الخميس، 16 أكتوبر 2025

مسار رحال الخبر للصين بين نظرات وعبر الرحلة 1447هـ



من بكين إلى كاشغر فالتبت لشنغهاي مرورا بقوانزو وهونج كونج:

فسيفساء الصين بعين رحّال…لا بعين سائح

✍️ د. الرحال وائل الدغفق – 1447هـ / 2025م

لماذا هذه الجولة؟

كنت اتسائل وأنا أتجول مرتحلاً داخل الصين في محاولة لفهم وطبيعة التركيبة العميقة للشعب الصيني بنظر رحّال وليس بنظر سائح لهذا كانت هذه الجولة وللفهم والتعرف أكملتها وسرت في أقاصيها وبين مدنها وقومياتها وفهمت شيئا وغاب عني أشياء.

وهو جهد المقلّ ، ومع ذلك فلكل مرتحل صفحة يرويها ونقولات يسطّرها ولقطات يسجّلها في مساره.

«رحلات رحّال الخبر في الشرق الأقصى»

قد تضمّنتُ فيها التوثيق الجغرافي والوصف الحسي لمساجد وأسواق قومية الهوي والأيغور وقوميات متعددة من مسلمي الصين، مع روح السفر والتأمل من حبس اللحظة وبث الفكرة وتدوين اللقطة ، والتي تميّزنا عن غيرنا.

وسأتناول هذا الموضوع ضمن خمس من المناحي الإيضاحية لهذه التركيبة. 

وسأبدأها بتنوّع الشعب الصيني وتكوينه القبلي، ثم علاقة تلك المجتمعات مع بعضها. وثم علاقة المجتمع الصيني مع كل من حوله بالعالم، وبعدها سأتطرق إلى ملامح سلوكية قد تكون غريبة لمن يزور الصين ولم يلحظها، وأخيرًا الخلاصة التي وصلتُ إليها، وإلى التفاصيل.هذه الرؤية ستكون الخيط الذي يشد الرحلة كلها:

 من بوابات بكين ومآذن نيوجيه، إلى صحارى شينجيانغ وأسواق كاشغر، مرورًا بنينغشيا الى قوانزو وجولين وتشانغجياجيه وجبال تيان ان مين، حيث يتكلّم الإسلام بلهجة صينية.

الفصل الأول:

🏯 بكين... وقلاع الامبراطورية ومبانيها التراثية. 

من نينغشيا إلى بكين، تأخذك رحلة القطار إلى قلب المدينة الصاخبة، وهناك، وسط الأبراج والمراكز التجارية، يقف مسجد نيوجيه كأقدم شاهدٍ على الإسلام في العاصمة.
تخطو بوابته الخشبية التي كُتبت عليها عبارة «الله أكبر» بخطٍّ عربيٍّ مذهبٍ داخل إطارٍ صينيٍّ من الزخارف التنينية.
وحين يرتفع الأذان داخل المسجد وبين ضجيج السيارات، تشعر أن الزمن انحنى احترامًا لقرونٍ من التعايش.

في باحة المسجد وقت صلاة الجمعة ، يجلس شيخٌ من الهوي يشرح للمأمومين بالصينية والدعاء بالعربية وبكلماتٍ صينية، فهمت بعضها من مترجمي حين يبتسم قائلاً:

 "الإسلام لا يحتاج لغة، بل قلبًا يعرف الطريق إلى القبلة."

🏯بكين حين يلتقي الأذان بسور الصين العظيم. 

دخلت العاصمة من نافذة قطار الصباح، فأجد مدينةً تنبض بتناقض جميل حدائق إمبراطورية كالقصر الصيفي،وبحيرات أضفت على العاصمة حللٌ من الجمال بممرّاتٌ حجرية وفلل غاية في الجمال داخل حدائق صينية غاية في الدقة والتفاصيل المشتهرة في ثقافة الصين واعتنائهم بالحدائق وأسجار البونزاي وتصاميم البناء المدهشة، ولاشك أن سورها العظيم الذي يحيطها شمالا كعقد وتميمة حماية من الشماليين ، وسماءٌ تتكسّر عليها ناطحات ومبان غاية في الروعة. 

"هنا أضع أوّل لبنةٍ لفهم “التركيبة”: مدينةٌ حديثة لا تخجل من قِدمها، وإسلامٌ قديم لا يخجل من حداثته.

الفصل الثاني:

الخماسية التفسيرية الصين كفسيفساء حيّة

أولاً: تنوّع الشعب الصيني وتكوينه القبلي والإثني

رغم أن الصين تُقدَّم للعالم كأمّة واحدة موحّدة، إلا أنها في عمقها فسيفساء من القوميات والقبائل التي تنصهر في بوتقة الدولة الحديثة.

الأغلبية الهان (Han):
يمثلون نحو 92٪ من السكان، ويُعدّون العمود الفقري للثقافة الصينية، من اللغة إلى الفنون والعادات. يُعرف الهان بانضباطهم، وولائهم للأسرة، وحبهم للعمل، وبنظامهم الاجتماعي الدقيق الذي يقدّم الجماعة على الفرد.

القوميات الـ 55 الأخرى:
منها الويغور في تركستان الشرقية (شينجيانغ)، والتيبت في الهضبة الغربية (الأدق إداريًا: “منطقة شينغزانغ/Xizang”)، والزوانغ، والمنشور، والمغول، والكازاخ، والهوي (المسلمون الصينيون). كل مجموعة تحمل مزيجًا من العادات واللغات والمعتقدات والموسيقى والملابس.

وهناك بعض القبائل والتي ما زالت تحافظ على نظامها الأمومي مثل قبائل الموسو Mosuo في مقاطعة يونّان، حيث تُنسب الأنساب إلى الأم، وتُعتبر العلاقات الزوجية حرة نسبيًا — وهو أمر يثير دهشة الزائرين من العالم الإسلامي والغرب على حدّ سواء.
 
🀄 ثانيًا:علاقة المجموعات ببعضها داخل الصين
التعايش والتنافس:
يعيش الجميع تحت سلطة مركزية قوية تشجّع على الوحدة الوطنية، لكنّ التنوّع العرقي أحيانًا يولّد توتّرًا ثقافيًا مكتومًا، خاصة في المناطق البعيدة مثل التيبت وشينجيانغ.

التمازج الثقافي:
المدن الكبرى مثل شنغهاي وغوانزو وبكين صارت بوتقة تصهر كل الأعراق، حتى تكاد لا تميّز الأصل من اللهجة.

العائلة كوحدة مقدسة:
بغضّ النظر عن الأصل، تقديس العائلة والآباء هو الرابط الذي يجمع الصينيين كافة، حتى أصبح من سماتهم الأبرز عالميًا.

🌏 ثالثًا: علاقة الصينيين بالآخرين

مع الجيران الآسيويين: العلاقة مع اليابان وكوريا مشوبة بالمنافسة التاريخية والاحترام المتبادل — فهم أبناء حضارة الكونفوشيوسية نفسها.


مع الهند هناك توتر حدودي، لكن تبادل ثقافي قديم يعود إلى طريق الحرير وانتقال البوذية.

مع روسيا ومنغوليا علاقة براغماتية يغلب عليها البعد التجاري .

مع العالم العربي والشرق الأوسط:
علاقة تقوم على الاقتصاد والاحترام المتبادل أكثر من الفهم الثقافي العميق.
الصين ترى في العرب “بوابة للطاقة والأسواق”، والعرب يرون فيها “قوة اقتصادية بلا استعمار”.

المسلمون الصينيون (الهوي والويغور) يشكلون جسرًا روحانيًا وثقافيًا بين الجانبين، رغم تعقيدات الواقع السياسي.

للعرب حضور قديم في الصين منذ القرن السابع الميلادي، خاصة في مدن مثل قوانغتشو وشيان حيث بُنيت أولى المساجد في شرق آسيا.

ومع الغرب: إعجاب بالمنجز العلمي مقرون بريبة حضارية؛ وهي علاقة مركّبة من الإعجاب والريبة؛ فالصيني يحترم تفوق الغرب العلمي، لكنه لا يعترف له بالتفوّق الأخلاقي أو الحضاري. خصوصية البيت الصيني تحجب الضيافة المنزلية المباشرة عن الغرباء والغربيون يُدهشون من انغلاق الصينيين على خصوصيتهم الاجتماعية، حيث يندر أن يُدخل الصيني الغريب إلى بيته.


🧧رابعًا:ملامح سلوكية غريبة ومدهشة للغرباء… 

1- حب الصمت والانضباط: الصيني يفضّل الفعل على القول، وغالبًا ما يبتسم بدل الجدال.

2- ثقافة الجماعة:
لا يقدّم نفسه كفرد متفرّد بل كجزء من منظومة — حتى في العمل والسفر والصداقة.

3- تقديس الوقت والإنتاجية: فيُعتبر التأخير وعدم الدقة قلة احترام.

4- تجنّب المواجهة العلنية:
يسمّونها “حفظ الوجه” (Mianzi) أي حفظ الكرامة الاجتماعية، لذا لا ينتقدك مباشرة.

5- عادات الطعام:
يأكلون كل ما يُظن أنه لا يُؤكل، لكن في الغالب عن فلسفة قديمة تعتبر كل كائن دواءً من نوع ما.

6- الزواج والإنجاب:
تُحدده العائلة لا المشاعر، رغم أن الجيل الجديد بدأ يتغيّر.

7- التعامل مع الغرباء:
في البداية يبدو التحفّظ، لكن إذا كسبت ثقته، صار وفيًّا لأبعد الحدود.

🏮 خامسًا: الخلاصة الفكرية المستخلصة لفهم شعب الصين. 
الشعب الصيني يشبه نهر اليانغتسي: واسع، متعدد المنابع، لا يُدرَك من نظرة واحدة.
قد تراه ساكنًا، لكنه يحمل في العمق طاقةً هائلة من الصبر، والالتزام، والإيمان بالعمل كعبادة دنيوية.
ومع أنه يبدو مغلقًا أحيانًا، إلا أن جوهره الإنساني منفتح على السلام والتعايش، ما دام الآخر يحترم حدوده وثقافته.

الفصل الرابع:

 الخريطة الواسعة لمسلمي الصين موجز منظّم.

الجانب الإنساني والتاريخي من حضارة مسلمي الصين قلّ من يتناوله بدقّة.
واقدم إليكم عرضًا موجزًا ومنظّمًا يبيّن جغرافية المسلمين في الصين، وتاريخهم، ومعاناتهم وجزء من الذي رأيته وزرته في هذه الرحلة ورحلات ماضية بين مقاطعات شينغيانغ و ينغشي وزيزانج وتشينغهاي وتشينغي وخبي وغيرها… 
ولتكوّن رؤية شاملة ومختصرة:

🕌 أولًا: خريطة توزّع المسلمين في الصين
يقدَّر عدد المسلمين بنحو 250 مليون نسمة، موزّعين على أكثر من عشر قوميات. 
وهم متمازجين في التعايش بينهم وبين الهان.. 

🌏 رحلة للشرق وقبلة صلاتنا للغرب.

مع قومية الهوي (Hui) حين يتحدث الإسلام بلهجة صينية. 

في شمال الصين، حيث يتلوى النهر الأصفر… تمتد أرض نينغشيا كواحةٍ صغيرة… تشعر أنك لا تسير في الصين فحسب، بل في فصلٍ نادر من تاريخ الإسلام…
... هكذا نشأت هوية الهوي ليست قومية دمٍ، بل قومية إيمانٍ وثقافة… مسلمون تمامًا، وصينيون تمامًا… جسرٌ بين الشرقين…

ومن هنا أُكمّل الخيط فقومية الهوي اندماجٌ بلا ذوبان، يقرأون القرآن بلسانٍ صيني، ويعلّقون زينة رمضان بالأحمر الذي يرمز للحظ السعيد.يعيشون في جميع أنحاء الصين، خاصة في مقاطعات نينغشيا، غانسو، ويونّان.
أصلهم من تزاوج العرب والفرس والترك الذين قدموا عبر طريق الحرير منذ القرن السابع الميلادي.
يتميّزون بانسجامهم مع الدولة الصينية مع حفاظهم على الإسلام والعادات العربية (العمامة، المساجد، اللغة العربية الدينية).

وصلتُ إلى نينغشيا عبر قطارٍ طويلٍ يشقّ أراضي الشمال الغربي، تمرُّ بك الحقول المصفّرة والقرى التي ترفرف فيها أعلامٌ خضراء صغيرة فوق القباب.
كل محطةٍ تبدو وكأنها تستقبل ضيفًا من التاريخ فهنا مرّ التجار العرب والفرس الذين جاؤوا منذ أكثر من ألفٍ وثلاثمئة عام يحملون العطور واللؤلؤ والقرآن.
على طريق الحرير، عبروا من سواحل قوانغتشو وتشوانتشو إلى عمق الصين، حيث تركوا وراءهم أسماءً عربيةً كُتبت بخطٍّ صيني على شواهد القبور القديمة.

في تلك الأزمنة البعيدة، كان الإيمان يسافر مع القوافل، لا مع الجيوش.
ولذلك، حين وُلد شعب الهوي، وُلد من رحم التجارة والمودة، لا من فتوحاتٍ ولا حروب.

🌙 هوية متجذّرة رغم العواصف

مرّت قرونٌ شهد فيها الهوي محنًا وأحداثًا مؤلمة، من تضييقٍ سياسي إلى ثوراتٍ متقطعة، لكنهم ظلّوا على عهدهم مع الله.
في القرى البعيدة، كانت النساء يعلّمن أبناءهن الوضوء سرًا في فترات المنع، ويُخفين المصاحف في صناديق الشاي القديمة.
حتى اليوم، حين تلتقي أحدهم في قانسو أو يونان أو خنان، تشعر أن الإيمان ما زال حيًّا في ملامحه الهادئة.

🌸 شعبٌ يجمع النقيضين
من أجمل ما يميز الهوي أنهم يعيشون التوازن النادر بين الإيمان والانتماء، بين الأصالة والانصهار.
هم مسلمون تمامًا، وصينيون تمامًا — يقرأون القرآن بلسانٍ صينيٍ واضح، ويحتفلون برمضان بالزخارف الحمراء التي ترمز للحظ السعيد في ثقافتهم.
لقد أصبحوا جسرًا بين الشرق الإسلامي والشرق الأقصى، برهانًا على أن التلاقي لا يفسد الهوية، بل يثريها.

🕋 من المغول إلى الهان... اندماج دون ذوبان

في القرن الثالث عشر، حين اجتاحت جيوش المغول آسيا الوسطى، كانت تفتح الطرق التجارية والقلوب معًا.
جاء المسلمون من بخارى وسمرقند وهرات إلى أراضي الصين، واستقر كثير منهم في نينغشيا وقانسو وشنشي.
ومع مرور السنين، تزاوجوا مع الصينيين من قومية الهان، فأنجبوا أبناءً عيونهم شرقيةٌ، لكن قلوبهم تتجه غربًا نحو الكعبة.

هكذا نشأت هوية الهوي ليست قومية دمٍ، بل قومية إيمانٍ وثقافة.
يتحدثون الصينية، لكنهم يبدأون طعامهم بـ «بسم الله»، ويُغلقون يومهم بالدعاء على سجادةٍ في زوايا بيوتهم.
وفي حفلات الزواج، يختلط صوت المزمار الصيني بنغمات الأناشيد الإسلامية، كأن ثقافتين تصليان معًا صلاة الجماعة.

🕌 نينغشيا... وطنٌ بلا منفى

حين دخلتُ مدينة ينتشوان عاصمة نينغشيا، شعرتُ أني في مدينةٍ مزدوجة الهوية فواجهات المتاجر صينية الخط، لكن تحتها عبارات بالعربية: مطعم حلال – السلام عليكم – لحوم طازجة.. 
 وان كانت فيه تغيّرات ضمن التغيير القسري لثقافة المسلمين التي تنتهجها الصين لكل الشعوب المسلمة او البوذية في التبت.
ومع ذلك ففي الأسواق القديمة، تلتقي رائحة الكمون الصينية مع طهو اللحم المشوي على الطريقة البخارية، وتحسّ بصوت مكبوت لأذان المغرب ينساب عبر الذاكرة المنقولة من شكل المساجد والمآذن الطينية والتي لايسمح برفع الآذان فيها هذا اذا مابقيت كمساجد حيّة..

أهل نينغشيا لا يتحدثون كثيرًا عن تاريخهم، لكنه حاضرٌ في ملامحهم وفي كل مسجدٍ حكاية:
ففي مسجد تشونغوي ترى القباب البيضاء تتناغم مع السقوف الخشبية الحمراء في لوحةٍ لا تشبه إلا الهوي أنفسهم.
وفي مسجد شياهو، يمتدّ محرابٌ نحته الحرفيون الصينيون بدقةٍ مذهلة، وهو يتجه تمامًا نحو مكة. 

حين غادرتُ نينغشيا، كانت المآذن الصغيرة تبتعد عني شيئًا فشيئًا، وكنت أسترجع وجوه الأطفال الذين يردّدون السلام بلغتين:
«السلام عليكم» و«ني هاو».
أدركت حينها أن الإسلام في الصين ليس غريبًا ولا دخيلًا، بل جزءٌ من نسيجها القديم، من نسمة الحرير ومن نكهة الشاي ومن دعاء الأمهات عند الغروب.

إن شعب الهوي ليس سلالةً من دمٍ، بل من ضوءٍ امتزج بالحضارة الصينية وبقي حيًّا حتى اليوم.

شيان مدينة الأذان القديم وطريق الحرير

على سكّةٍ تشقّ الشمال باتجاه الغرب أصل إلى شيان ، مدينة الجند الطينيين وبوابة طريق الحرير الشرقي. هنا بُنيت أولى مساجد شرق آسيا، وهنا عبر العربُ والفرس والتُّرك، ونُقشت الشواهد بالعربية والصينية.
للعرب حضور قديم في الصين منذ القرن السابع الميلادي، خاصة في مدن مثل قوانغتشو وشيان حيث بُنيت أولى المساجد في شرق آسيا.

بين أزقة شيان أسمع صدى “السلام عليكم” قديمًا، يمتزج بطرق الطبول في مواسم الاحتفال.


الويغور (Uyghur) – يعيشون في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) غرب الصين، قرب حدود كازاخستان.
أصولهم تركية، لغتهم قريبة من الأوزبكية.
يعانون من قيود شديدة على العبادة والتنقل والتعليم الديني منذ عقود، وتخضع منطقتهم لرقابة أمنية مكثفة.
الثقافة الويغورية غنية بالموسيقى والرقص والمأكولات المشابهة لآسيا الوسطى.

 الكازاخ والقيرغيز والطاجيك – في أقصى الشمال الغربي قرب جبال تيان شان والحدود مع آسيا الوسطى.
قبائل رعوية إسلامية، متأثرة بثقافة البدو الرحّل.
يعيشون في مناطق جبلية، ومعاناتهم أقل من الويغور لكنّهم مراقبون بشدة.

 السالار (Salar) في مقاطعة تشينغهاي شمال غرب البلاد.
أصولهم من التركمان، ويتحدثون لغة تركية قديمة.
يُعرفون بتمسّكهم بالإسلام وبتشييد مساجد جميلة صغيرة الطراز.

الباوان والبوهي والمغول المسلمون في غانسو ومنغوليا الداخلية.
تأثّروا بالبوذية المحيطة لكنهم حافظوا على صلاتهم الدينية.

 مسلمو يونّان (Yunnan Muslims) – في الجنوب الغربي قرب ميانمار ولاوس.
مزيج من الهوي والأقليات المحلية، شاركوا تاريخيًا في التبادل التجاري مع العرب والهنود.
كثير منهم هاجر إلى بورما وتايلاند بعد الثورات في القرن التاسع عشر.

🧭 ثانيًا: المعاناة عبر التاريخ

 العصور الإمبراطورية:
المسلمون حظوا باحترام في عهد أسرتي تانغ ويوان بسبب دورهم التجاري والعلمي.
لكنهم تعرّضوا لاحقًا للقمع في فترات أخرى، خاصة بعد تمردات القرن التاسع عشر (مثل ثورة دو ونشيوان في يونّان وثورة دنغن في غانسو).

القرن العشرون:
بعد قيام الصين الشعبية عام 1949، اعترفت الدولة رسميًا بالإسلام كدين معترف به، لكن السيطرة الحكومية على المؤسسات الدينية كانت كاملة.
فترة “الثورة الثقافية” (1966–1976) شهدت تدميرًا للمساجد والمخطوطات ومنع الشعائر وتقييد التعليم الديني ومنع الاذان.

العصر الحديث:
اليوم يتمتع المسلمون بحرية محدودة ومراقَبة.
في المدن الكبرى تُسمح المساجد بهدوء، لكنّ التعليم الإسلامي المستقل مقيّد.

الويغور يواجهون أشدّ القيود: إعادة التثقيف الإجباري، مراقبة الاتصالات، وتقييد التنقل.

أما الهوي فمقبولون اجتماعيًا أكثر لأنهم لا يطالبون بالاستقلال ويستخدمون اللغة الصينية وأكثر سببا لقبولهم كونهم على مذهب التصوف .



🌍 ثالثًا: الأثر الثقافي والديني للمسلمين في الصين

أدخل المسلمون إلى الصين الطب العربي، والفلك، والتجارة البحرية.
وبنوا أقدم المساجد في شرق آسيا مثل مسجد هوايشن في غوانغتشو ومسجد شيان الكبير.
وكانوا جسرًا بين الحضارة الإسلامية والشرق الأقصى عبر طريق الحرير.
وما زال طعامهم (الحلال، النودلز اليدوي، خبز النان) جزءًا محبوبًا من المطبخ الصيني العام.

🕊️ رابعًا: خلاصة فكرية 
المسلمون في الصين يشكّلون خيوطًا دقيقة في نسيج حضارة ضخمة ؛ بعضهم مندمج في الجسد، وبعضهم غريب في روحه،
لكنّهم جميعًا يحمِلون نورًا عربيًا تركيًّا فارسيًّا لم يخمد رغم العصور والضغوط ، ولا عجب فهم أبناء طريق الحرير، ما زالوا يسيرون عليه… ولكن بأقدامٍ أثقل وخطواتٍ صابرة.


الفصل الخامس:

نحو الغرب الأقصى – شينجيانغ والبوابة الكبرى

وها انا أشدُّ الرحلة أكثر الى الغرب ، حيث تتبدّل التضاريس، وتصبح السماء أكثر اتساعا ، والهواء أكثر نقاء وجفافاً ، والجبال من حولنا أضحت حُرّاسًا على الحدود. 

هنا تبدّلت الأرض والإنسان والدين والحياة، لأننا من هنا نبدأ في سرد حكاية الأيغور.

رحلاتي بين الأزقّة والأسواق في كاشغر (Kashgar)…لقومية الأيغور في قلب آسيا المسلمة. 

🕌 حين تدخل كاشغر، تشعر وكأنك تقف عند بوابة الزمن…

 خبز الأفران الطينية، جامع إيدي كاه (1442م)…والسوق القديم يعجّ بألوان القبّعات والتوابل وصدى الأذان المفقود عدا داخل المسجد وبصوت الهمس. هنا، في الجنوب الغربي من إقليم شينجيانغ (Xinjiang Uygur Autonomous Region)، يعيش الأيغور شعبٌ تركيٌّ مسلمٌ يغزل حياته بين رياح الصحراء وضفاف واحات تبعث على الحياة وتجدد الماضي ، وبين قوافل درب الحرير والحدود القهرية، بين درب منقطع للحرير تجاري وآذان الجمعة متوقف لسوقها الحامي .


كاشغر ليست مجرد مدينة  إنها قلب الهوية الأيغورية، مفترق طرقٍ بين الشرق والغرب، بين الصين وآسيا الوسطى، بين التاريخ والحاضر.

🌄 منذ القِدم: التاريخ يُكلّم الحجر

قبل أن تُدعى كاشغر بهذا الاسم، كانت تُعرف باسم شولي (Shule)، وقد ذُكرت في السجلات الصينية منذ القرن الثاني قبل الميلاد كواحةٍ في طريق القوافل. 
مرّت على هذه الواحة قصص كثير، من إمبراطورياتٍ عابرة، من صراعٍ على الطرق، من أممٍ ودولٍ وملوكٍ:

في عهد أسرة تانغ، دخلت كاشغر ضمن نفوذ الصين في فترات معينة، كحصنٍ على حدود الإمبراطورية الغربية. 

عبر العصور، كانت تحت سيطرة الإمبراطوريات التركية، والمغول، والكاراخانيين، وغيرهم من الدول التي تتقاسم السلطة هناك. 

في القرن العاشر، اتّخذت سلالة الكاراخانيد الإسلام كدين رسمي، فكان ذلك لحظة محورية في تشكيل الهوية الدينية للمنطقة، وأثرت في كاشغر كأحد مراكز المسلمين الجدد. 

في العصور اللاحقة، خضعت لزخم الحركات السياسية والدينية، بما في ذلك محاولات الاستقلال والحكم الذاتي، مثل قيام جمهورية تركستان الشرقية الأولى من كاشغر عام 1933 لفترة قصيرة. 

في عهد الإمبراطورية الصينية (السلالة الكينغ)، اجتُلبت المناطق الغربية تدريجيًّا إلى الحكم المباشر الصيني، فواجه الأيغور تحديات السيطرة المركزية. 

بذلك، كاشغر ليست فقط مدينة عابرة في التاريخ، بل ميدانٌ تجري فيه قصة الأيغور — خلقوا التاريخ كما يُخلَق التاريخ من روح الناس.

🕌 كاشغر اليوم: السوق والنبض الديني

حين تتجوّل في سوق التجمع الكبير (Grand Bazaar) في كاشغر، ترى بضائعٍ من شرق آسيا ووسط آسيا وأوروبا، وتسمع لغاتٍ تركية وفارسية وصينية تتداخل كأنها ألحانٌ في سيمفونية تجارية.
وفي الأزقة الضيقة تنشق رائحة الخبز الأيغوري المطهو في أفران طينية، وتنظر إلى الحُليّ والنقوش التقليدية التي تحكي تاريخًا وجدانياً للأجيال.

من أبرز معالمها التاريخية والدينية هو جامع إيدي كاه (Id Kah Mosque)، الذي بُني عام 1442م، ويُعدُّ أحد أكبر المساجد في شينجيانغ ثالوحيد المعدّ للصلاة كما يقولون . 
تصميمه يجمع بين الطراز المعماري المركزي-آسيوي والعناصر الإسلامية — يحتوي على ساحات واسعة، وقبة كبيرة، وأبراج دقيقة. 
في أيام الجمع قديما كان الملايين من المؤمنين يتجمعون في أفنيته وصحنه للصلاة، وكانت المساجد المحيطة تنبض بالدعاء والقرآن. 

لكن السنين الأخيرة شهدت تغييرات كبيرة. بعض المصادر تقول إن المسجد قد تحوّل من مركز عبادة نشط إلى جذب سياحي كمقهى وبعضه حول لمتحف ، وإن الصلوات تُقام بمجموعات محدودة، وأن عدد المصلّين قد تراجع كثيرًا. 
بعض المعلمين المطرودين يقولون إن بعض الفقرات الدينية تُرتّب من جهة رسمية وأن النشاط الحقيقي اختفى. 

كاشغر اليوم، بالرغم من ضغوط التحديث، لا تزال تحافظ على بقايا هويتها الأيغورية — في المبان التقليدية، وفي أسواق الحرف، وفي همس الأذان داخل المساجد المسموحة للصلاة والذي يختلط بصدى السيارات والازدحام وقد رأيت في كل كاشغر القديمة مسجدا واحدا معدّ للصلاة ولم يسمح لي بذلك ربما لتأخري بالدخول .

🧭 رحلة في الهوية: أمةٌ في مواجهة التحدّيات

الأيغور هم قوم تركيّون مسلمون، لغتهم اللغة الأويغورية تنتمي إلى الفرع التركي لغات آسيا الوسطى، وهي كتابة عربية مخصصة. 
هم مرتبطون ثقافيًا وتراثيًا بشعوب آسيا الوسطى، أكثر من ارتباطهم الصيني، لكنهم يعيشون داخل الدولة الصينية، بين الهوية المغايرة والمصلحة السياسية. 

على مدى السنوات الأخيرة، تعرض الأيغور لسياسات صارمة من السلطات الصينية: برامج “إعادة التربية” أو “التدريب المهني”، مراقبة واسعة للهوية الدينية، ترحيل قسري، وإفراغ بعض الأحياء القديمة كجزء من مخاطبة “السلامة الوطنية”. 
تقارير كثيرة تقول إن مدينة كاشغر القديمة — ومنازلها التقليدية ومساجدها وأزقتها — عُرضت لهدم جزئي أو إعادة بناء بأشكال أكثر تجانسًا مع التخطيط المركزي، مما أثار جدلًا كبيرًا حول ما إذا كان ذلك نوعًا من “محو الذاكرة”. 
كبعض أسماء الشوارع الأيغورية والعلامات الدينية والتي “نُقِحت” أو أُزيلت. 
بل حتى لفظة السلام عليكم ورحمة الله ممنوعة من التداول..
كما ان لفظة "حلال" بالمطاعم محرّمة.. 
هنا في كاشغر، في الأزقة التي تخُتَمّ بالأبواب الخشبية القديمة، تسير نساءٌ يلبسن شيئا من الاحتشام دون الحجاب ، وبصراحة لم اجد محجبة فعليا خلال زيارتي...  
ورجال يعتمرون قبعة مربعة كحلية اللون مزدانة باشكال نباتية تسمى" الدوبا " هي ماتبقى من شكل الأيغور ظاهريا وهم يلبسون الطقم الاسود المكون من بالطو وبنطال اسودين عادة. 
 واراهم في المحال والازقة يتهادون بهدوءٍ ، والامر تحت المراقبةٍ الصارمة ، قد تبيّن لي ذلك الأمر من عدم ردّهم للسلام حينما ابدأهم بالسلام...
وفي القرى البعيدة، تُروى قصص عن أولئك الذين أُخذوا إلى مراكز “التدريب” (السجون)، ولم يعودوا، أو يعيدون إلى أهلهم بعد تغيّرات لا تُعلن.

في الختام: بين الأمس واليوم

حين تغادر كاشغر، تأخذ معك صوت الأذان خلف المكان لاتسمعه بل تحس بوجودة لمآذن تراها بلا روح والمتناثرة بين الأزقة، وبين قطعة خبز محمصة بالتنور ، وذكريات الحكايات التي لم تُكتب بعد في كتب التاريخ.
تدرك أنه لا شيء يُعطى لهويةٍ مسلمةٍ في قلب الصين، إن لم تحمله الأجيال بصبرٍ وإيمان.
إن الأيغور في كاشغر هم شمسٌ في أفقٍ غير مستقرّ، ينهضون من بين الرمال ليحافظوا على نورهم، رغم العواصف.

إن كاشغر ليست مجرد مدينة في غرب الصين، بل هي جرحٌ وشاهدٌ وصوتٌ يصارع من أجل ألا يخمد.

الفصل السابع:

أسطورة العطر والماء “شيانغفي” وظلال النقشبندية

رواية شيانغفي [ أسطورة العطر والماء ] 

في قلب شينجيانغ، حيث تنساب الرياح الشمالية الشرقية وتحمل معها عبق الماضي، تقع "حديقة شيانغفي" ذات المناظر الخلابة. هناك، حيث تلتقي السماء بالأرض وتلتف الجبال حول القرية الصغيرة "آيزريتي"، في بلدة هاوهان، تظهر الطبيعة على صورتها الأكثر نقاءً. الحديقة التي تمتد على مساحة تزيد عن ألف فدان (حوالي 1000 فدان) لم تكن مجرد بقعة من الأرض، بل كانت بداية لحكاية قديمة تكتبها الرياح والنهر والذكريات.

بدأت رحلة حديقة شيانغفي في عام 2014، عندما قرر القائمون على تطوير المنطقة أن يجعلوا منها معلمًا سياحيًا يعكس الثقافة الفريدة لشعوب المنطقة. ومع مرور السنوات، أصبحت الحديقة في عام 2019 واحدة من الوجهات السياحية الوطنية المصنفة ضمن المواقع السياحية من المستوى 4A، حيث تجذب الزوار من شتى أنحاء العالم لاستكشاف تاريخها العريق وجمالها الخلاب.

داخل هذه الحديقة، سيجد الزائر نفسه محاطًا بمجموعة من المعالم التي تحكي قصصًا ضاربة في عمق التاريخ. من بينها "حجر شيانغفي" الذي يحمل ذكرى تلك الأيام التي ولدت فيها الأساطير، إلى "مقر إقامة شيانغفي السابق" حيث سكن الأشخاص الذين شكلوا تاريخ المنطقة. أما "طاحونة الماء القديمة" فتُعتبر شاهدًا على التقاليد القديمة في استخدام الماء، بينما تحمل "شجرة الحب" رمزًا للرغبات المستحيلة والمشاعر الخالدة.

وفي الزمان الذي نكتب عنه، حيث كانت الأسطورة تُكتب بالحبر ذاته الذي ينساب من عيون الجبال، كانت "أسطورة شيانغفي" تروي عن "المحظية العطرة" التي أصبحت جزءًا من القصص التي يتناقلها الناس. يتداولها الأجداد كما يتداولون الزهور العطرية، لكن الحكاية، رغم جمالها، تحولت إلى مأساة، لتبقى تلك الفتاة العطرة التي "تحولت إلى فراشة" مع مرور الأيام، عالقة في الأذهان.

لكن القصة الحقيقية التي يجب أن تُروى هنا هي قصة "محمد يوسف" الرجل الذي جاء إلى جنوب شينجيانغ ليغير مجرى التاريخ. لم يكن محمد يوسف مجرد معلم صوفي عادي، بل كان رمزا لطريقة "النقشبندية" التي حملها من بلاد ما وراء النهر إلى هذه الأرض، ليبدأ مسارًا روحيًا وأيديولوجيًا كان له الأثر العميق على سكان المنطقة.

عاش "محمد يوسف" في زمن لم يكن فيه الطريق إلى الله إلا عبر المشقة والتضحية، فكان يروج للطريقة النقشبندية التي جمعت بين السلوك الصوفي والالتزام الديني، حتى أصبحت طريقة صوفية لها أتباع مخلصون في كافة أنحاء شينجيانغ. وعندما وافته المنية، خلفه ابنه "آفاق خوجة"، الذي حمل الراية بعده وأصبح خليفته في نشر تعاليم الطريقة.

ورغم أن هذا الضريح الذي يُعد اليوم من أبرز المعالم الإسلامية في شينجيانغ كان في البداية مجرد مكان للراحة الأبدية لمعلم صوفي، إلا أنه سرعان ما تحول إلى رمز من رموز التاريخ الروحي والسياسي في المنطقة. يضم الضريح القبور التي تتراكم عليها طبقات من الزمن لعائلة "آفاق خوجة" التي حملت الإرث نفسه لعدة أجيال.

ومن هنا، تبدأ أسطورة "شيانغفي" في الظهور. كانت أحد أحفاد "آفاق خوجة" قد ارتبطت بإمبراطور "تشيان لونغ" في قصة تُخلد في الزمان والمكان. كانت تلك الفتاة، التي اشتهرت بعطرها الذي لا يُنسى، قد اختارت طريقًا شائكًا، حين تخلت عن أصولها لتصبح محظية في قصر الإمبراطور. لكن ما لبثت أن تلاشت في ظلال القصر، وسط الأحزان والآلام، حتى ظهرت، بعد وفاتها، في الأساطير كفراشة تحلق في السماء، تحمل في جناحيها العطر الذي سلبت به القلوب.

وكلما مر الزمان، كلما تجددت الأسطورة، وتشبثت بالذاكرة الجمعية للناس. فتجدها اليوم في "معرض شيانغفي" داخل الحديقة، حيث تُعرض أدوات وقطع أثرية تحكي عن حياة هذه الشخصية الغامضة، وكذلك في "جناح العطور" الذي يحمل عبير تلك الأيام البعيدة. أما "سوق كاشغر القديم" فيعج بروائح التوابل، حيث يلتقي المزارعون والتجار المحليون، بينما يعكس "المعرض الثقافي" تاريخًا عريقًا يمتد إلى ما وراء حدود الجغرافيا.

ومع كل زاوية في هذه الحديقة، يبقى السؤال نفسه يتردد: هل ماتت "المحظية العطرة" أم تحولت إلى فراشة؟ أم أنها، في الواقع، هي أسطورة بحد ذاتها، ستظل تحوم في الأفق إلى الأبد، مثل العطر الذي لا يزول؟




✦ رحلة جنوب الصين بين التسوق وقمم الجبال وعمق الاودية والأنهار (5–24 أكتوبر 2025)

✍️ د.الرحال وائل عبدالعزيز الدغفق
 (رحّال الخبر)

مقدمة: 

في الشرق البعيد، حيث تتعانق السحب بالجبال وتغفو الأنهار في أحضان المدن القديمة، كانت الصين على موعدٍ مع رحلةٍ عربيةٍ تحمل عبق القهوة وفضول المغامرة.
رحلةٌ جمعت بين الحنين إلى الطبيعة والبصيرة بالتاريخ، وبين دهشة المدن الكبرى وهدوء القرى النائية.
اثنا عشر يوماً بين غوانغجو وقويلين وتشانغجياجيه، في حكايةٍ تمزج بين الضوء والمطر، بين الحجر والماء، وبين الإنسان والطبيعة التي خلقها الله جمالًا يتجدد في كل نظرة.

الفصل الأول:

الوصول إلى غوانغجو عناق الشرق الأول

في صباح الثاني عشر من أكتوبر، كانت ثلاث طائراتٍ تشقّ طريقها من الرياض والكويت ودبي، تلتقي فوق سماء الصين في رحلةٍ جمعت الإخوة على أرضٍ غريبة الملامح، دافئة الاستقبال.


كنتُ في انتظارهم منذ الصباح، وعند الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة كانت القوافل قد وصلت مطار غوانغجو الدولي، حيث احتفى بنا المرشد المحلي بابتسامةٍ صينيةٍ مطمئنة، واتجهنا إلى فندق أوشن في قلب المدينة.

كان اليوم الأول حراً، فاختار بعض الرفاق مطاعم تركية وعربية قريبة، بينما انطلق آخرون بين أسواق غوانغجو الغارقة في الألوان والعطور.
ومع منتصف الليل، وصل احد اعضاء الرحلة، لتكتمل القافلة ويبدأ المشهد الأول من الرواية الشرقية.



في اليوم التالي، تجولنا بين معلم أشجار الصنوبر الستة، ثم إلى أكاديمية عائلة تشين وبيت الزعيم صن يات-سين.



وعلى جزيرة شاميان التي ما زالت تحتفظ بملامح الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، سرنا تحت أشجارها القديمة على ضفاف نهر اللؤلؤ.
واختُتم اليوم في سوق تشينغبينغ الشعبي، حيث تنبعث روائح الأعشاب والأسماك المجففة وذكريات الصين القديمة.

الفصل الثاني:

إلى قويلين ومدرجات الأرز أنشودة الريف الصيني

ليلة الرابع عشر من أكتوبر كانت مختلفة، إذ وصلت احد أعضاء الرحلة بعد تأخيرٍ طويل سببه جواز السفر، فكان استقباله في المطار كأننا نستقبل صديق عاد من رحلة صبرٍ طويلة.


وفي صباح اليوم التالي، انطلقنا بالقطار السريع نحو قويلين، مدينة الجبال والأنهار.
ومن هناك إلى لونغشنغ لزيارة قرية لونغ إي ذات المدرجات الأزلية التي تُزرع بالأرز منذ مئات السنين.
تسلقنا الممرات، وشاركنا القرويين طعامهم البسيط المطهو على البخار، في بيوتٍ خشبيةٍ تتدلّى من سفوح الجبال.
كانت الليلة بين الغيم والماء، أنوار صغيرة تتلألأ على مدرجات الأرز، كأن السماء انثنت لتقبل الأرض.

مع فجر الخامس عشر من أكتوبر، استيقظنا على صياح الديكة وهديل وتغاريد العصافير.
انطلقنا بعدها إلى يانغشوو، مدينة الشعر على ضفاف نهر لي، حيث ركبنا السفن وانساب بنا الماء بين الجبال المخروطية التي ألهمت الرسامين والشعراء.


وفي المساء، حضرنا عرض “ليو سانجيه” الأسطوري فوق سطح النهر، مشهدٌ من الضوء والموسيقى يحكي عن حبٍّ ووفاء في أسطورةٍ خالدة.

الفصل الثالث:

الكهوف والبحيرات حيث سكون قويلين وسحرها

صباح السادس عشر من أكتوبر ودّعنا يانغشوو، وعرّجنا على كهف الناي (Reed Flute Cave) حيث تتدلّى الصخور كأنها ألحانٌ متجمدة.
ثم زرنا مصنع الحرير قبل الوصول إلى فندق برافو جولين المطل على البحيرة، حيث انعكست أنوار المساء على الماء، فبدت المدينة لوحةً حية من جمالٍ وطمأنينة.

في السابع عشر من أكتوبر، زرنا صخرة خرطوم الفيل، رمز جولين الأيقوني، ثم ركبنا القطار السريع نحو مدينة العجائب تشانغجياجيه في رحلةٍ استغرقت سبع ساعات من الجنوب إلى الشمال، حتى وصلناها ليلاً تحت أمطارٍ خفيفة ونسيمٍ جبليٍّ بارد.

الفصل الرابع: 

تشانغجياجيه وجبال الأساطير بسلالم السماء

في الثامن عشر من أكتوبر بدأ فصل الأعاجيب.
توجهنا إلى محمية وولينغيوان الوطنية، وشاهدنا جبال جينبيان الشاخصة، ثم صعدنا بـ مصعد بايلونغ الزجاجي إلى حيث السحب تلامس قمم الصخور.
هناك وقفنا أمام مشهدٍ لا يُنسى؛ جبالٌ عمودية مغروسة في الغيم، ومنها استوحى المخرج الأمريكي فيلمه الشهير Avatar.

أما في التاسع عشر من أكتوبر، فقد واجهنا الطبيعة بصلابة الإنسان؛
توجهنا إلى جبل تيانمين (بوابة السماء)، لكن المطر والبرد والضباب حال دون رؤية الجسر الزجاجي الشهير.
ومع ذلك تابعنا السير حتى نزلنا 999 درجة معدنية وسط الرياح والضباب، وكانت الرحلة نزولاً من السماء إلى الأرض بكل ما تحمله الكلمة من تحدٍّ وجمال.

في اليوم الثالث (20 أكتوبر)، زرنا سوق وولينغيوان للعطارة الصينية، ثم مبنى الأبراج 72 التراثي المزدان بالعروض والرقصات الشعبية.
وفي المساء، كانت الرحلة الجوية إلى غوانغجو بديلاً عن القطار الطويل، لنصل منتصف الليل إلى فندق أوشن، منهكين ولكن فرحين.

الفصل الخامس: 

ختام الرحلة في غوانغجو بين الأبراج والمساجد

في الحادي والعشرين من أكتوبر، كان لنا موعد مع المدينة الكبرى من جديد.
بدأنا من برج كانتون الشاهق، مروراً بـ ساحة هواشنغ الفسيحة، ثم أسواق الأزياء وسوق بيمان الشهير، وختام اليوم في شارع بيجين الصاخب بالحياة.
كانت غوانغجو تودّعنا بأنوارها التي لا تنام.

وفي الثاني والعشرين من أكتوبر، بدأنا جولتنا الختامية في حديقة الكباش الخمسة، رمز الخلاص من المجاعة، ثم زرنا أسوار سلالة مينغ العتيقة، والقاعة التذكارية للدكتور صن يات-سين مؤسس الجمهورية الصينية الحديثة.
ومن هناك إلى أسواق شوبينغ للعطارة والفطر والجينسنغ، تلتها زيارة روحية في مسجد هوايشنغ ذي المنارة البيضاء، ثم مسجد أبي وقاص، الذي يروي التاريخ أنه بني في عهد الصحابة الأوائل.
واختُتم اليوم في حديقة ليوان حيث تتناثر البرك والجسور الخشبية تحت مطرٍ خفيف يوشك أن يقول: انتهت الحكاية.

وفي ذلك المساء، انطلقتُ وحدي إلى سوق الشاي الأكبر في غوانغجو، لأكمل فصولي الخاصة؛ أبحث عن أوراق الشاي النادرة، وأغذي متحف الشاي في الخبر بمعرفةٍ جديدة من أرض الشاي الأولى.

الفصل السادس:

 الوداع ومعرض كانتون — رسالة الشرق الأخيرة

في الثالث والعشرين من أكتوبر، زرت المنطقة الثانية من معرض كانتون فير 2025، حيث تتجلى الصناعة الصينية في أبهى صورها.
ثم عدت إلى الفندق استعداداً للرحيل، مودعاً الرفاق الذين رافقوني في رحلةٍ كانت أجمل من الحلم ، حيث الجمال لا يُكتب بل يُعاش.


خاتمة الجنوب قوانزو وجولين وتشاغجياجيه من جبال تيانمين

هكذا كانت الصين...
بلادٌ تجمع في حضنها التاريخ والحكمة، الجمال والصرامة، الألوان والضباب.
رحلةٌ لم تكن مجرد مسارٍ جغرافي، بل عبورٌ في الذات؛ من صخب المدن إلى سكون الجبال، ومن أعشاب العطارين إلى بخار الشاي الذي يروي الحكايات.
وما بين الغيم والابتسامات والقطارات والأنهار، وُلدت ذاكرةٌ جديدة تضاف إلى سجل رحلات "رحّال الجزيرة العربية"،
ذكرى تقول لكل من يقرأ:

"سافر لتعرف، وتأمل لتشكر، وعد لتُحدّث بما رأيت من جمال الله في أرضه."




الفصل الأخير:
الخلاصة الكبرى  عينُ رحّال، لا عين سائح

🏮 خامسًا: 

الخلاصة الفكرية المستخلصة لفهم شعب الصين.

الشعب الصيني يشبه نهر اليانغتسي… ومع أنه يبدو مغلقًا أحيانًا، إلا أن جوهره الإنساني منفتح على السلام والتعايش ما دام الآخر يحترم حدوده وثقافته.

خلاصة المسلمين في الصين:

هم أبناء طريق الحرير: بعضهم مندمجٌ في الجسد، وبعضهم غريبٌ في الروح… لكن الضوء باقٍ ما بقي الدعاء عند الغروب ورغيف النان الحارّ في سوق كاشغر.

خاتمتي الشخصية:
حين غادرتُ كاشغر، كانت المآذن الصغيرة الصامتة تبتعد شيئًا فشيئًا، وأطفالٌ يهمسون بالتحية بلغتين: «السلام عليكم» و «ني هاو». أدركتُ أن هذه البلاد لا تُقرأ بعيون العابر، بل بخطواتٍ طويلة وصبرٍ جميل. هنا تتجاور بكين الزجاجية ونينغشيا الهادئة وشيان العتيقة وكاشغر التي تضعُ الملحَ على جرح الذاكرة حتى لا ينام.

✍️: الرحال وائل الدغفق 1447هـ

هناك تعليق واحد:

  1. رائع، أتمني أن تلقي نظرة علي موقع مغترب الخليج العربي المتخصص في نشر كل ما يخص المغتربين بداية من إجراءات السفر وحتي الخدمات الإلكترونية التي يحتاجون إليها في الغربه، بالإضافة الي وجود اقسام مثل الرياضة التي تركز علي نشر روابط حجز تذاكر المباريات، وقسم منوعات عالمية الذي ينشر تفاصيل الفعاليات الفنية في جميع دول العالم

    ردحذف