السبت، 27 ديسمبر 2025

معالم حضارية تضاريسية واجتماعية افريقية في مالي نسيها الزمن لشعب الدوغون وحضارة جرف باندياغارا.


 جمهوريات إفريقيا ، وتوازن بين التاريخ والتضاريس والاجتماع لمناطق حضارية نسيها الزمن .

الفصل الأول
مالي أحدى جمهوريات غرب إفريقيا
هنا الجغرافيا حين تُنجب مجتمعًا
لغرب إفريقيا، بالطبع  ليست جهةً واحدة،
بل فسيفساء من السواحل والغابات والسهول والجبال،
وفي كل تضريسٍ منها
نشأت مجتمعاتٌ
لم تُشبه غيرها
لأن المكان لم يكن متشابهًا.
هنا، لم تصنع السياسة الخرائط وحدها،
بل صنعتها الأنهار، والتربة، وطريقة الإنسان في النجاة.
ومن بين هذه الجغرافيات المتباينة، تظهر بعض الأماكن. 
لا بوصفها “مناطق تاريخية”، بل بوصفها نقاط توازن
حفظت العلاقة بين الإنسان والمكان حين اختلّت في غيرها.

شعب الدوغون وبناء حضارة في جرف باندياغارا. 
ومن أكثر هذه الأمثلة دلالة:
جرف باندياغارا في جمهورية مالي.
جرف باندياغارا – مالي
حين يصبح الجبل نظامًا اجتماعيًا
يمتد جرف باندياغارا في قلب مالي كجدارٍ رملي طويل..
ويشابه هذا الجرف جرف طويق بالمملكة العربية السعودية ولكن أصغر طولا من جبال طويق وهي بطول أكثر من 700 كلم اما جرف مالي لايتعدى 150 كلم. 

https://maps.app.goo.gl/3N9QLvjgEjSe9d8o7
احداثية احد نقاط الجرف 
وصورة للبناء في جرف طويق افريقيا 

في الخرائط، يظهر جرف باندياغارا كخطٍّ رملي طويل في قلب غرب إفريقيا.
أما في رحلتنا ، فهو في رأيي أنه قرار بشري قديم اتخذ هيئة الجبل كحماية وملاذ آمن.
ويمتد هذا الجرف الصخري قرابة مئةٍ وخمسين كيلومترًا في وسط مالي، لكن أثره لا يُقاس بطوله، بل بما استوعبه من حياةٍ اختارت أن تعيش داخل الصخر لا فوقه.
هنا، لم تأتِ قرى الدوغون لتغالب الجبل،
ولا لتعلو عليه، بل لتتفاهم معه.
لا يلفت النظر بارتفاعه وحده،
بل بما اختزنه من حياةٍ قررت، منذ قرون،
أن تجعل من الجبل شريكًا لا عائقًا.
هنا استقر شعب الدوغون على الحافة الصخرية، لا بدافع الانعزال الرومانسي،
بل بحثًا عن الأمان، والسيطرة على الإيقاع اليومي للحياة في منطقةٍ كثيرة التحوّل.
القرى الدوغونية لا تُفهم كعمران منفصل، بل كامتداد للتضريس.
البيوت الطينية، ومخازن الحبوب المخروطية،
وتوزيع المساكن على مستويات الجرف،
كلها تشكّل نظامًا اجتماعيًا مرئيًا
يعكس التسلسل، والدور، والعلاقة بين الفرد والجماعة.
لهذا، فإن وصف الدوغون بأنهم “أحد أقدم شعوب إفريقيا” ليس دقيقًا بالمعنى التاريخي الصارم، لكنه مفهوم بالمعنى الثقافي.
والأدق أن يُقال:
إنهم من أكثر المجتمعات الإفريقية حفاظًا على بنيتها الرمزية والمعيشية دون قطيعة مع الزمن أو ارتهانٍ له.
في باندياغارا، لا تنفصل الزراعة عن المعتقد،
ولا المعتقد عن حركة الشمس والظل،
ولا الظل عن اختيار موقع السكن.
كل عنصر في المكان يؤدي وظيفةً تتجاوز شكله،
وكل تفصيلٍ معماري يحمل معنىً اجتماعيًا صامتًا.
وهذا ما يمنح الجرف قيمته الحقيقية
ضمن جغرافيا غرب إفريقيا:
فهو ليس موقعًا أثريًا جامدًا،
ولا قريةً سياحية مصنوعة للزائر،
بل نموذجًا حيًا
لكيف يمكن للجغرافيا أن تُنتج مجتمعًا
دون أن تبتلعه.
وعند مقارنة باندياغارا بسواحل السنغال، أو سهول النيجر، أو غابات غينيا، يتضح أن تنوّع غرب إفريقيا لم يكن تنوّع موارد فقط، بل تنوّع طرائق عيش،
فرضها المكان قبل أن تشرحها السياسة.
وفي كتابٍنا هذا نإاول أن نتتبع المناطق التاريخية والتضاريسية والاجتماعية
لجمهوريات إفريقيا،
ولا يُدرج جرف باندياغارا بوصفه استثناءً، بل بوصفه دليلًا على أن بعض المجتمعات لم تنتصر على الطبيعة…
بل فهمتها، فنجت.
وحين كنا نتمشى بين القرى، شعرنا أن الأزقة ضيّقة ، لا لتمنعك من المرور، بل لتُجبرك على التخفّف: من الضجيج، من الاستعجال، ومن وهم أن العالم خُلق لك وحدك.
قالوا كثيرًا عن الدوغون:
إنهم الأقدم، وإنهم يعرفون ما لا نعرف،
وإنهم نظروا إلى السماء قبل غيرهم.
لكن الجرف لا يحب المبالغة.
وما رأيته لا يحتاج أسطورة ليكون مدهشًا.
الدوغون ليسوا أقدم من الزمن،
لكنهم أذكى من أن يخاصموه.
لم يسابقوه، ولم يعلنوا الانتصار عليه، بل عاشوا على إيقاعه…
فتركهم وشأنهم. في طقوسهم، وفي هندسة قراهم، وفي اختيارهم العيش على الحافة. 

هناك تدرك أن الثقافة ليست كمًّا من المعلومات كما نسطّرها، بل قدرة على الاستمرار دون صراخ.
وعند الغروب، حين يلامس الضوء حواف الجرف، لا تشعر أنك تشاهد منظرًا طبيعيًا،
بل تشهد اتفاقًا قديمًا لم يُكتب، ولم يُنقض.
جرف باندياغارا لا يطلب منك أن تُعجب، ولا أن تُصوّر، ولا أن تُفسّر.
هو فقط يقف هناك…
ويترك لك مهمة أصعب:
أن تسأل نفسك كيف استطاع إنسانٌ ما
أن يعيش كل هذا الزمن من غير أن يحتاج
أن يثبت أنه الأقدم، ولا الأذكى،
ولا الأعلى صوتًا.

شعب الدوغون… حين يسكن الإسلام جرف باندياغارا بهدوء وسلام. 
لم ألتقِ الدوغون عند مدخل قرية،
ولا عند رقصة أقنعة كما تفعل الكاميرات،
بل التقيتهم أول مرة حين سمعت الأذان
يخرج مناديا …
وكأنه لا يريد أن يوقظ الجبل بل ليفتح قلوبهم للتوحيد .
في Bandiagara Escarpment
لا يعلو الصوت على الصخر،
ولا يُنافس الإنسان ظلَّه.
كل شيء هنا تعلّم التوازن:
الدين، والعادة، والعيش اليومي.
شعب Dogon people
لم يدخل الإسلام عليهم دفعةً واحدة،
ولا دخل بسيفٍ ولا صخب.
تسرّب إليهم كما يتسرّب الماء بين طبقات الحجر… هادئًا، ثابتًا، ثم استقر.
اليوم، ستجد الرجل يصلي الفجر في مسجد طيني صغير،  ثم يعود ليحرث أرضه،
كما كان يفعل أبوه، وجده، لكن بطمأنينة جديدة لا تُلغي ما قبلها ولا تخاصمه.
زراعتهم ليست مهنة، بل علاقة وقت.
الدخن والذرة لا تُزرع حين تأمر الساعة،
بل حين يسمح الظل ويعطي إشارة،
فحين تستقر الشمس في موضعها الصحيح على الجرف يكون الموعد قد بدأ.
والفلاح هنا يعرف أن الرزق لا يأتي بالقوة، بل بالفهم.
أما البيوت، فلا تُبنى لتُدهش، ولا لتُرى من بعيد.
تُبنى لتؤدي الغرض… ثم تصمت.

الابراج الأرضية وليست كالابراج المخروطية على الجبل وهي الأقدم كهذه. 
وهذه ايضا 
مخازن الحبوب بأسقفها المخروطية تشبه القباب الصغيرة، وكأنها تقول:
إن حفظ القوت عبادة أيضًا.
وفي بيت الاجتماع، ينحني الرجال دون أن يُطلب منهم.
كون السقف المنخفض لا يسمح بالوقوف،
وكأن العمارة نفسها تُعلّم الناس أن الكِبر لا مكان له هنا.
وهذا…ليس تقليدًا دينيًا نصيًا،
لكنه لا يعارض الإسلام، بل يخدم روحه.
قد يظن أن طقوس الدوغون
بقايا وثنية معاندة.
كالأقنعة التي تُلبس في بعض المناسبات
مع أنني اراها هكذا ، يقول المدافعون أنها لغة رمزية قديمة لتوديع الموت وضبط الحزن
حتى لا يخرج عن السيطرة.
والعحيب أن الإسلام هنا لم يُلغِ هذه الطقوس دفعة واحدة، بل أعاد ترتيبها، وبقيت شكلا لاروحا ، وما تعارض مع التوحيد سقط، وما بقي صار عادة اجتماعية لا تقديس فيها.

رأينا المرأة محتشمة بلباسها المحلي،
ولا يشبه لباس المدن،كما لا يقل عنه وقارًا.
ونسمع القرآن يُتلى بلكنات إفريقية صافية،
لكن المعنى واضح، والخشوع حاضر.
هنا في باندياغارا، لا يُفصل الإسلام عن الحياة، ولا تُستَخدم الحياة ذريعة لتجاوزه.
كل شيء في موضعه، وكأن الجبل نفسه
وضع القواعد منذ زمن.
ونحن نغادر الجرف، نفهم أن الدوغون
لم يكونوا بحاجة لأن يعلنوا إسلامهم بصوت مرتفع، ولا أن يتخلوا عن ذاكرتهم
ليُرضوا أحدًا.
اختاروا طريقًا أصعب:
أن يعيشوا الإسلام
كما يعيشون الجبل…
بثبات، وبلا استعراض.
ولي رأي هنا ..ففي جرف باندياغارا، يظهر الإسلام كغطاء اجتماعي واضح ، وبشكل نسقٍ منسجم، يدخل على مجتمعٍ قائم فيعيد ترتيبه دون أن يهدمه. 
وهنا تكمن فرادة الدوغون: في قدرتهم على الجمع بين الإيمان، والذاكرة، والزراعة ولاتعارض بينهم الا عادات الرقص للحوتى والباقية رغم تحرر الكثير من عادات الوثنية تلك لكنها اصبحت فلكلور يتجمّع حوله السياح ولقمة عيش ليس الا… 
أما العمارة، فلا صراعٍ مع المكان أو مع الزمن.
هكذا رأيتهم وهكذا فهمتهم نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق والرضا واقامة التوحيد… 

الرحال وائل الدغفق مالي جرف باندياغارا 1447هـ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق