الأحد، 3 أغسطس 2025

الجزيرة التي نسيت انها عربية "مالطا" وجولة رحال الخبر عام 2015 الموافق 1436هـ



خراب مالطا... جزيرةٌ نسيتْ أنها عربية

المقدمة:

لم يكن صيف عام 2015 مجرد عبورٍ في مرافئ الذكريات، بل كان انغماسًا في جوهرةٍ نُسيت بين أمواج المتوسط، تُدعى مالطا.
صخرةٌ ضالة بين العروبة واللاتينية، تلوح لك بأسماءٍ عربيةٍ تترقرق بين جدرانها القديمة، وتهمس بلغاتٍ مكسّرة، كأن الزمن خانها ونسيَ أن يُخبر أهلها بأنهم أحفادٌ للغةٍ وأمةٍ مرت من هنا.

دخلتُ فاليتا... وتأملتُ أرصفتها التي لا تزال تحمل ظلال الفرسان والبحارة، ثم اتجهتُ إلى جزيرة غودش، حيثُ برك الملح وقصر Qolla l-Bajda، وهناك شعرتُ أن الريح تتكلم عربيًا منسيًّا.

خريطة تفصيلية لجزيرتي مالطا وغودش

من فوهة البحر الزرقاء إلى جروف Ras id-Dawwara، ومن الكهف الأزرق إلى غار الريح، من بئر زيوجة إلى رأس الفنّك، كنتُ أتتبع خيوط الهوية المختلطة، في لهجةٍ تشبه اللهجة التونسيةً مع خلطة لبنانيةً وسلطة أوروبيةً ممسوخة، وفي ملامحَ تحفظ من الأندلس نكهةً، ومن الجزيرة العربية صدى.

من ازقة مدينة "لا مدينة" غرب مالطا 

دخلتُ مدينة، "المدينة" والصامتة، وشهدتُ المسجد الكبير الذي بناه معمّر القذافي واقفًا كأنما يقول: "نحن هنا… ولو بصمت".
وفي الأزقة، راقصتُ الكلمات بين العربية والإيطالية، بين الميراث والحداثة، بين الفقد والاستذكار…

تلك كانت رحلتي، ومنها كانت البداية…

فقد نسجتَ بخطواتي في جزيرتي مالطا وغودش خريطةً من الجمال المتداخل بين العروبة الغائبة الحاضرة، والأوروبية المتحضّرة المتأرّبة. وها أنا أقدّم لكم روايةً أدبية ترحالية بأسلوب سلس، تنبض بما رأيته، وتُظهر ذوق رحال الخبر المتفنن والذي يجمع بين التأمل العميق والدهشة والذائقة الترحالية.


 "في جزيرةٍ نسيت أنها عربية"

لم يكن صيف عام 2015 عاديًّا، فقد حملتني الرياح إلى صخرةٍ تطفو بين الأمس العربي والغد الأوروبي، اسمها مالطا. لا تُشبه شيئًا، ولا يشبهها شيء، تتداخل في شوارعها اللغة كما تتداخلُ الصخور في جسدها الجبليّ، وتتمازج الأرواح كما تمتزجُ مياهُ المتوسط عند جروفها العجيبة.

جزء من خليج مالطا الداخلي وقلاع فاليتا العاصمة

دخلتُ فاليتا، تلك العاصمة التي تحنّ إلى العثمانيين من زاوية، وتشمخ برأس فرسانها من زاويةٍ أخرى. وعلى رصيفها البحري، تأملتُ وجوه المارة، أبحث في ملامحهم عن شيء من هلال بن أبي بقال، أو لعله طيفٌ من أبي نواس قد تاه في الأزقة.

من المطل على خليج فاليتا لمالطا وخليجها 

ثم انطلقتُ إلى جزيرة غودش، حيثُ قصر الملح القديم، Qolla l-Bajda Battery، يقف كبقايا حضارةٍ عربية هجرتها الرمال وتركها البحر في عهدة الذكرى. وعلى مقربةٍ منه، كانت برك الملح تصطفّ كأصابع الزمن، تنقشُ على وجه الأرض حكايات العمل والشمس والعرق.

خلفي برك وممالح استخراج الملح في غودش

وفي الغرب، هناك حيث فوهة البحر الزرقاءBlue Hole Viewpoint – تلك التي لو أُلقي فيها الحنين لعاد إلينا مرسومًا بلون البحر. إنها واحدة من عجائب الطبيعة، تفتح فمها لجوف البحر وتدعوك إلى الغوص في سرٍّ لا يُقال.


واصلت الطريق إلى Ras id-Dawwara، رأسٌ تدور فيه الأرض إن وقفت على حافته، كأنما هو حارسٌ صامت يطل على البحر من أعاليه.

أما الكهف الأزرق، فهو أغنيةُ الحنين الحزينة... هناك في الجنوب الشرقي من الجزيرة الأم، يغني البحر لحناً بلون اللازورد، وتتنفس الكهوف بعمق التاريخ العربي الذي ما زال يُهمس في الصخور.


غار الريح... يا له من اسمٍ! كم حمل من قصص المسافرين والعشاق والغرباء، سكنته الرياح فصارت له أنفاسٌ، كل زائرٍ يخرج منه محمّلاً بعبقٍ لا يُوصف.

وزرتُ قرية بئر زيوجة، التي تحتفظ باسمها العربي في عنادٍ جميل، كأنها تأبى الترجمة، وتكتفي بأن تكون شهقةً من ماضٍ عربيّ لا يموت.

وهناك، عند رأس الفنّك ومرتفعات زبار، رأيتُ كيف تسكن العربيةُ في الحجارة، وتتسللُ إلى أعمدة الكنائس، وتتوارى خلف نوافذ البيوت، وتتنفس في أسماء القرى والشوارع، وكأنّ الأغالبةَ ما زالوا بيننا.

ولأنني أهوى تتبّع الأرواح القديمة، دخلتُ المدينة القديمة (لا مدينة)، وهي أشبه بكتاب مفتوح، صفحاته من الحجر، وكلماته من عبق التاريخ.

      مع امام مسجد مريم البتول وسط مالطا 

وفي إحدى الزوايا، وجدتُ المسجد الكبير الذي بناه معمّر القذافي، يقف شامخًا كغريبٍ وجد في الجزيرة غربةً تشبهه، واحتضن المصلّين كأمٍّ حنونة تعيد أبناءها إلى حضنها.


 قصة بناء مسجد جامع مريم البتول بمالطا

عند استقلال مالطا عن بريطانيا 1964 ، كانت ليبيا كانت أول دولة تعلن الاعتراف بها.

وبعد استقلال مالطا منح رئيس وزراءها "دوم منتوف" في السبعينات القذافي قطعة أرض مساحتها 6500 هدية، وعرفانا منه على مواقفه ودعمه المتواصل لمالطا و كفاحها من اجل نيل استقلالها الكامل من بريطانيا.

القذافي امر ببناء أول مركز إسلامي كامل في الجزيرة، حيث ضم مسجد ومدرسة مريم البتول و المقبرة الإسلامية.

والمسجد الذي يتسع لاكثر من 500 مصلٍ كان أول مسجد يبنى في الجزيرة بعد خروج الاسلام منها عام 1492م.

وخلال زيارة القذافي لمالطا عام 1984 قام بافتتاح هذا المسجد ورفع الاذان فيه لاول مرة بنفسه. 

الألسنة هنا في مالطا ، كانت سيمفونية عجيبة... مزيجٌ من التونسية المنسية، واللبنانية المحوّرة، والإنجليزية المتعجرفة، والإيطالية الغنائية. فإذا ناداك طفل في السوق بلغةٍ هجينة، فاعلم أن اللغة العربية ما زالت تعيش، لكن في ثوبٍ آخر، أو على هيئة ظلّ.

                 قرية بوباي الشهيرة 

كل زاويةٍ زرتها، من قرية بوباي السينمائية إلى جزر كمونة بتجاويفها وخلجانها المتراقصة، كانت تشهد بأن هذه الأرض لم تكن يومًا مجرّد جزيرةٍ أوروبية، بل كانت قلبًا عربيًا تنكّر للعروبة حينًا، وأحبّها في السرّ دومًا.

 خلفي حصن فاليتا والذي لم يمنع من خرابها

مسجد القذافي وسط الجزيرة من ابرز معالم الاسلام هناك 


خراب مالطا:

 سرد لتاريخ سبعة خرابات وليس واحدة. 

لم تكن جزيرة مالطا مرتعًا للسلام يومًا، بل كانت جبهةً متقدمة في صراع حضارات. وكل من مرّ بها، ترك فيها أثراً... وخراباً. فكان تاريخها متسلسلًا على سبعة فصول من الانهيار:ا

الخراب الأول – 868م

فتحها الأغالبة بقيادة هلال بن أبي بقال، وبدلاً من إعمارها، هُجّر سكانها، وقَلَّ العمران، وسادت الوحشة، فبدأ يُشار إليها بـ"خراب مالطا".ا

الخراب الثاني – 1091م

استولى عليها النورمانديون المسيحيون بقيادة روجر الأول، فانهار ما تبقّى من الوجود الإسلامي، وتم استغلال الجزيرة كقاعدة لحروب صقلية، دون تنمية حقيقية.

الخراب الثالث – 1530م

سلّمها الإمبراطور شارل الخامس إلى فرسان القديس يوحنا، الذين أقاموا نظامًا عسكريًا قاسيًا، فُرضت فيه الضرائب، وتم تهميش السكان، وانقطعت مسارات التنمية.

الخراب الرابع – 1565م

الحصار العثماني الكبير بقيادة سنان باشا وطرغود باشا، لم ينجح في السيطرة، لكنه خلّف دمارًا هائلًا اقتصاديًا وبشريًا، دفع مالطا ثمنه طويلًا.

الخراب الخامس – بعد 1600م

دخلت الجزيرة في عهد الاستبداد الداخلي من فرسان مالطا أنفسهم، تفاقم فيه الفقر، وتراجعت الزراعة، وساد الإهمال والتفكك الإداري.

الخراب السادس – 1798م

دخل نابليون بونابرت الجزيرة في طريقه إلى مصر، وطرد الفرسان، ونهب الكنوز، وفرض العلمانية بقوة السلاح. ثار المالطيون، لكن الثورة زادت الانهيار الداخلي، وطلبوا النجدة من بريطانيا.

الخراب السابع – 1800م إلى 1964م

دخل البريطانيون واحتلوا مالطا حتى الاستقلال. لم يُعمروها، بل جعلوها قاعدة عسكرية، واستُنزفت مواردها لمصلحة الإمبراطورية، ولم تشهد الجزيرة تنمية تليق بتاريخها حتى مغادرتهم.

هكذا، على مدى ألف عام، تعاقبت ستّ حضاراتٍ وسبع خراباتٍ على مالطا، وكل قوةٍ كانت تعدُ بالخلاص، فتترك وراءها رمادًا جديدًا... ولهذا اشتهرت باسم "خراب مالطا".

رحلتي إلى مالطا:

ربما سمعتم المثل الشهير 

كالذي يؤذن في مالطا "

فهو مثل ذهبت به الركبان ويعني مالاطائل من ورائه، فكما هو الشيء الذي لا فائدة منه فكذلك المؤذن في مالطا لن يجد له مستجيبا، ولاملبيا .

وهو اشارة في ان الاثر العربي الإسلامي في مالطا قد ذهب ولن يعود… 

لكننا سنبشركم وفي سياق روايتنا لهذه الرحلة فإنكم ستسعدون بسماع بشرى دخول الناس افواجا في هذه الجزيرة المتوسطية للإسلام .. 

 موقع جزيرة مالطا بين ايطاليا وتونس 

نحن هنا في جزيرة مالطا حيث تحيط بها امواج البحر المتوسط ، هنا حيث تتراقص أمواج التاريخ على شواطئ الجزر، تكمن مالطا، لؤلؤةٌ صقلتها أيادي الزمن وحفرت فيها قصصاً لا تُنسى. لقد كانت رحلتي إليها أكثر من مجرد استكشاف جغرافي؛ كانت غوصاً في أعماق الذاكرة، محاولةً لاستجلاء سرّ مثلٍ قديمٍ ظلّ يتردد على الألسن: "كمن يؤذن في مالطا". مثلٌ يُضرب للدلالة على العبث، على الفعل الذي لا طائل من ورائه، فكيف لأذانٍ أن يُرفع في أرضٍ غابت عنها أصداء التوحيد لقرون؟

زيارتي للمركز الاسلامي في مالطا وجامع مريم البتول. 

هذا التساؤل، الذي طالما راودني، وجد إجابته في رحاب المركز الإسلامي بمالطا، حيث التقيت بفضيلة الإمام والشيخ محمد السعدي

رجلٌ يحمل في عينيه نور الإيمان، وفي حديثه عبق التاريخ. لقد أكرمني ببحثٍ قيّمٍ خطّه بيمينه، كاشفاً عن فصولٍ منسيةٍ من تاريخ هذه الجزيرة. ففي عام 870 للميلاد، وطأت أقدام العرب الأغالبة، الذين بسطوا نفوذهم على تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا وصقلية وسردينيا، أرض مالطا، حاملين معهم راية الإسلام. وما هي إلا سنواتٌ حتى اعتنق المالطيون جميعاً هذا الدين الحنيف، وظلّوا على إسلامهم قرابة 380 عاماً.لكنّ أقدار الله شاءت أن تنقطع هذه الصلة الغامضة بالمسلمين في عام 1250م، تحت وطأة سيطرة النورمانديين، ثم فرسان القديس يوحنا، الذين بذلوا قصارى جهدهم لمحو كل أثرٍ إسلاميٍ من الجزيرة. وهكذا، خيّم الصمت على مآذن مالطا، وتوقف الأذان، وغاب ذكر الله عن أرجائها، وكأنّ الإسلام لم يطأ أرضها يوماً.ظلّ هذا الحال قائماً لقرونٍ ثمانية، حتى السبعينيات من القرن الماضي، حين امتدّت أيادي التعاون من ليبيا، عبر الزعيم الليبي القذافي، لمدّ جسور التواصل مع الجالية المسلمة. وبفضل الله ثم جهود جمعية الدعوة الإسلامية العالمية الليبية، تأسس أول مسجدٍ ونواةٍ إسلاميةٍ في مالطا عام 1982م. حينها، ارتفع الأذان من فوق مئذنة جامع مالطا المركزي، معلناً عودة الروح إلى جسدٍ طالما ظنّوه ميتاً.

 وكما قال الشيخ محمد السعدي، بكلماتٍ تفيض حكمةً: "لقد أصبح المثل المشهور 'كمن يؤذن بمالطا' في ذمة التاريخ!".مالطا، هذه الجزيرة الصغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها 470 ألف نسمة. منهم 38 ألف مسلم، غالبيتهم من الجاليات الأفريقية والشامية. أما المالطيون الأصليون، فقد بدأ الإسلام يدخل قلوبهم من جديد، فبعد أن كان عددهم 500 مسلم، وصل اليوم إلى حوالي 5000 مسلم مالطي، والحمد لله. ورغم هذا النمو، تواجه الجالية المسلمة تحديات جمة، فالمصليات الست الموجودة غير مرخصة، نظراً لصعوبة الحصول على التراخيص هنا. والحاجة ماسة لمسجد كبير يجمع شملهم ويسعهم. يسعى المركز الإسلامي، بصلاته الوثيقة مع الإدارة السياسية في البلاد، لتوسيع مطالبهم عبر استغلال أصواتهم الانتخابية، وقد نالوا شيئاً يسيراً بعد انقطاع الدعم المباشر من ليبيا بعد الثورة. ومؤخراً، حصلوا على مقبرة خاصة بهم، بعد أن كانوا يضطرون لدفن موتاهم في مقابر النصارى لفترة طويلة، وهو ما كان يثقل كاهلهم.وفي عام 1997م، تأسست مدرسة خيرية تضم الروضة والابتدائية وحتى الثانوية، لكن الظروف المالية القاسية أجبرتهم على إلغاء القسم الثانوي في عام 2017م، وهو ما ذكره إمام المركز الإسلامي بحسرةٍ وألم. وما زالت الخطى حثيثة لطلب أي معونة، سواء كانت معنوية أو عينية، لاستدامة العمل الخيري في هذه المنطقة التي كانت يوماً ما إسلامية بالكامل. إنها قصة صمودٍ وكفاح، تجسد إصراراً على إحياء جذوة الإيمان في أرضٍ شهدت فصولاً من النسيان.

حدثني الشيخ محمد السعدي عن المصاعب التي واجهتهم مع الانفراجات والبركات التي نالوها بنيتهم الصادقة، لتفتح لهم قلوب الساسة بالجزيرة ليأخذوا العون والتمويل بعد أن توقفت ليبيا عن المساندة نظراً للظروف التي ألمت بهم. وإحدى تلك الانفراجات حصولهم على أرض كبيرة لإنشاء مقبرة لهم بعد أن عانوا من دفن المسلمين في مقابر النصارى، والحمد لله.

ويتابع الأخ الفاضل الشيخ محمد السعدي بحديث شيق حول المركز، ببداية أيامه الذهبية، ومروراً بتوقف المعونات الليبية لتبدأ مراحل العناء والضنك بسبب الصعوبات المالية وتراكم الديون نتيجة عدم وجود دعم، وكاد المركز أن يغلق أبوابه في ظل تراكمات الديون وغلق صمام العطاء. فبدأت الصلة بين المركز ورجاله تخاطب ود رئاسة الوزراء، وخاصة أن النظام الديمقراطي يكفل لهم للحكومة والمركز التبادل المنفعي بحنكة وسياسة. 

وبعد حصول المركز على ولاء أكثر من أربعة آلاف مسلم مالطي الجنسية، خلاف الآلاف غير الحاصلة للجنسية الذين يقدرون بـ 38 ألف مسلم بالجزيرة، فقد كانت تلك الأربعة آلاف نفساً تحمل أربعة آلاف صوتاً مؤثراً في الانتخابات. وقد لعبها المركز صح، إن صح التعبير، وأخذ يلوح بها حينما زار رئاسة الوزراء قبل خمس سنوات، وحصل على تمويل بقرض لملم من خلاله بعض مصاعب ما يجد، وأكمل مسيرته رغم أنه تنازل بكون مديرة المدرسة (مدرسة البتول مريم العذراء) وهي برلمانية، استطاع من خلالها تأييد بقاء المركز كوجهة مالطية الإدارة، وكونها مديرة برلمانية تضمن إطار الإدارة الأمينة للمدرسة. ولكن تتراكم مرة أخرى الديون، ويأتي موسم آخر لتبدأ المساومة مع مرشح معارض مرشح للرئاسة، وجُلب كضيف، وتفاجأ بالأربعة آلاف صوت يقفون ملوحين تحت تصرف إدارة المركز، ليبدأ المركز بإدارة التعاون باحترافية، وأخذ وعوداً بقروض بلا ربا وإسقاط الديون الماضية. وهذا لم يكن صعباً للمعارض الذي كان نهماً لكل صوت، فوافق على الفور وتم والحمد لله فوزه، وقد أوفى بوعده وتوالت العطايا الربانية بفضله وإخلاص العاملين بالمركز، ليسهل الله لهم كل صعب ويفتح لهم كل باب موصود، فتأتي انفراجات متتالية . 

وأخذنا جولة بالمركز الذي يقع على شارع رئيسي في العاصمة فاليتا، وقد ضم للمركز المدرسة التي ذكرت بدورين، وقرب المركز مقبرة حديثة فرح المسلمون بها، مع مطعم ومكتبة قد حوت أفضل كتاب دعم للإسلام وأهله في ترجمة للقرآن باللغة المالطية ولأول مرة، وقد أشرف على التأليف رئيس كلية اللغات بجامعة مالطا وفضيلة إمام المركز الإسلامي الشيخ محمد السعدي، بعد أن ألف سابقاً ترجمة ليست مدققة ولم تكن بالمعنى الحقيقي لترجمة القرآن، إنما كانت لقسيس أراد تراجم توافق دينه في بعض ما جاء به القرآن وحوت أخطاء جسيمة. أما هذا فهو محقق وبإشراف شيخ وإمام المركز العربي الذي كان له بعد الله الفضل في التحقق منه وإيداعه وطباعته على نفقة المركز ليكون داعماً ومرجعاً للمسلمين في مالطا. كما بني المسجد الجامع بمبناه النموذجي من مسجد ومئذنة وساحة وبوابات ليكون نموذجاً بيناً لكل مسلم ومعلماً واضحاً بأن الإسلام هنا وهو باق. 

وقد بني المسجد مقابل الطريق العام فالكل يراه مع مئذنته الشامخة الوحيدة بالجزيرة والتي تعطي إشارة لوجود الإسلام وأهله بعد أن قضي عليه في فترة ليست بالقليلة وكأنهم لم يكونوا هنا ولم يكن أذان ومؤذن ولا مئذنة وجامع، فبعد انقطاع ألف عام هاهو يعود كما كان بفضل الله ورحمته، وجزى الله أهل الخير في ما هو قائم مع حاجتهم المعنوية والحسية في دعمهم وبقاء جذوة الإسلام الفتية لتبقى وهي أمانة فمن يشمّر ساعديه لها ويقول ها أنا ذا.

 فالباب مفتوحاً والعطاء سهلاً وميسراً فلا يتبقى إلا عزم الرجال وإرادتهم ليمدوا يد العون لإخوانهم الذين سيخدمون الدين بمقل أعينهم وبمهج قلوبهم وأولئك قد كفونا العناء في الإدارة والمكوث والجلوس بالجزيرة لتكون لهم مقراً وموئلاً، فمن لهم في الدعم والعطاء. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.


جولة استطلاعية لجزر مالطا: 

عين الرحّال لا عين السائح وبصفتي رحّالاً متجولا، يسعدني أن أبسط لكم مشاهداتي وملاحظاتي حول هذه الجزر المالطية الأربع، التي زرتها في صيف عام 1439هـ، الموافق يوليو 2018م. كانت الزيارة في أوج حرّها وشمسها الساطعة، فلم يكن التوقيت موفقاً البتة لمن يبحث عن الاستجمام والراحة. لكنني لست من هؤلاء؛ فهمّي الأول في ترحالي هو الاطلاع على التاريخ، وطبيعة الأرض، وحياة الناس الاجتماعية، وأنقل ما أراه بعين الرحّال، لا بعين السائح العادي. ولعلي أوفق في نقلٍ جميلٍ نافعٍ لكل من يقرأ ويتابع. وبسم الله وعلى بركة الله نبدأ رحلتنا المتوسطية الطراز.

بداية الرحلة: 

واستعدادٌ للمشي عبر تاريخٌ عريق تتبعت اثاره عبر الارض ومن خلال جدران ابنية الجزيرة .

كما ولكل رحلة بداية، فلكل بداية استعداد وتحضير جيد، لنستغل الوقت ونغطي ما نستطيعه من جولة سريعة عبر تخطيط يشمل الحزيرة واهم مافيها. 

كانت أربعة أيام، وأعتبرها طويلة لجزيرة لا يتعدى طولها 25 كيلومتراً. وبهذا الطول، تعتبر مالطا أصغر دولة مستقلة ومعترف بها عالمياً. وعلى الرغم من صغرها، إلا أنها تحوي تاريخاً كبيراً بتنوع الحضارات التي تناوبت عليها، من بداية الرومان المسيحيين في القرن الأول الميلادي وحتى القرن السادس الميلادي، حينما فتحها الأغالبة العرب ومكثوا بها 380 عاماً. ومن بعدهم أتى النورمانديون، ثم فرسان القديس يوحنا، وحتى حصار العثمانيين لهم عام 1565م، بقيادة مصطفى باشا وبيالي باشا ، ولم يدخلوها. ثم كان أول تدمير لها على يد نابليون الفرنسي، الذي مكث عامين من عام 1798م، وخربها، وهو المقصود بالمثل الشهير "خراب مالطا". ثم أتى الإنجليز وطردوا الفرنسيين عام 1800م، ومكثوا 166 عاماً، وكان لهم أيضاً جزء لا يخفى من التدمير والخراب، وأيضاً من التطوير والاستغلال للجزيرة ومواردها الاستراتيجية كموانئ تتحكم بوسط البحر المتوسط، .

وصلت للجزيرة عبر مطارها الدولي الوحيد الصغير، والذي يقع في منطقة (لوكا)، ويبعد عن العاصمة (فاليتا) مسافة مشي بالأقدام فقط، إذا عرفنا أن عرضها فقط 10 كيلومترات بالإضافة لطولها الصغير وهو 25 كيلومتراً. والمطار يقع وسط الجزيرة. استأجرت سيارة صغيرة للتنقل فيها وأخذ راحتي بالتوقف في كل مكان والدخول لكل مكان.

 وقد وصلت مساءً لأصل إلى سكني المحجوز مسبقاً في مدينة صغيرة ملاصقة للعاصمة فاليتا، وهي مدينة (سليمة). جلست هناك ليلتي الاولى في خليج سليمة والمطل على البحر، بسعر ليس رخيصاً لفندق من الدرجة الثانية، فالأسعار هنا نار.

 خلدت للنوم استعداداً ليوم ممتلئ بالاكتشافات الترحالية بإذن الله.

لغة مالطا: 

ان السامع للغات سكان جزيرة مالطا فهو حتما سيعرف ان تلك اللغة شاهدٌ حيٌّ على التاريخ العربي ، وإذا كنتم تلاحظون اسم المدينة التي سكنتها اسمها (سليمة) ، وهي واحدة من مدن عديدة ذات أسماء عربية، فأسماء المدن في الجزيرة غالبيتها عربية كاملة، كما هي لغتهم التي تحوي نحو 80% من مصطلحات اللغة العربية. ولا عجب حينما نعرف أن هذا الأمر حصل نتيجة الوجود العربي المكثف وتأسيس حضارة في تلك الجزيرة من كل شيء، ولمدة 380 عاماً، لتكون هي الأصل، رغم ما مر بها من تغيير الهوية وقلب الدين للنصرانية، كما حدث في الأندلس وأهلها. لكن هنا في مالطا اختلف الوضع، فبقيت اللغة وذهب الدين. والعجب أن المساجد لم يُرَ لها أثر، فقد اجتهدت على البحث عنها لكن لم أوفق بشيء، عدا أسماء (طريق المسجد) في مدينة "المدينة" العتيقة. فكنا نشاهد في الأندلس بقايا مساجد حُوّلت لكنائس، لكن هنا لا شيء البتة. ويحتاج الأمر بحثاً أكبر لنقف على هذا المسخ الذي لم يُبقِ رغم التاريخ الذي عاشه المسلمون ولثلاثمائة وثمانين عاماً من الإسلام لجميع أهل الجزيرة، وبهذا الغموض انتهى كل شيء.

نرجع للغة التي بقيت شاهداً وحيداً حياً للتواجد العربي الإسلامي عبر الأغالبة، والذين امتد حكمهم أبعد من مالطا، فوصلوا صقلية وأسسوا حضارة هناك رأيت بعضها بزيارتي الأخيرة، كما حكموا كريت اليونانية أيضاً، بالإضافة لوجودهم الأصلي في تونس وغرب ليبيا وشرق الجزائر. فنجد أن بقاء اللغة في أسماء المدن الكثيرة، ولنأخذ مثلاً أكبر وأقدم مدينة والتي سميت (مدينة)، وكانت العاصمة للحكم في قديم الزمان، وبقيت حصونها وأزقتها، وفيها وجدت طريق المسجد بدون مسجد. كما توجد هناك مدن عربية الاسم مثل (مليحة، ومرسى، وزيتونة، والرباط، والناظور، وعين سالم، وغيرها العشرات). كما أن أسماء العوائل فيها أيضاً بقيت كما هي عليه مثل الأسر (عبدالله، وأبوحجر، وكسّار، وأبودجيج... إلخ)

وأهم مصطلحات الكنيسة لديهم فيها عربية مثل (الكنيسة، الله، الشيطان، قسيس، راهب، ذنوب، ومغفرة، وصوم، ورمضان... إلخ).

 وأما الأعداد فبقيت كاملة عربية من الواحد إلى المليون، لكن بلكنة تشبه اللبنانية مع تحريف مغاربي للغة أو نحت الكلام وأكل بعضه، فكلمات مثل (اليوم ، عشية ، نراكم ، انزل ، اصعد ، تريد ، تشرب ، تاكل)  كلها من لغتهم، لكن يحتاج السامع العربي الزائر ولكي يعرف الكلمة من ان يدقق بين الحروف ليفهم المعنى.

زيارة الجزء الشمالي من الجزيرة:

 من "سليمة" إلى "غودش" ، وبدأت جولتي من سليمة، لأتجه غرباً عبر طرقٍ ضيقةٍ جداً، بعضها لا يكفي لسيارتين، ويحتاج المسافر – إن كانت طرقهم تحمل اسم الطرق ، لأن المسافات هنا تُقدر بالأمتار لا بالكيلومترات – إلى حذرٍ شديد. 

مررت على مدنٍ صغيرةٍ مثل "تلة أبي جبه" و"بئر كركرة" و"وادي بوجبه"، ثم "وادي زجيج" فـ "الرباط" ، حتى وصلت إلى مدينة "المدينة"، التي تعلو "تلةً عاليةً" ، وقد ظهرت بأبهةٍ وشموخٍ واضحٍ من بعيد. كانت هي أول محطٍ لي بعد مروري على المدن الصغيرة ورؤيتي لطبيعة المكان وطرق بنائهم التقليدية بالحجر الطباشيري الأصفر المستخرج من مناطق عديدة بالجزيرة، ومنها "محجر سويقة" الذي مررت عليه ورأيت الحفر العديدة التي اتخذت بعضها مزارع، مع قلة مزارعهم، فمالطا ليست أرضاً زراعية، وكل ما فيها عبارة عن مزارع أهلية صغيرة لا تكاد تفي بمتطلبات أهل الجزيرة، ولكنها شيء من لا شيء.

وقد حُميت تلك المزارع بثمايل (سور حجري) بارتفاع بسيط، متر إلى متر ونصف، وقد حُفرت الآبار لجلب المياه السطحية للزراعة. كما أن جلّ بيوتهم قد استخدمت الحجر الطباشيري الهش، وهو الموجود فلا يوجد بالجزيرة غيره، مع استخدام بعض الأخشاب المستوردة لبناء الأسقف، وإن كانوا لا يستخدمونها إلا قليلاً، نظراً لتطور بنائهم منذ الفترة العربية، والتي أخذوها منهم كالبناء الدمشقي في استعمال الأقواس واعتماد السقف عليها ليتحمل التراب فوق تلك الأقواس المبنية من الحجر. ولم يكن بناؤهم بدائياً أبداً، بل إن البناء بطرازه العربي مع بعض التغيرات الناشئة من قدوم الطراز الإيطالي والفرنسي على الجزيرة قد أثر فيها، خاصة إذا ما نظرنا لبناء الكنائس وكون مرجعيتها في البناء إما إيطالية أو فرنسية أو من دول حوض البحر الأبيض المتوسط عموماً.

زيارة أجمل مدن مالطا "لا مدينة":

ان مدينة "لا مدينة" تعد تحفة معمارية ربما تُعتبر مدينة المدينة، وحسب مشاهدتي لها، نموذجاً للطراز المالطي بكل ما تحمله من تصاميم عربية أوروبية متداخلة. فهي أفضل نموذج للبناء في جزيرة مالطا، ولا نجده في غير مدينة المدينة. فقد بقيت صامدة حتى اليوم لأي تغيير، وبعيداً عن مدافع نابليون الذي حطم العاصمة فاليتا، كون فاليتا على البحر مباشرة، ونجت المدينة لبعدها عن الحروب. كما توجد مدينة "فيكتوريا" في جزيرة "غودش" أيضاً، فيها بعض مما تبقى، لكن ليست بعظم "المدينة" وبنائها وسورها وارتفاعها.

          احد بوابات مدينة "لا مدينة"

دخلت المدينة من إحدى بواباتها الفريدة، ومن نفق ضيق يتبعه بوابة مزدوجة الأبواب، كما خرجت من بوابة فريدة أيضاً ذات أبواب مزدوجة يتبعها جسر تحته نفق، وكلا البابين منيعين بطريقة فذة لمنع الأعداء من الدخول بسهولة لأم المدن المالطية.

            هذه احد مداخل المدينة 

 دخلت لأزقتها المتنوعة بين الضيقة والواسعة، فالضيقة يصل عرضها أقل من متر، وأكبرها يصل لثلاثة أمتار، مع وجود ساحات داخلها سميت بلازا، إحداها للكاتدرائية الكبيرة، وأخريات للجهة المطلة من تلتها العالية للوادي، وبعض تلك الساحات في البوابة الوسطى.


 ومررت من أحد طرقها وما زالوا يطلقون على الطرق طريق، وقد كتب طريق المسجد، حاولت أن أستشف من مشاهدتي لأي مبنى قد يكون هو ذلك المسجد، لكن للأسف لم أفلح، فلربما كان التغيير جذرياً لمساجد مالطا بحيث لا يستطيع أحد التمييز بكونه مسجداً من غيره.وأخذت أتجول في الأزقة والبيوت وبين الساحات والطرق. 


 وبوابات ليست غريبة علي في تصميمها أو الستر الذي ما زالوا عليه من وضع الستائر خارج الأبواب لكي تمنع المتطفلين من أخذ نظرة أو كان الباب مفتوحاً. كما أن بعض الأبنية ذات ضخامة من أبوابها إلى سقوفها، ولعلها لعلية القوم، ورأيت بعض قصورها المترفة في البذخ من ناحية التصاميم وجود النوافير رغم قلة المياه لديهم، مع زخارف واضحة لبعض المباني، وكلها قد بنيت من الحجر نفسه الذي تبنى فيه منازلهم حتى اليوم. وقد رصفت الطرق بالحجر مع وجود الإنارة القديمة المجددة والشبابيك المحمية بالحديد المشغول بعناية.


 تذكرت وأنا أتمشى فيها مدينة القيروان بتونس، ففيها تشابه لبعض التصاميم. وفي أحد منازلها القديمة تناولت الغداء، وهو عبارة عن طبق يشبه البيتزا لكن الخبز فيه كبير الحجم مع قلة الجبن. ثم خرجت أتفقد السور والبوابات حتى خرجت منها متوجهاً للغرب عبر طرقها الضيقة مرة أخرى.

             قرية بباي السينمائية 

قرية بباي: 

مفاجأة سينمائية حين وصلت إلى الغرب من الجزيرة، وقبل أن أصل إلى مدينة مليحة، وصلت إلى خليج ضيق جداً، وفي جدار الجرف قد بُنيت قرية من الخشب. كنت أظنها من تاريخ الجزيرة، لكنني دققت فيها فإذا بها نوع من القرية التي بُنيت لعمل فيلم سينمائي، وبُنيت على شاكلة أفلام الكرتون. وحين انتهوا، قرروا إبقاءها لتكون منتجعاً بحرياً لقربها من شاطئ جميل، مع أنشطة بحرية، ومع ما تحتويه القرية من مقاهي ومطاعم للعوائل. ولها إطلالة من فوق، ولكونها صغيرة، فيمكن احتواؤها بصورة واحدة، وهي حقاً جميلة بتصميمها وكأنها حقيقية. 

 من الكهوف المنتشرة بالجزيرة بعضها بحري والآخر جبلي. 

وأكملت مسيري نحو "مليحة" ومنها إلى جزيرة غودش وعبورٌ إلى عالمٍ آخر ، فحينما وصلت "مليحة"، كانت المدينة من المدن المشابهة لما سبقها، مع كونها ميناءً للعبور منها إلى الجزيرة الثانية غودش، ومن الميناء الحديث ذي المراكب الحديثة.

 ومن ذلك المنزل المالطي ذي العمر الذي يفوق 400 عام، والذي مكثت فيه ليلة واحدة ممتعة بإطلالته المميزة لجزر كمونة وكيمونة وخليج الكريستال المميز.

زيارة معالم جزيرة غودش: 

سحر الطبيعة وجمال التكوينات… 

بعد إفطار منزلي في ذلك المنزل البديع، أخذت جولة مشياً على الأقدام لشاطئ مفعم بالأنشطة البحرية لقربه مني.

 إلى المعلم الأول خليج الكريستال: 

شاطئ وشفافيةٌ تأسر الألباب

 كان الوصول إلى الهدف، وهو المكان القريب للسكن والمسمى (خليج الكريستال)، وسمي بذلك نظراً لشفافية الماء وتلونه بألوان بهية فيروزية قلما تجد مثلها، بسبب أرضية الخليج الرملية البيضاء وصفاء المياه بسبب الأحجار، وكونها منطقة شبه مغلقة بين جزر "كمونة وكيمونة". وصلت إلى الساحل، وهناك تُؤجر القوارب والدبابات البحرية بنظام اليوم الكامل أو نصف يوم أو بالساعات، ويبدأون من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساءً. 


أخذت لي قارباً لساعة تكفيني، فلست راغباً بالسباحة ولكن للاطلاع فقط. ورأيت التكوينات المميزة من كهوف وأقواس وفوهات شكلها موج البحر والرياح، فشكلت صورة بديعة لغابة من التشكيلات الصخرية التي لكل منها شكل وجمال بديع، مع مياه البحر الصافي وألوانه شكلت تناغماً متجانساً بديعاً. ثم انتهيت من الزيارة لأرجع إلى النزل وأخذ دوش ثم أعمل خروجاً، كوني سأبيت الليلة في العاصمة في الجزيرة الأم (مالطا).


والآن إلى المعلم التالي:

كهوف شاطئية ورأس الملح، أسرار الأرض وكنوزها. 

استقليت سيارتي لأنطلق عبر قرية "غودش"، لنكرر المسير عبر الطرق الضيقة مرة أخرى، ونصل إلى موقع أحد المداخل الغريبة للشاطئ الأحمر، وسمي أحمراً كون رماله حمراء على غير العادة للرمال الصفراء والبيضاء التي تكوّنت منها غالب شواطئ مالطا. والكهف له إطلالة بديعة مع مدخل لا يعرفه إلا أهل المنطقة، فقد تم شق الصخر من قمة التلة ليتم دخوله، ويظهر من خلال فتحة كبيرة شاطئ فريد أحمر برماله. والكهف وجدت فيه بعض البناء، وربما كان يستخدم لأغراض بشرية، فهناك وجار للنار وطابوق من الحجر صُفّ بشكل بناء لكن تهدم أغلبه. أخذت الصور منه لأنتقل إلى المعلم الآخر. 

رأس الملح: 

 ولا يبعد إلا بضعة أمتار، فنحن في جزيرة غودش، لنا في الجزيرة الكبرى مالطا ذات الـ 25 كيلومتراً طولاً و8 عرضاً. فهنا جزيرة غودش طولها 10 كيلومترات والعرض 6 كيلومترات فقط لا غير. وصلت إلى منطقة برك وأحواض الملح المنتشرة بشكل كبير، فالملح هنا له استعمال ويُصدر كسلعة مهمة في وقت ما. 

           برك الملح في رأس الملح 

وقد استغل السكان المحليون بوجود شاطئ مرتفع قليلاً عن البحر ويغذي الأحواض أمواج البحر المتلاطمة لتقبع في الأحواض ريثما تتبخر المياه لجمع الملح الناشف، وبعض ما يميز الملح هنا هو احتوائه لبعض المعادن ذات اللون الوردي المحمر، وهو مطلوب عالمياً نظراً لفوائده الصحية.

 أخذت الصور مع ما أردت من معلومات لأنطلق لمعلم آخر يبعد أمتاراً من مكاني.

كهوف وتضاريس وفوهات بحرية عملاقة: إبداع الخالق تتجلى في خلقه سبحانه… وصلت إلى منطقة في أقصى الجزيرة من الغرب لأصل إلى تكوينات صخرية بديعة من أقواس وكهوف متنوعة منها (كهف الريح) مع فوهات بحرية زرقاء غامقة نظراً لعمقها الكبير، وهي تعتبر موئلاً سياحياً شهيراً بالجزيرة، ويأتيه السياح ركوباً بالقوارب أو عبر الطرق الضيقة بالسيارات. وكالعادة، أخذت ما أردته من صور وتأمل بطبيعته البديعة، ثم إلى الوجهة التالية. 

عاصمة غودش فيكتوريا، مدينة التاريخ 

عاصمة غودش كانت فيكتوريا، ولعل هذه المدينة التاريخية بما تحمل من معالم واضحة من أبنية بُنيت من الحجر المالطي الأصفر، وقد زُينت بعض الكنائس ببعض الإضاءة، فهنا لديهم لكل كنيسة احتفالاً بنشأتها، وقد مررت بإحداها وقد كتب عليها باللاتيني (125 sana muabrka) وتعني كما هو واضح احتفالاً بنشأتها والمباركة بكلمات عربية. ومررت بعدة كنائس بنفس الشكل، وبعضها غالى في الزينة بوضع الكشافات ووضع التماثيل التي تمثل فرسان القديس يوحنا كرمز لحمايتهم الجزيرة على مر الدهور.

          فكتوريا عاصمة غودش

 وها أنا أنتهي تقريباً، عدا مروري بمنطقة ذات مطاعم جيدة مع إطلالة للبحر لأتناول غدائي فيها، ثم أنتقل إلى الميناء حيث فتحت إحدى السفن ثغرها لتبتلع السيارات بعد أن دفعت مبلغ 16 يورو ثمن الخروج من الجزيرة، وطبعاً الدخول مجاناً، لكن لا بد لك من خروج فيستلمونك هنا. ركبنا السفينة وعبر ربع ساعة نحن في مالطا الجزيرة الأم، لأتجه مباشرة إلى العاصمة فاليتا.

 وصلت إليها لأقف في أحد المنازل الذي استأجرته بمبلغ 90 يورو، ويعتبر هذا السعر رغم غلائه إلا أنه متوسط جداً. فمالطا السكن فيها والتنقل والسوق عموماً غالي جداً مقارنة بإيطاليا مثلاً وهي جارتها الشمالية. جلست هناك مع موعدي لزيارة المركز الإسلامي في عصر هذا اليوم إن شاء الله. فإلى هناك.

رواية الرحّالة... وذاكرة الجزيرة المنسية… 

كنت أظنني زائرًا عابرًا، أمشي في طرقات فاليتا وكأنني أقرأ قصيدة لاتينية على أطراف البحر، لا شأن لي بغير المعمار والهواء المالح، إلى أن وقفتُ بين أنقاض قصر قديم، وسمعت الندبة في جدار.

قال لي أحد الشيوخ المالطيين: "أتعرف لماذا لا نتقن الضحك؟ لأننا لا نتقن النسيان…

"أجبتُه مبتسمًا: "بل أنتم لا تنسون لأن في أعماقكم عربًا يعرفون الحنين حتى وهم لا يعلمون لماذا."

في الأزقة الضيقة، تنساب كلمات تشبه لهجات الجنوب العربي، وفي طعامهم أثر من موائد الأندلس، وفي قلوبهم غصّة الغريب الذي لا يُغادر.

كنت أبحث عن مقهى يشبه قلب الوطن، فوجدت قبوًا مليئًا بالصور والظلال. رجلٌ هناك يعزف على العود المالطي أنغامًا تشبه مقام الحجاز... لم يكن يعرف أنه يعزف من ذاكرتنا.

تركت مالطا وقد خبأت في دفتري شيئًا من رائحة الجدران القديمة، ودمعة لم تجفّ منذ قرون. كتبتُ بخط مرتعش على هامش الميناء: 

"هنا، في هذا الخراب المتكرر، لم تمت الأرواح، بل تنكّرت في صمت الحجارة... ونسيتُ أن أقول لهم: إن مالطا كانت يومًا عربية، وإن من يُهمل جذوره، يحيا غريبًا ولو في أرضه."

وغادرتُ... كأنني أترك رسالة في قارورة، وأدفع بها إلى موج البحر، لعلّها تصل يومًا إلى من يعيد لمالطا اسمها العربي وذاكرتها المفقودة.

ها أنا أغادر الجزيرة، ومعي حقيبةٌ من الملح، واللغةالركيكة ، مع حسرة ودهشة.
أغادرها، وفي أذني رنين جملةٍ من عجوزٍ مالطية قالتها لي بعربيةٍ مكسّرة:
"إحنا عرب… بس ناسين."
وربما كانت تلك الجملة خلاصة كل ما في الجزيرة.

بل كانت رحلتي إلى مالطا ليست سياحةً، بل كانت عودةً إلى ماضٍ خفيّ تحت حجارةٍ ناعمة، ورحلةً في ذاكرة اللغة والارض. خرجتُ منها وأنا أعلم أن العروبة ليست جغرافيا فقط، بل طيفٌ يسكن التفاصيل، وإن غابت الأعلام والرايات.

وعدتُ من هناك، لا أحمل صورًا فقط، بل أحمل سؤالًا…
هل تموت العروبة حين تنسى لغتها؟ أم تبقى حيّة في تضاريس الأرض، وأسماء القرى، وملوحة البحر؟

من رحّال الخبر، وهذه حكايتي في جزيرةٍ عربيةٍ أوروبيةٍ غريبةٍ التفاصيل… جزيرةٍ لا تزال تبحث عن نفسها.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق