الأربعاء، 19 مارس 2025

حينما هتف الزمن لأول مرة حينها كان الجوال هو الحياة.

رواية عايشتها لاتنسى ابدأها بقول : 
"حينما هتف الزمن لأول مرة"

كان ذلك في منتصف التسعينيات الهجرية، حين كنت في بدايات عملي كمعلم، متنقلًا بين متوسطة المغيرة بن شعبة ومتوسطة الزبير بن العوام بالتحديد عام 1994م 1414هـ ، وفي زمنٍ كانت فيه وسائل الاتصال أشبه بالأساطير. لم يكن أحدٌ منا يتخيل أن يملك هاتفًا محمولًا، فكنا نظن ذلك محض خيالٍ، حتى ونحن على مشارف القرن التاسع عشر، في وقتٍ سبقتنا إليه دول مجاورة، بينما كنا نرزح تحت وطأة ذلك الجهاز العجيب المسمى بـ"البيجر".
وقد انطلقت خدمة البيجر في السعودية عام 1412هـ ووصلت أسعاره لأرقام عالية .


آهٍ من البيجر! كم عانينا منه، وكم كنا نهرع إلى أقرب بقالة أو مكتب اتصالات فور سماع الكلمة المرهقة: "بيجرني!"، فنجتاز الإشارات الحمراء، ونتحدى زحام الطرق، لنصل مذعورين إلى الهاتف، فقط لنكتشف أن أم العيال تطلب "شدة كراث" أو "جالون لبن المطرود" او من صديق قديم يسأل "من زمان عنك وش اخبارك!"
حينها، كانت الهواتف المحمولة حكرًا على علية القوم، محشورة في سيارات التجار ككنزٍ لا يطاله الفقراء. 

أما نحن، فغامرنا قبل الجوال باقتناء جهاز "سيناو"، ذلك القادم من المجهول، والذي بالكاد تصل موجته إلى خمسة كيلومترات. وحين لم يرضنا ذلك، تسابقنا لجلب المقويات علّها تمد الموجة إلى عشرة، وربما عشرين كيلومترًا، وكأننا نخوض سباقًا مع الزمن لنسبق المستقبل.
في أوائل التسعينيات الميلادية، بدأت الهمسات عن جوالٍ قادم. لم تكن إشاعاتٍ عابرة، بل حلمٌ بدأ يلوح في الأفق. تجار الشنطة تسللوا بخفة، يحملون في جعبتهم أجهزة "إريكسون "، تلك الهواتف الضخمة ذات الإطار الحديدي، حتى قيل مازحين: "إن ضربت به كافرًا أسلم!"

لم نكن نريد تفويت الفرصة، وحين فُتحت أبواب التسجيل، كان السباق شرسًا. خرجت من مدرستي متوسطة الزبير بن العوام، في حي الصبيخة، مع أول خيوط الصباح، تمام الساعة السابعة والنصف. توجهت نحو مصرف الراجحي عند الشارع الأول في الخبر الشمالية، حيث تقاطع طريق الأمير ناصر غرب طريق الملك خالد، وهناك، كانت الطوابير تمتد كأنها لا نهاية لها.

كلٌ منا كان يحمل في قلبه أمنية: أن يكون من المحظوظين الذين يدفعون العشرة آلاف ريال، ليحصلوا على ورقةٍ صغيرة، تمنحهم حق امتلاك شريحة الجوال. كنا ندفع أموالنا مقدمًا لشبكةً لم تكن موجودة بعد! 
ومع الورقة، انطلقنا إلى مكاتب تجار الشنطة، نحجز أجهزتنا قبل أن تعمل الشبكة أصلاً!
أذكر أنني اشتريت أول جوال دخل السعودية، كان إريكسون، دفعت ثمنه بـ 2600 ريال. 
سمعنا انه وفي أول ساعتين فقط، انضم 95 ألف شخص إلى قافلة الحالمين بالجوال، مقدمين عشرة آلاف ريال كلهم، في مشهدٍ لم يكن يخطر ببال أشد الحالمين.

وزارة البرق والبريد والهاتف كانت تدير هذا العهد الجديد، حيث كان الحجز يتم قبل تفعيل الخطوط بعامٍ كامل! دفعنا المبلغ عبر مصرف الراجحي، واستلمنا ورقة السداد، ثم بدأ الانتظار الطويل. ومع تصاعد الطلب، طُرحت 100 ألف شريحة إضافية، ثم نصف مليون أخرى. لم يدم الأمر طويلًا حتى انخفضت رسوم التأسيس من عشرة آلاف إلى 3500 ريال، ثم 1500، وصولًا إلى 50 ريالًا فقط. وحينها، قررت الشركة تعويضنا نحن "الرواد الأوائل"، بمبلغ 3500 ريال، كأنها تخفف عنا وطأة المغامرة الأولى والمبلغ لدفع الفواتير فقط.
الجوالات التي رافقت ولادة هذا العصر لم تكن مجرد أجهزة، بل كانت رموزًا لمرحلة كاملة. سيمنس، إريكسون، نوكيا، موتورولا… أسماءٌ حفرت في ذاكرة جيلٍ كامل. ورغم أن أسعارها لم تقل عن 3500 ريال، إلا أن استخدامها ظل مقتصرًا على استقبال المكالمات وإرسال الرسائل النصية التي لم تكن تصل كاملة، بل تُبتر لمحدودية عدد الكلمات، تاركةً أصحابها في حيرةٍ بين جملةٍ ناقصة وكلمة ضائعة.

وكان وقتها سعر الدقيقة اتصال 1.60 ريال وكنا نحسب كل ثانيةٍ منه وكأنها لؤلؤةٌ نفيسة. 
أذكر أول هاتف محمول دخل الأسواق، ذلك "الكاتيل"، الذي كان بحجمه الهائل يُلقب بالقنبلة الذرية أو السلاح القاتل، وأحيانًا "الطابوقة"، حتى أن بعضهم كان يضعه في حقيبته بدلًا من جيبه! تزامن معه ظهور "نوكيا أبو أريل"، الذي استمر طويلًا، بينما غادر الكاتيل الساحة مبكرًا.

مع مرور الأعوام، أصبحت الهواتف أشبه برفاق الدرب، بل بأفرادٍ من العائلة، حتى أطلقنا عليها أسماءً تعبر عن شخصياتها: "الرهيب"، "العجيب"، "العنيد"، "المملكة"، "الفيصلية"، "الساهر"، و"الفارس". في البداية، كنا نشتريها بأسعارٍ تفوق 2500 ريال، لكنها سرعان ما تنحدر قيمتها إلى 200 ريال خلال عام واحد، في مفارقةٍ جعلتنا نضحك على أنفسنا وعلى الزمن الذي لا ينتظر أحدًا.
ثم جاء عام 2003، ومعه دخل نوكيا 6600 الساحة، الهاتف الذي لقّب بـ"الباندا"، ليس بسبب لونه الأبيض والأسود فقط، بل لأنه حمل معه شيئًا لم نكن نحلم به: الكاميرا! كانت صدمةً للمجتمع، تمامًا كما أحدث دخول القنوات الفضائية في أوائل التسعينيات الميلادية ضجةً لا تُنسى.

واليوم، حين أنظر إلى الماضي، أجد أن ثلاثين عامًا فقط كانت كفيلة بأن تغير وجه الحياة. الجوال لم يعد مجرد جهاز، بل أصبح روحًا نعيش بها، وظلًا لا يفارقنا، بل ربما صار أقرب إلينا من قلوبنا ذاتها. ترى، لو عدنا بالزمن إلى الوراء، هل كنا سنتخيل أننا سنحمل العالم كله في راحة أيدينا؟!

هل الهاتف المحمول: قلب الحياة الحديثة أم مجرد أداة؟

في حديثي السابق عن تاريخ الجوال، وصفتُ الهاتف المحمول بأنه "الحياة"، فاعترض بعض الأصحاب على ذلك الوصف، ورأى فيه مبالغة. لكنني أجيبه بقولي:

"لقد اصبح الجوال اليوم ،قلب الحياة."

قد لا يكون كذلك للجميع، لكن بالنسبة لمن يعيش في قلب التفاعل اليومي، وسط زخم الأعمال، وتحركات الأموال، وعلاقات التواصل الاجتماعي، سيجد أنه قد ملك حياتنا بشكلٍ لا شك فيه.

وصفي الهاتف الجوال بأنه "قلب الحياة" هو تصوير بلاغي يعكس مدى اعتمادية الإنسان الحديث عليه، فهو كما أن القلب يضخ الدم في الجسد، يضخ الهاتف المعلومات، والتواصل، والإنجازات في حياتنا. قد لا يكون القلب بالمعنى الحرفي، لكنه في مضمونه بات المحرّك الرئيسي للكثير من شؤوننا.

فإن كان الاعتراض أن الهاتف ليس الحياة، فهو بلا شك البوابة إليها، والجسر الذي يصلنا بالعالم من حولنا.

لماذا أصبح الهاتف المحمول قلب الحياة؟

الجوال وإدارة الوقت والمواعيد:
لم يعد الهاتف مجرد وسيلة اتصال، بل أصبح هو الساعة والمنبّه والتقويم والمنظّم الشخصي، حيث يضبط الأفراد من خلاله جداولهم اليومية وأعمالهم.

الجوال والتحكم في الشؤون المالية:
التطبيقات المصرفية والمحافظ الرقمية جعلت الهاتف بديلاً عن المحفظة التقليدية، إذ يمكن عبره تحويل الأموال، ودفع الفواتير، وإجراء الاستثمارات.


الجوال في العمل والتعليم:
لم تعد الوظائف تقتصر على المكاتب، فالعمل عن بُعد والتعليم الإلكتروني يعتمدان بشكل رئيسي على الهواتف الذكية، مما جعلها صلة الوصل بين الإنسان وسوق العمل.


الجوال والعلاقات الاجتماعية:
الهاتف هو وسيطنا بين أهلنا وأصدقائنا، سواء عبر المكالمات، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو تطبيقات المراسلة التي جعلت العالم أكثر ترابطًا.

الجوال والخدمات الحكومية:
أصبح الهاتف مفتاح الوصول إلى الحكومة الإلكترونية، فمن خلاله تُجدّد الوثائق الرسمية، وتُنجز المعاملات، وتُدار السجلات الصحية والتعليمية والمهنية.

الجوال والهوية الرقمية:
اليوم، كل فرد بدون رقم هاتف يبدو وكأنه بلا هوية، فالتسجيل في المنصات الإلكترونية، وحجز المواعيد، وإثبات الملكيات، وحتى الدخول إلى بعض الأماكن أصبح يعتمد على بصمة الهاتف أو رموزه التعريفية.

وماذا عن الذين لا يرون الهاتف جزءًا من حياتهم؟

بالطبع، هناك من لا يرى الهاتف جزءًا أساسيًا من يومه، ومع احترامي الكبير لهم في خروجهم من شباك الجوال وهيمنته الا أن هؤلاء خرجو عن السيطرة وغالبًا يعيشون في عزلة عن إيقاع الحياة الحديثة. 
فقد يكونون منغمسين في نمط حياة ريفي تقليدي، أو يفضلون العيش بعيدًا عن التكنولوجيا، لكنهم يظلون الأقلية في عالم أصبح الهاتف فيه عصب الحياة اليومية.
لكنهم هم الفائزون لراحة البال وان خسرو المال والاعمال والعلاقات مع المجتمع.

بداية النهاية فقد أضفت بُعدًا سرديًا ولغةً أدبية اتوقع انها تقترب من ان تكون راقية، بحيث تواكب القارئ في رحلتي بين الماضي والحاضر.

وعذرا على تعزيز الجو العام بقليل من التندر والمفارقات الطريفة لجذب قارئي العزيز ولكي لايمل من الاستطراد .

ولاعجب من ترتيب الأحداث وبطريقةٍ سلسة اتوقع أن تُبهر المستمع وتفتح ذكريات الماضي لسبب كوني عايشتها لحظة بلحظة.
فاسمتع بكل كلمة فانا شاهد على ذلك الزمان.. 


وائل عبدالعزيز الدغفق 1446هـ

الاثنين، 3 مارس 2025

رحلة من سواحل الخليج الى قلب نجد العذية الى عبق الأماكن ودفء القلوب.رحال الخبر1446هـ

رحلة من سواحل الخليج الى قلب نجد العذية الى عبق الأماكن ودفء القلوب

فبين الثالث والعشرين والثامن والعشرين من شعبان لعام 1446هـ، الموافق 22 إلى 29 فبراير 2025م، انطلقت في رحلة من الخبر الى ربيع الشمال متوجها الى نجد العذية ، وكان مروري عبر عاصمة الربيع "النعيرية" وأرخت مرساتي في أحد مزارع  "القرية العليا" حتى حين الانطلاق الى "حفر الباطن" وكل تلك الرحلة انما كانت بحثًا عن الجمال في تفاصيل الأرض وربيعها ودفء اللقاء في صدور الرجال ومن مررت بهم.

 إنطلقت من الخبر، قاصدًا النعيرية والقرية العليا، لأحلّ ضيفًا على أخي الكريم، أبو يوسف مازن الحمودي، في مزرعته البهية،