✦ رحلة الصين بين الجبال والأنهار (5–24 أكتوبر 2025)
✍️ د.الرحال وائل عبدالعزيز الدغفق
(رحّال الخبر)
مقدمة
في الشرق البعيد، حيث تتعانق السحب بالجبال وتغفو الأنهار في أحضان المدن القديمة، كانت الصين على موعدٍ مع رحلةٍ عربيةٍ تحمل عبق القهوة وفضول المغامرة.
رحلةٌ جمعت بين الحنين إلى الطبيعة والبصيرة بالتاريخ، وبين دهشة المدن الكبرى وهدوء القرى النائية.
اثنا عشر يوماً بين غوانغجو وقويلين وتشانغجياجيه، في حكايةٍ تمزج بين الضوء والمطر، بين الحجر والماء، وبين الإنسان والطبيعة التي خلقها الله جمالًا يتجدد في كل نظرة.
الفصل الأول:
الوصول إلى غوانغجو عناق الشرق الأول
في صباح الثاني عشر من أكتوبر، كانت ثلاث طائراتٍ تشقّ طريقها من الرياض والكويت ودبي، تلتقي فوق سماء الصين في رحلةٍ جمعت الإخوة على أرضٍ غريبة الملامح، دافئة الاستقبال.
كنتُ في انتظارهم منذ الصباح، وعند الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة كانت القوافل قد وصلت مطار غوانغجو الدولي، حيث احتفى بنا المرشد المحلي بابتسامةٍ صينيةٍ مطمئنة، واتجهنا إلى فندق أوشن في قلب المدينة.
كان اليوم الأول حراً، فاختار بعض الرفاق مطاعم تركية وعربية قريبة، بينما انطلق آخرون بين أسواق غوانغجو الغارقة في الألوان والعطور.
ومع منتصف الليل، وصل احد اعضاء الرحلة، لتكتمل القافلة ويبدأ المشهد الأول من الرواية الشرقية.
في اليوم التالي، تجولنا بين معلم أشجار الصنوبر الستة، ثم إلى أكاديمية عائلة تشين وبيت الزعيم صن يات-سين.
وعلى جزيرة شاميان التي ما زالت تحتفظ بملامح الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، سرنا تحت أشجارها القديمة على ضفاف نهر اللؤلؤ.
واختُتم اليوم في سوق تشينغبينغ الشعبي، حيث تنبعث روائح الأعشاب والأسماك المجففة وذكريات الصين القديمة.
الفصل الثاني:
إلى قويلين ومدرجات الأرز أنشودة الريف الصيني
ليلة الرابع عشر من أكتوبر كانت مختلفة، إذ وصلت احد أعضاء الرحلة بعد تأخيرٍ طويل سببه جواز السفر، فكان استقباله في المطار كأننا نستقبل صديق عاد من رحلة صبرٍ طويلة.
وفي صباح اليوم التالي، انطلقنا بالقطار السريع نحو قويلين، مدينة الجبال والأنهار.
ومن هناك إلى لونغشنغ لزيارة قرية لونغ إي ذات المدرجات الأزلية التي تُزرع بالأرز منذ مئات السنين.
تسلقنا الممرات، وشاركنا القرويين طعامهم البسيط المطهو على البخار، في بيوتٍ خشبيةٍ تتدلّى من سفوح الجبال.
كانت الليلة بين الغيم والماء، أنوار صغيرة تتلألأ على مدرجات الأرز، كأن السماء انثنت لتقبل الأرض.
مع فجر الخامس عشر من أكتوبر، استيقظنا على صياح الديكة وهديل وتغاريد العصافير.
انطلقنا بعدها إلى يانغشوو، مدينة الشعر على ضفاف نهر لي، حيث ركبنا السفن وانساب بنا الماء بين الجبال المخروطية التي ألهمت الرسامين والشعراء.
وفي المساء، حضرنا عرض “ليو سانجيه” الأسطوري فوق سطح النهر، مشهدٌ من الضوء والموسيقى يحكي عن حبٍّ ووفاء في أسطورةٍ خالدة.
الفصل الثالث:
الكهوف والبحيرات حيث سكون قويلين وسحرها
صباح السادس عشر من أكتوبر ودّعنا يانغشوو، وعرّجنا على كهف الناي (Reed Flute Cave) حيث تتدلّى الصخور كأنها ألحانٌ متجمدة.
ثم زرنا مصنع الحرير قبل الوصول إلى فندق برافو جولين المطل على البحيرة، حيث انعكست أنوار المساء على الماء، فبدت المدينة لوحةً حية من جمالٍ وطمأنينة.
في السابع عشر من أكتوبر، زرنا صخرة خرطوم الفيل، رمز جولين الأيقوني، ثم ركبنا القطار السريع نحو مدينة العجائب تشانغجياجيه في رحلةٍ استغرقت سبع ساعات من الجنوب إلى الشمال، حتى وصلناها ليلاً تحت أمطارٍ خفيفة ونسيمٍ جبليٍّ بارد.
الفصل الرابع:
تشانغجياجيه وجبال الأساطير بسلالم السماء
في الثامن عشر من أكتوبر بدأ فصل الأعاجيب.
توجهنا إلى محمية وولينغيوان الوطنية، وشاهدنا جبال جينبيان الشاخصة، ثم صعدنا بـ مصعد بايلونغ الزجاجي إلى حيث السحب تلامس قمم الصخور.
هناك وقفنا أمام مشهدٍ لا يُنسى؛ جبالٌ عمودية مغروسة في الغيم، ومنها استوحى المخرج الأمريكي فيلمه الشهير Avatar.
أما في التاسع عشر من أكتوبر، فقد واجهنا الطبيعة بصلابة الإنسان؛
توجهنا إلى جبل تيانمين (بوابة السماء)، لكن المطر والبرد والضباب حال دون رؤية الجسر الزجاجي الشهير.
ومع ذلك تابعنا السير حتى نزلنا 999 درجة معدنية وسط الرياح والضباب، وكانت الرحلة نزولاً من السماء إلى الأرض بكل ما تحمله الكلمة من تحدٍّ وجمال.
في اليوم الثالث (20 أكتوبر)، زرنا سوق وولينغيوان للعطارة الصينية، ثم مبنى الأبراج 72 التراثي المزدان بالعروض والرقصات الشعبية.
وفي المساء، كانت الرحلة الجوية إلى غوانغجو بديلاً عن القطار الطويل، لنصل منتصف الليل إلى فندق أوشن، منهكين ولكن فرحين.
الفصل الخامس:
ختام الرحلة في غوانغجو — بين الأبراج والمساجد
في الحادي والعشرين من أكتوبر، كان لنا موعد مع المدينة الكبرى من جديد.
بدأنا من برج كانتون الشاهق، مروراً بـ ساحة هواشنغ الفسيحة، ثم أسواق الأزياء وسوق بيمان الشهير، وختام اليوم في شارع بيجين الصاخب بالحياة.
كانت غوانغجو تودّعنا بأنوارها التي لا تنام.
وفي الثاني والعشرين من أكتوبر، بدأنا جولتنا الختامية في حديقة الكباش الخمسة، رمز الخلاص من المجاعة، ثم زرنا أسوار سلالة مينغ العتيقة، والقاعة التذكارية للدكتور صن يات-سين مؤسس الجمهورية الصينية الحديثة.
ومن هناك إلى أسواق شوبينغ للعطارة والفطر والجينسنغ، تلتها زيارة روحية في مسجد هوايشنغ ذي المنارة البيضاء، ثم مسجد أبي وقاص، الذي يروي التاريخ أنه بني في عهد الصحابة الأوائل.
واختُتم اليوم في حديقة ليوان حيث تتناثر البرك والجسور الخشبية تحت مطرٍ خفيف يوشك أن يقول: انتهت الحكاية.
وفي ذلك المساء، انطلقتُ وحدي إلى سوق الشاي الأكبر في غوانغجو، لأكمل فصولي الخاصة؛ أبحث عن أوراق الشاي النادرة، وأغذي متحف الشاي في الخبر بمعرفةٍ جديدة من أرض الشاي الأولى.
الفصل السادس: الوداع ومعرض كانتون — رسالة الشرق الأخيرة
في الثالث والعشرين من أكتوبر، زرت المنطقة الثانية من معرض كانتون فير 2025، حيث تتجلى الصناعة الصينية في أبهى صورها.
ثم عدت إلى الفندق استعداداً للرحيل، مودعاً الرفاق الذين رافقوني في رحلةٍ كانت أجمل من الحلم.
وقبل أن تنطوي الصفحة، اتفقنا أن الرحلة القادمة ستكون إلى الهند والمثلث الذهبي (دلهي – آغرا – جايبور)، وربما إلى كشمير في ربيع مارس، حيث الجمال لا يُكتب بل يُعاش.
الخاتمة
هكذا كانت الصين...
بلادٌ تجمع في حضنها التاريخ والحكمة، الجمال والصرامة، الألوان والضباب.
رحلةٌ لم تكن مجرد مسارٍ جغرافي، بل عبورٌ في الذات؛ من صخب المدن إلى سكون الجبال، ومن أعشاب العطارين إلى بخار الشاي الذي يروي الحكايات.
وما بين الغيم والابتسامات والقطارات والأنهار، وُلدت ذاكرةٌ جديدة تضاف إلى سجل رحلات "رحّال الجزيرة العربية"،
ذكرى تقول لكل من يقرأ:
"سافر لتعرف، وتأمل لتشكر، وعد لتُحدّث بما رأيت من جمال الله في أرضه."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق