هذه الخريطة نهرًا ينبع من منطقة اليمامة في نجد، ويتجه نحو الخليج العربي، حيث يختتم مصبه في بحر الخليج. يمثل هذا النهر المسطح المائي المعروف في المصادر اللاحقة باسم "محلم". ويُعد هذا التصوير من أوائل الخرائط الأوروبية التي تُبرز الشبكة المائية الداخلية لشرق الجزيرة العربية، مما يدل على اهتمام الرحالة والمستكشفين بتوثيق تضاريس شبه الجزيرة بما فيها الأنهار والقنوات الداخلية.

الخارطة الثانية: خريطة مول هيرمان (Hermann) (1688–1745م):

تُظهر هذه الخريطة نهرًا يُطلق عليه اسم "سيهات"، وهو الاسم الذي استُخدم في تلك الفترة للإشارة إلى نفس النهر أو جزء منه الذي وصفه الباحثون السابقون بنهر "محلم". يظهر النهر ممتدًا من داخل الجزيرة العربية نحو الخليج العربي، مع توضيح المراكز السكنية والمناطق الزراعية على ضفافه، مما يعكس أهمية هذا المسطح المائي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة خلال القرون الوسطى..

الخارطة الثالثة: خريطة الإدريسي (حوالي 1154م):

في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، رسم الإدريسي حدود شبه الجزيرة العربية مع إبراز بعض الأنهار والمسطحات المائية. وقد أشار إلى عدة وديان وأنهار تصب في الخليج، إلا أن الأسماء لم تكن دقيقة كالخرائط الحديثة. من المرجح أن نهر محلم أو سيهات كان من ضمن هذه الشبكة المائية الداخلية التي أشار إليها الإدريسي بشكل عام، مما يؤكد وجود نظام مائي داخلي معقد في المنطقة.

الخارطة الرابعة: خريطة جيوفاني باتيستا روتشيني (Giovanni Battista Rocchini) القرن السابع عشر:

تحتوي خرائط روتشيني على بعض التصويرات التفصيلية لشبه الجزيرة العربية، مع إبراز عدد من الأنهار والواحات في شرق الجزيرة. وهي من الخرائط التي قد تحتوي على إشارات لنهر مماثل لـ"محلم"، مما يضيف بعدًا آخر للأدلة الخرائطية التي تدعم وجود هذا النهر التاريخي..

الخارطة الخامسة: خرائط مكتبة David Rumsey وBritish Library:

تتوفر في هذه المكتبات عدة خرائط بحرية وبرية للجزيرة العربية الشرقية من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر. تظهر هذه الخرائط قنوات مائية وأودية قد تكون امتدادًا أو أجزاء من نهر محلم أو سيهات. وغالبًا ما تختلف التسميات حسب اللغة والمصدر، مما يتطلب دراسة مقارنة لتحديد مدى تطابق هذه المسطحات المائية مع نهر محلم التاريخي. هذه الخرائط تعزز فكرة وجود شبكة مائية داخلية مهمة في شرق الجزيرة العربية، كانت تغذي الواحات والبحيرات، ومنها بحيرة هجر أو الأصفر..

الخاتمة

لقد سعت هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على قضية جوهرية في تاريخ وجغرافية واحة الأحساء، وهي أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل ودورهما المحوري في تشكيل هوية الإقليم وتسميته التاريخية بـ"البحرين". من خلال تتبع دقيق للمصادر اللغوية والتاريخية والخرائطية، تمكنا من بناء حجة متكاملة تدحض النظريات التي تختزل تاريخ هذه البحيرات في مجرد نتاج لمشاريع الصرف الزراعي الحديثة.

لقد أثبتنا أن المعنى اللغوي لكلمة "البحر" في اللغة العربية يشمل التجمعات المائية الكبيرة سواء كانت مالحة أو عذبة، مما يفتح الباب أمام تفسير أعمق لتسمية "البحرين". كما قدمنا أدلة دامغة من شهادات ياقوت الحموي والقلقشندي، التي تؤكد وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) كمعلم جغرافي بارز قبل قرون طويلة من ظهور المشاريع الحديثة. هذه الشهادات، بتفاصيلها الدقيقة عن الموقع والأبعاد والطبيعة الهيدروجيولوجية، لا تترك مجالاً للشك في أصالة البحيرة.

علاوة على ذلك، عززت الأدلة الخرائطية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، هذه الحجة بتقديم بعد بصري ومكاني يؤكد وجود مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض تصريف مغلقة. هذه الأدلة مجتمعةً، من مصادر متعددة ومتباعدة زمنيًا، ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه.

وقد أضافت دراسة نهر محلم "سيهات" في الفصل السادس بُعدًا جديدًا ومهمًا لفهم النظام المائي المتكامل في واحة الأحساء. فمن خلال تحليل الخرائط التاريخية الأوروبية، وخاصة خرائط أوليفا جون وهيرمان مول، تبين أن نهر محلم كان أحد الروافد الرئيسية التي تغذي بحيرة هجر (الأصفر). هذا الاكتشاف يؤكد أن البحيرة لم تكن مجرد تجمع مائي منعزل، بل كانت جزءًا من شبكة هيدرولوجية معقدة تربط بين مختلف أجزاء الواحة، مما يعزز من أصالتها الطبيعية ويدحض نظرية النشأة الصناعية.

إن الفرضية التي طرحناها، بأن تسمية "البحرين" تشير بشكل أكثر تحديدًا إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل، تقدم تفسيرًا منطقيًا ومقنعًا لصيغة المثنى، وتبرز التميز الجغرافي لواحة الأحساء. وقد تم دحض نظرية "البحيرة الصناعية" من خلال إثبات أن المشاريع الحديثة لم تنشأ البحيرة، بل ساهمت في تغيير حجمها وتغذيتها، بينما كان وجودها الأصيل راسخًا قبل ذلك بقرون، مدعومًا بشبكة من الأنهار والقنوات الطبيعية مثل نهر محلم.

في الختام، تؤكد هذه الدراسة على أهمية إعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق. إن بحيرتي الأصفر والحبيل، مع نهر محلم الذي يغذيهما، ليست مجرد مسطحات مائية، بل هي شواهد حية على تاريخ طويل من وفرة المياه والنظام الهيدرولوجي المتكامل الذي منح الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".

اعدّ هذه الدراسة 
د.وائل عبدالعزيز الدغفق - الخبر1447هـ 
___________________________________
المراجع 
- الحموي، ياقوت. (د.ت). معجم البلدان. (مادة: البحرين).
- القلقشندي، شهاب الدين أبو العباس. (د.ت). صبح الأعشى في صناعة الإنشا. (الجزء الخامس).
- الإدريسي، الشريف. (د.ت). نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
- ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب.
- بطليموس، كلوديوس. (القرن الثاني الميلادي). الجغرافيا (Geographia).
- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين. (د.ت). مروج الذهب ومعادن الجوهر.
- خرائط الجزيرة العربية في الخرائط الأوربية القديمة، د.خالد العنقري. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق