الأربعاء، 20 أغسطس 2025

خواطر وقائع تاريخية عبر رحلاتي العالمية .. رحال الخبر

التغيّرات الجيوسياسية والهيستوسياسية على مناطق النفوذ العالمية بين 1400 حتى 2025م.. 

التغيّرات الجغرافية التاريخية السياسية المتغيّرة على مدى القرون الخمس الماضية هي تغيّرات متسارعة بتسارع عالمنا اليوم .. 

أفول النفوذ العباسي والاموي من بغداد الى غرناطة.. 
وأغلب تلك التغيّرات حدثت بعد سقوط القوة العالمية الاسلامية في الشرق الاوسط الدولة العباسية وفي الاندلس الاموية ان صح تعبيرها بذلك وثم افولها..عام 1492م في غرناطة من جهة وفي بغداد والشام ومصر من جهة اخرى .. 
وكان القرن الخامس عشر الافرنجي 15 بداية انكفاء المسلمين والعرب في الغرب الأوروبي وكذلك الشرق الأوسط وان استمر اسلاميا لكنه غير عربيا.

قوى اوربية برتغالية اسبانية تحتل العالم. 
وأدى ذلك لانطلاق إسبانيا والبرتغال في رحلات غزو العالم من الامريكيتين والشرق الاوسط وافريقيا وشرق آسيا ..
ويرجع سبب ذلك هو بحثهم عن طرق تجارة جديدة بعد انغلاق المتوسط بيد العثمانيين.
الامبراطورية العثمانية.. 
ثم ظهرت القوة العثمانية وتمثّلت في فتح القسطنطينية 1453م واسقطت امبراطوريات واستولت على دول كانت تحكم العالم كالقيصرية والنمساوية والمماليك .
وهي لحظة مفصلية رفعت الدولة العثمانية الى ان تكون قوة عالمية ذات نفوذ واسع .
وقد سيطرت على طرق التجارة بين الشرق والغرب ، بل اصبح البحر المتوسط بحيرة عثمانية بلا منازع .
القوى القيصرية الروسية.. 
ثم شهدنا صعود روسيا القيصرية في القرنين 16–18م.
وقد توسعت في سيبيريا وآسيا الوسطى حتى وصلت الى المحيط الهادئ.
والسبب كان رغبة في الوصول للمياه الدافئة في البحر الأسود والمتوسط.
قوى اوربية بريطانية فرنسية تقتسم العالم. 
ثم ظهور القوى البحرية البريطانية والفرنسية بالقرن 17–19م..
حيث اسست بريطانيا إمبراطورية "لا تغيب عنها الشمس" بفضل أسطولها.
ثم فرنسا والتي توسعت في إفريقيا وآسيا.
بسبب الثورة الصناعية، والتجارة البحرية، والمستعمرات.
ظهور المانيا واليابان في عالم جديد.. 
كما حدث نهاية القرن الماضي ان ظهرت قوتان ألمانيا واليابان بين القرن 19–20م.
فكانت ألمانيا قوة صناعية وعسكرية بعد توحيدها 1871.
واليابان تمثّلت بنهضة "ميجي" 1868م نقلتها من عزلة زراعية إلى قوة صناعية.
وكان السبب التحديث العسكري والصناعي السريع فيهما.

بداية التغيّر العالمي الشامل وظهور الولايات المتحدة الأمريكية كحاكم للعالم الجديد.. 
واخيرا سيطرت الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الأولى، 1917م وتحديدا منذ دخولها الحرب العالمية الثانية لتصبح القوة العظمى الأولى بعد 1945.
وساعدها اقتصاد ضخم، والبعد الجغرافي الذي يحميها من حروب العالم القديم ، وايضا التحالفات العالمية.

وتوازن القطبين العالميين بين امريكا والاتحاد السوفيتي.. 
كما تكررت النسخة الروسية بشكلها الحديث (الاتحاد السوفيتي) 
وكان بين عام 1922و1991م
ونشوء الثورة البلشفية، وكونها قوة نووية وصناعية عظيمة، تحمل الأيديولوجيا الشيوعية، والتوسع على حساب أوروبا الشرقية.

ولو عرفنا اليوم شكل النظام العالمي بين 1991–2025م
فأمريكا ما زالت القوة الأولى لكن متراجعة نسبيًا.
والصين قوة صاعدة اقتصادية وتجارية وعسكرية.
كما عرفنا عودة روسيا وبقوة مع بوتين منذ 2000.
والاتحاد الأوروبي القوة الاقتصادية دون وحدة عسكرية فاعلة الا مع الولايات المتحدة .
ثم ظهور القوى التركية والهندية وكونهما لاعبان إقليميان مؤثران.

لذلك نرى ان كل قوة صعدت لأحد سببين..
 
الاول السيطرة على طرق التجارة والممرات البحرية.
وثانيهما النهضة الصناعية والعسكرية.
ومن يفقد أحدهما يبدأ في الأفول.
وكما هو. متوقع سيكون هناك سبب في تغيير الجيوسياسية بسبب شح الماء وحروب المياه خلال الفترات القادمة… 

واحداث اليوم ماهي الا انعكاس للواقع الحديث.. 
فالولايات المتحدة لاوجود لها بغير تحالفاتها البريطانية الفرنسية والالمانية ..
وروسيا امتدادها الصين ..
والله العالم لما سنسمعه مستقبلا من تغيّرات عالمية وكون الشرق الأوسط هو القادم لامحالة.. 
وبالإسلام ان شاء الله..

سقوط الدرعية اسقط الدولة العثمانية 

سنسرد في هذه العجالة مسيرة مائة عام من التخطيط والمحبوك بدهاء اوربي بقيادة بريطانيا العظمى وقتها ، وكيف استطاعت النيل من أقوى قوى عالمية قضت مضاجع اوربا لمئات السنين.. 


سبحان الله كيف كان للتخطيط الغربي والتفكير الجيد للنيل من الدولة العثمانية ناجعا وفاعلا ..
وكيف ساعدت الدولة العثمانية اللدودة الغرب لوأد نفوذها بيدها.
بعد قراءة سريعة عن "معركة نافارين 1827م " باليونان والتي هزمت فيها قوات التحالف الانجليزية الروسية الفرنسية مجتمعة قوات الاسطول العثماني المؤلف من قوات "ابراهيم باشا" .

                       ابراهيم باشا

وهو القائد لأسطول مصر  البحري تحت ولاية محمد علي ، والذي للتو انتهى من تدمير الدولة السعودية الأولى 1233هـ 1818م… 
وكان وقتها قائدا لأسطول الخليفة العثماني محمود الثاني مع اساطيل جزائرية تتبع الباب العالي .


والحبكة السياسية حصلت أن اقنع الانجليز الخليفة محمود الثاني بقمع ثورة اليونان، واستمع لها وثم اقنع الفرنسيين محمد علي بالضفر لولاية كريت وقبرص ، لتوسيع حكمه، وبعد دخول القوات العثمانية المصرية الجزائرية لليونان واخمادهم للثورات ووصولهم لاثينا ، وبالطرف الآخر قامت روسيا بتحريض وجمع اليونايين للقيام بتأجيجهم ضد احتلال الدولة العثمانية ، بحكم ان الروس سادة وحماة المذهب الارثوذكسي ، ثم بقيت جحافل واساطيل القوات العثمانية المصرية في ميناء بيلوس المطلة على خليج نافارين وهو خليج محمي حماية طبيعية .


كما هو بالصورة المرفقة اعلاه.



وفي صبيحة يوم 29 ربيع الاول 1243 هجرية 20 اكتوبر 1827م… 
 دخلت قوات التحالف مجتمعة الروسية والانجليزية والفرنسية لخليج نافارين وهي لاترفع اعلام الحرب لتقضي في معركة سريعة وتباغت اساطيل القوات العثمانية والمصرية والجزائرية لتهزمهم هزيمة نكراء مخادعة ويتحقق من تلك الهزيمة بوادر التفكك للقوى العثمانية فتسيطر اليونان بانفصالها عن الدولة العثمانية. 


 واستغلت فرنسا سقوط اغلب سفن الاسطول الجزائري في فخ نافارين ليحاصرها شارل العاشر وبعد ثلاث سنوات يستحلها لتبقى حتى اليوم تابعة لفرنسا.


فسبحان الله كيف جرت الأمور على الدولة العثمانية بتدرج وتخطيط واضح من قبل الانجليز، فمنذ 1820م حيث بدأت بتقويض حكمها في الخليج العربي بايعاز من الباب العالي للسيطرة والاستيلاء على الدرعية وهزيمة الدولة السعودية الاولى التي كانت تحمي ظهر القواسم سلاطين البحر… 

          قوات ابراهيم باشا تدك الدرعية 

ولتهزم بذلك انجلترا طرفين القوة العثمانية وسفن القواسم وسيطرتهم على الخليج العربي من عمان وحتى الكويت 1820 ، ولتكمل قصتها في نافارين 1827 وبعد سبع سنوات فقط لخلع اليونان من النفوذ العثماني.  
وبعد 3 سنوات من نافارين للسيطرة على الجزائر.


لم تنتهي نكبة العثمانيين لوأد القوة السعودية بقيادة ابراهيم باشا ، لتنحسر عليهم في طمع محمد علي وبقيادة نفس القائد ابنه "ابراهيم باشا" الذي اسقط الدولة السعودية الاولى ليتولى محمد علي بعد خسارته في نافارين للتحول للاستيلاء على لبنان وثم دمشق ويحارب قوى الجيوش التركية التي لم تقف امامه حتى دخل الاناضول وسيطر على الاسكندرون ووصل الى قونيا ليهزم الجيش الاخير لقوى الاستانة ليفتح له الطريق حتى العاصمة اسطنبول وذلك عام 1832م 
ومن هنا بدأت تنخر في الدولة العثمانية بوادر السقوط لتستنجد باوربا… 
فلاتستمع لها الا روسيا وبالدخول الى العاصمة لحماية الاستانة(اسطنبول)..
فكيف كان اعداء الامس حماة اليوم..!!
وتمت اتفاقية كوتاهية 1833م 1248 هجري بين جيش مصر بقيادة محمد علي والسلطان العثماني بعد تدخل فرنسا وبريطانيا لتوقف قوات محمد علي من التوغل في الاناضول لتنفصل الشام عن الاناضول، وتتدخل فرنسا مع محمد علي وانجلترا مع تركيا لتستفيد من تلك الحروب في الاستيلاء على مصر والشام في وقت متأخر.
هكذا كانت تلك الايام الاخيرة من عهد الدولة العثمانية فبأيديها قتلت نفسها.
ومنذ عام 1820م وبعد غزو الدرعية توالت النكبات عليها ولمائة عام ، حتى تلاشت الدولة العثمانية كليا.

كتبه اخوكم الرحال وائل الدغفق رحال الخبر ١٤٣٨هجرية

الدروب التجارية شرق الجزيرة العربية والخليج العربي… 



الدروب التجارية شرق الجزيرة العربية 

وخصوصا بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية… 

مجرد أن نعرف أهمية المنطقة المحاذية لسواحل الخليج العربي قديما وحديثا وتنقل القوافل التجارية في ممرات ودروب، شقت طريقها إما براً أو بحراً لتمد جسور التجارة الأولى بين الشرق والغرب ، ولتكون شواهد تاريخية لعلاقة الإنسان قديما للبيع والشراء.

وسواء على ظهور الإبل أو عبر عربات تجرها الخيول والحمير إلى سفن شقت عُباب الخليج العربي، لتنقل البضائع بين الأقطار المواجهة للسواحل.

ولنعلم اهميتها فقد انتقلت تلك البضائع من شواطئ الهند الغربية الى الخليج العربي وصولاً إلى جنوب الجزيرة العربية والبحر الأحمر فمصر والقرن الإفريقي.

وكانت القوافل البحرية تحمل التجارة البينية بين تلك الأقطار… من التوابل والذهب والفضة والأخشاب والأحجار الكريمة كاللؤلؤ والمواد الغذائية من زيت الزيتون والأقمشة والقطن والحبوب والتمور بين موانئ الخليج من البصرة شمالا لمسقط وجوادر جنوبا .


والجزيرة العربية كانت ملتقى القوافل البرية القادمة من اليمن باتجاه الشمال مرورا بالحجاز ونجد من جهة ومن مسقط للاحساء الى دارين والبصرة من جهة أخرى ...
 الدرب الاول والأشهر بين ساحل الخليج واليمامة (نجد) 

درب الجودي
بداية قد اشتهر بيت لصناجة العرب الشاعر الأعشى ميمون بن قيس وهو من بلدة منفوحة وهي حاليا حي من احياء الرياض البيت القائل :
يمرون بالدهناء خفافا عيابهم

ويرجعن من دارين بجر الحقائب


            درب الجودي من دارين الى اليمامة

وفيه يصف الأعشى القوافل المتجهة من اليمامة الى فرضة جزيرة دارين وعبر صحراء الدهناء الخالية الوفاض، لتعود لليمامة محملة بالبضائع من العطور والأطياب خاصة المسك والعنبر والعود الأزرق والأفاويه المتنوعة.
ودرب الجودي يفدأ من دارين لمنطقة الدرعية بالشرقية فجبل جودة بوادي الستارين ثم رماح وروضة خريم لتحدر من العرمة على البويبات فالرياض وبلداتها القديمة منفوحة والاعشى وووادي حنيفة..
 ولعل وجود الموانئ التجارية الثلاثة والمتمثله في [ميناء جزيرة دارين وميناء العقير و عينين] الأخير في (الجبيل)، واللاتي تمثل حلقة الوصل بين أسواق الشرق الأقصى كالهند وبلاد فارس مع شرق الجزيرة واقليم اليمامة، مثل :

درب مزاليج 
وهو درب يصل بين اقليم اليمامة واقليم الاحساء الغني بثرواته الزراعية من جهة الشرق و مينائه العقير المشهور في ثنايا التاريخ. 
ودربه وعر برمال مزعلات التي تجعل من القوافل تبعد عنه صيفا وتتخذ من الجودي ممرا مريحا.. 

                    دربي مزاليج والجودي 

درب الكنهري
وهناك درب مطروق آخر يسمى درب الكنهري ينسب الى عوينة كنهر (كنهل قديما) يبدأ من ميناء عينين (الجبيل حاليا) مغربا الى معقلا ومن ثم يتصل مع درب الجودي في رماح متجها الى اقليم اليمامة.
 

                   درب الكنهري تفصيليا 

تفصيل درب الجودي بالمحطات بداية من دارين

أولا: أهمية ميناء جزيرة دارين
وكما ان دارين تعتبر «المحطة الاولى» لخروج القوافل لوسط الجزيرة بنقل البضائع الآتية بحرا من فارس والهند وافريقيا ، فلنعرف عن دارين وأهميتها. 
بداية كلمة «الداري» تنسب للعطار وأتت من نسبتها لدارين .

صورة لنقعة بلط للسفن في دارين اخذت الصورة عام1350هـ 

وهي بلد ينسب العطر إليها - كما قال ابن خلدون :
«دارين : هي من بلاد ينسب إليها الطيب , كما تنسب الرماح إلى الخط , بجانبها , فيقال : مسك دارين ورماح الخط.» 
يرى بالصورة قلعة الفيحاني على السيف في مدينة دارين 

وقال الشيخ حمد الجاسر في المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية : «ولقد كانت دارين أشهر موانئ البحر العربي الشرقي , ومنها تصل بضائع الشرق إلى مختلف أنحاء الجزيرة , من الأقمشة و أنواع الطيب و الأفاويه والأسلحة كالرماح والسيوف وغيرها , لأنها تقع على ساحل تصل إليه السفن بسهولة ويسر , لعمقه , ولقلة الحواجز الصخرية التي تعوق سير السفن , أو تسبب لها الضرر عند الاصطدام بها بالنسبة للموانئ الأخرى القريبة منه.»

 المحطة الثانية لدرب الجودي من بعد دارين وبعد اجتياز واحة القطيف والظهران وقرى الخط وشرق البيضاء تصل القوافل وهي… 
«مناهل درعية» الشرقية وهي ناحية جميلة تنتشر فيها صيران النخيل، قريبة الماء، اندثرت آثارها بعد أن غادرها المريديون الى حجر اليمامة عام 850 هجرية تقريبا. 

«فالمحطة الثالثة» لتواصل القوافل السير تسمى
«منهل صلاصل»
وهو الواقع في الجوف الذي احتكم فيه حيان من العرب عند الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وقضى به عمر رضي الله عنه لبني عامر بن الحارث من عبدالقيس… 
قال عنه ياقوت الحموي في معجم البلدان مانصه :
«هو ماء لعامر في واد يقال له الجوف به نخيل كثيرة ومزارع جمة.»
وبعد صلاصل تتجه القوافل «للمحطة الثالثة» وهي
«آبار جودة»
وهي التي نسب لها هذا الدرب لأهميتها، لأنه لا يوجد مناهل بعدها في الصمان أو الصلب أو الدهناء حتى ترد منهل رماح، ماعدا بعض ملازم المياه او الدحول.
ومابعد رماح الأمور سهلة.. 

يقول الشيخ حمد الجاسر في المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية : «وجودة من أشهر مناهل الطف - المنطقة المرتفعة الواقعة غرب وادي المياه ( الستار قديما ). وتقع جودة جنوب عريعرة وشرق جبل يدعى حمراء جودة , في جانب منخفض من الأرض , ممتده من الجنوب إلى الشمال بين جبلي مشيهب وحمراء جودة إلى قرب عريعرة. وفيها عدد من المناهل

طرق حديثة نسبيا للوالد والجد رحمهم الله وموتى المسلمين[نقلتها مشافهة منهم]

ولننقل الدروب حديثا او لنقل قبل انشاء الطرق… 
 فقد كان الوالد عبدالعزيز بن عبدالله الدغفق رحمة الله المتوفي عام 1436هـ عن عمر 95 عام ، يحدّثني عن سفراته بداية من الزبير الى الكويت ومنها للرياض أو للظهران بداية عمله في أرامكو ،وكان ذلك عام 1365هـ وعبر أحد طريقين … 
اما الطريق البحري بالخليج العربي وعبر سفن السنبوك أو الجالبوت من فرضة الكويت الى فرضة الجبيل.. 
أو الدرب البري عبر سيارات بارويجن او عنتر (انترناشيونال) من الزبير لسنام عبر الحماطيات لخباري وضحى فالقرية السفلى ثم رماح فالبويبات للرياض، او المسير عبر الكويت ثم الزرقاني فرأس مشعاب ثم السفانية وابوحدرية للجبيل ثم الظهران بمحاذات الساحل. .. 

وأما جدي الحاج عبدالله بن ابراهيم الدغفق رحمه الله والمتوفي عام1382هـ فقد ركب طريق الحاج البصري من الزبير للحج في 23 شوال من عام 1345هـ وهو طريق يخرج من البصرة والزبير عبر مراحل.. 
وبداية درب الحاج البصري من "بلدة الزبير" ثم "القريطيات" ثم صحراء "الهليبا" على الحدود مع الكويت وثم دخول منطقة "الرتقة" داخل حدود الكويت ثم "الهويميلة" ثم "شقّة أبن صقيه" وهي منخفض من الارض ثم "مهزول" بجانب وادي الباطن الغربي شمال غرب الجهراء وهو تل نهاية حدود الكويت الغربية ثم منهل "الرقعي" وسط الباطن ثم "قصير بلال" وسط الباطن يبعد 24 كلم عن مدينة الحفر ثم مرحلة مدينة "حفر الباطن" وبعدها "هليبا الحفر" والواقعة حالية في طرف مدينة الحفر وسط الباطن وعلى حدودها جنوب غرب ثم شعيب "ذنيب الذيب" ويقع حاليا غرب بلدة الذيبية وسط الباطن ثم "متياهة ام الهشيم" وهي فيضة داخل حدود مدينة الملك خالد العسكرية ثم شعيب وتلال "العشر" ويكثر فيها ذلك النبات الذي سميت المنطقة بأسمه وهو على جال وادي الباطن ثم "حسيان ابن طوالة" و"بئر الثمامي" الى اول مراحل صحراء الدهنا بمعبر "الخريمة" ثم "وادي الاجردي" فمدينة "قبة" وبعدها قطع عروق الاسياح الرملية الى "خصيبة" و"البرود" ثم "تنومة" و"الطرفية" والشهيرة بوقعة الصريف 1318هـ بين الرشيد ومبار الصباح وهزم الصباح فيها وحينها تم الوصول لمدينة"بريدة" ومنها "للبدايع" ثم "الرس" فـ"الصمعورية" و"الشهباء" و"المجيلي" و"المؤزر" و"المويه" ثم "قرن المنازل" "فمكة" وهكذا انتهت رحلة الحاج البصري. 
 
#الرحال_وائل_الدغفق 
#رحال_الخبر 
#رودRK 



البحرين وبحيرة هجر التاريخية : 
دراسة في أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل.
 
اعداد د.وائل عبدالعزيز الدغفق1447هـ 

المقدمة: 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تتمتع واحة الأحساء، المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، بإرثٍ تاريخي وجغرافي فريد، شكلت فيه مصادر المياه العذبة شريان الحياة وعماد الحضارة منذ آلاف السنين. وفي قلب هذا المشهد الطبيعي الغني، تبرز مسطحات مائية ذات أهمية بالغة، لم تنل حقها الكامل من الدراسة والتوثيق التاريخي المتعمق، وهي بحيرة الأصفر وبحيرة الحبيل شرق واحة الأحساء حاليًا.

وارتبط اسم "البحرين" تاريخيًا بإقليم شرق الجزيرة العربية بأكمله، وهي تسمية اختلف المؤرخون في أصلها؛ فمنهم من أرجعها إلى وجود بحرين بالفعل، أحدهما مالح وهو الخليج العربي، والآخر عذب ومتمثل في بحيرات وينابيع المنطقة الداخلية "بحيرة الأصفر". وقد أشار مؤرخون قدامى مثل ياقوت الحموي والقلقشندي إلى أن بحيرة هجر (الأصفر حاليًا) كانت أحد هذين البحرين، مما يمنحها بُعدًا تاريخيًا وجغرافيًا استثنائيًا.

ومع ذلك، ساد في العقود الأخيرة تصور شائع يربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة، مما يختزل تاريخها الطبيعي العريق ويطمس هويتها الأصلية كتجمع مائي طبيعي، وكان قائمًا قبل هذه المشاريع.

ومن هنا، تنطلق هذه الدراسة لتصحيح هذا المفهوم وتقديم رؤية تاريخية موثقة، تطرح إشكالية رئيسية تتمثل في إثبات الأصل الطبيعي لبحيرتي الأصفر والحبيل، ودورهما المحوري في تشكيل جغرافية وهوية إقليم هجر التاريخي.

ولتحقيق هذا الهدف، نسعى في بحثنا هذا إلى تتبع الإشارات التاريخية والجغرافية للبحيرتين في كتابات المؤرخين والرحالة، والمصادر الأرشيفية العربية والأجنبية. كما نسعى لتحليل السياق الجغرافي الذي أدى إلى ظهور التسمية التاريخية "البحرين"، وربطها بوجود هذين المسطحين المائيين كبحيرتين عذبتين في وسط الإقليم. كما نسعى لدحض النظرية القائلة بأن بحيرة الأصفر هي نتاج صناعي لمياه الصرف الزراعي، وذلك من خلال استعراض الأدلة التي تشير إلى وجودها كمعلم طبيعي قديم.

ولاشك أن استدلالاتنا أتت بعد جمع وتوثيق ما ورد عن بحيرتي الأصفر والحبيل، والتي غالبًا ما تكون الأخيرة أقل حضورًا في الدراسات، وربط تاريخها بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء من نظام مائي متكامل في المنطقة.

إن هذا البحث لا يقتصر على كونه استعراضًا تاريخيًا، بل هو محاولة لإعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية والجغرافية، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق.


الفصل الأول:
 المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"

1.1 الأصل اللغوي لكلمة "البحرين"تُعد كلمة "البحرين" من الكلمات التي تحمل في طياتها دلالات لغوية وجغرافية عميقة، وقد أثارت جدلاً بين المؤرخين واللغويين حول أصل تسمية الإقليم التاريخي المعروف بهذا الاسم. لفهم هذا الجدل وتوضيح الرؤية، لا بد من العودة إلى الأصل اللغوي لكلمة "البحر" في اللغة العربية. ففي الاستخدام الشائع، غالبًا ما يُربط مصطلح "البحر" بالمياه المالحة الشاسعة التي تغطي مساحات واسعة من الكرة الأرضية، كالمحيطات والبحار المعروفة. إلا أن هذا الفهم لا يمثل المعنى الشامل للكلمة في اللغة العربية الفصحى.فاللغة العربية، بثرائها واتساعها، تمنح كلمة "البحر" دلالات أوسع بكثير. فهي لا تقتصر على الإشارة إلى المياه المالحة فحسب، بل تُطلق أيضًا على أي تجمع كبير للمياه، سواء كانت مالحة أو عذبة. وهذا يشمل الأنهار العظيمة ذات التدفق الكبير، والبحيرات الواسعة التي تتجمع فيها المياه بشكل دائم أو شبه دائم. هذا المعنى الواسع لكلمة "البحر" هو حجر الزاوية في فهمنا لتسمية إقليم "البحرين"، ويدعم الفرضية التي سنطرحها في هذه الدراسة.ولتعزيز هذا الفهم، نستشهد بما ورد في أحد أهم معاجم اللغة العربية، وهو كتاب "لسان العرب" لابن منظور. فقد جاء في هذا المعجم أن "البحر هو الماء الكثير، مِلحًا كان أو عذبًا". هذا التعريف الواضح والصريح يؤكد أن مفهوم "البحر" في اللغة العربية يتجاوز حدود المياه المالحة، ليشمل أي مسطح مائي كبير، بغض النظر عن ملوحته. وهذا الدليل اللغوي يقدم أساسًا متينًا لحجتنا بأن تسمية "البحرين" قد لا تشير بالضرورة إلى بحرين مالحين، بل قد تشمل بحرًا مالحًا وبحرًا عذبًا، أو حتى بحيرين عذبين، طالما كانا يمثلان تجمعين مائيين كبيرين.

1.2 التفسير الجغرافي السائد لتسمية إقليم البحرينبناءً على الفهم اللغوي لكلمة "البحرين"، نشأت عدة نظريات لتفسير تسمية إقليم شرق الجزيرة العربية بهذا الاسم. النظرية الأكثر شيوعًا وقبولًا، والتي سادت لفترة طويلة، ترتكز على وجود "بحرين" رئيسيين في هذا الإقليم الممتد من البصرة شمالًا إلى عُمان جنوبًا. هذان البحران هما:

البحر المالح: ويتمثل في مياه الخليج العربي، الذي يحد الإقليم من جهة الشرق. هذا البحر هو المصدر الرئيسي للمياه المالحة في المنطقة، وقد لعب دورًا حيويًا في تحديد جغرافية الإقليم وتاريخه، كونه ممرًا تجاريًا وحضاريًا رئيسيًا.

البحر العذب: ويتمثل في المياه الجوفية الهائلة والعيون والينابيع الغزيرة التي اشتهرت بها المنطقة، وخصوصًا واحة الأحساء والقطيف. كانت هذه المياه تتدفق بغزارة على سطح الأرض، مشكلةً ما يشبه "بحرًا" من المياه العذبة.
 هذه العيون والينابيع كانت شريان الحياة للواحات الزراعية، ومصدرًا أساسيًا للعيش والاستقرار في المنطقة الصحراوية المحيطة.

تعتبر هذه النظرية هي التفسير الأكثر شيوعًا لتسمية "البحرين"، حيث تجمع بين العنصر البحري المالح والعنصر المائي العذب المتوفر بكثرة في المنطقة. ومع ذلك، فإن هذه الدراسة ستسعى إلى تقديم تفسير أكثر دقة وتحديدًا لمفهوم "البحر العذب"، من خلال التركيز على وجود مسطحات مائية عذبة محددة وكبيرة، وهي بحيرتا الأصفر والحبيل، والتي نعتقد أنها كانت الأساس الحقيقي لتسمية الإقليم بـ"البحرين"، وليس مجرد الإشارة العامة إلى المياه الجوفية.

الفصل الثاني: 
أدلة أصالة بحيرة هجر (الأصفر) في المصادر التاريخية. 
بعد أن استعرضنا المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"، ننتقل الآن إلى الأدلة التاريخية الملموسة التي تؤكد أصالة وجود بحيرة هجر، والتي تُعرف اليوم ببحيرة الأصفر، كمعلم جغرافي طبيعي راسخ في واحة الأحساء. هذه الأدلة لا تقتصر على مجرد الإشارات العابرة، بل هي شهادات موثقة من كبار المؤرخين والجغرافيين الذين عاصروا المنطقة أو كتبوا عنها بتفصيل، مما يمنحها مصداقية علمية وتاريخية لا تقبل الشك.

2.1 شهادة ياقوت الحموي (معجم البلدان)
تُعد شهادة الإمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (المتوفى سنة 626هـ/1229م) في موسوعته الجغرافية الخالدة "معجم البلدان"، الدليل الأبرز والأكثر حسمًا في إثبات أصالة بحيرة هجر. ففي سياق بحثه عن الجذور التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، كثيرا ما تبرز قضية أصل "بحيرة الأصفر" كإحدى أهم الإشكاليات البحثية المتنازع عليها. ففي حين يميل التصور الحديث إلى اعتبارها نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي، تقدم لنا المصادر التاريخية أدلة قاطعة على وجودها كمعلم جغرافي راسخ منذ قرون.عند تناوله لأصل تسمية إقليم "البحرين" الكبير، استعرض ياقوت الحموي عدة آراء لغوية، لكنه رفضها واصفًا إياها بـ"التعسف". ثم قدم التفسير الذي اعتمده واعتبره الحقيقة الراجحة، ناقلاً إياه عن اللغوي الكبير أبي منصور الأزهري، حيث قال:"والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: إنما سُمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال: وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق."
(ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: البحرين)

تحليل النص وأبعاده في إثبات أصالة البحيرة:

إن هذا النص الموجز والمكثف لا يمثل مجرد إشارة عابرة، بل هو وثيقة تاريخية وجغرافية متكاملة، يمكن تفكيك أبعادها على النحو التالي:

1- المصداقية والقناعة ("وهو الصحيح عندنا")
 لم يورد ياقوت هذا القول كأحد الآراء المطروحة، بل تبناه بشكل كامل وقدمه على أنه الرأي الصحيح. هذا التبني من قِبَل جغرافي ومؤرخ بحجم ياقوت الحموي، يمنح وجود البحيرة في القرن السابع الهجري مصداقية تاريخية لا تقبل الشك، وينفي بشكل قاطع أي ادعاء بحداثة نشأتها.

2- دقة تحديد الموقع ("على باب الأحساء")
 يدل النص على موقع البحيرة وأنها "على باب الأحساء". وفي ذلك العصر، كانت "الأحساء" تشير إلى مناطق تجمع المياه والعيون الغزيرة. وعليه، فإن وصفها بأنها كانت "على بابها" يتطابق جغرافيًا مع موقع بحيرة الأصفر الحالية، التي تمثل الحافة الشرقية للواحة ونقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة منها.

3- وصف الأبعاد الشاسعة للبحيرة ("ثلاثة أميال في مثلها"):
 يقدر ياقوت مساحة البحيرة بثلاثة أميال في مثلها، أي حوالي 5.4 كم × 5.4 كم تقريبًا (باعتبار الميل يساوي 1.8 كم). هذا دليل على أنها كانت معلمًا جغرافيًا هائلاً وبارزًا للعيان، لا مجرد مستنقع موسمي. هذه المساحة الشاسعة هي التي أهّلتها لتكون "بحرًا" في نظر الأقدمين، وأحد طرفي المعادلة في تسمية "البحرين".

4- الوصف الهيدروجيولوجي الدقيق ("لا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق"):
 يقدم ياقوت وصفًا علميًا دقيقًا لطبيعة البحيرة. فقوله "لا يفيض ماؤها" يؤكد أنها حوض تصريف داخلي مغلق (Endorheic basin)، لا منفذ له إلى البحر. وقوله "ماؤها راكد زعاق" (مالح) هو النتيجة الطبيعية لتبخر المياه في حوض مغلق بمنطقة صحراوية، مما يؤدي إلى تركيز الأملاح. هذا الوصف يطابق تمامًا الطبيعة الجيولوجية والبيئية لبحيرة الأصفر، ويدحض أي تصور بأنها كانت بحيرة عذبة.

خاتمة ما نقل عن ياقوت الحموي واستنتاج:
إن شهادة ياقوت الحموي لا تقتصر على إثبات وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) قبل أكثر من ثمانية قرون، بل هي تؤسس لأهميتها المحورية في هوية الإقليم الجغرافية. وبإثبات وجود "البحر العذب" الأول بشكل قاطع من خلال هذا النص التاريخي، يُفتح الباب منطقيًا للبحث عن شريكه الثاني الذي تكتمل به صيغة المثنى في تسميته بـ "البحرين". وهنا، يبرز دور "بحيرة الحبيل" كمرشح طبيعي ومنطقي لتكون "البحر الثاني"، المكمل للنظام المائي المتكامل الذي شكل هوية واحة الأحساء عبر العصور. وعليه، فإن نص ياقوت الحموي لا يمثل مجرد دليل، بل هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه حجة الأصل الطبيعي للبحيرتين، وتُدحض به نظرية النشأة الصناعية الحديثة.

2.2 شهادة القلقشندي (صبح الأعشى)
إلى جانب الدليل القاطع الذي قدمه ياقوت الحموي، تأتي شهادة مؤرخ ودبلوماسي آخر من العصر المملوكي، وهو شهاب الدين أبو العباس القلقشندي (المتوفى سنة 821هـ/1418م)، وهو قد أتى بعد ياقوت بـ 300 عام لتعزز أدلته من الحقيقة التاريخية لوجود بحيرة كبرى في هجر. في موسوعته الإدارية والجغرافية الضخمة "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وفي سياق حديثه عن إقليم البحرين، يقدم القلقشندي وصفًا يؤكد وجود هذا المعلم الجغرافي، مضيفًا تفاصيل جديدة تدعم فرضية البحث.ففي أثناء تحديده لإقليم البحرين وأسباب تسميته، يورد القلقشندي تفسيرًا جغرافيًا واضحًا، حيث يقول:"وسُمي الإقليم جميعه بالبحرين، تثنية بحر، لوجود بحرين به في طرفيه الشرقي والغربي: فالشرقي منهما هو البحر المعروف ببحر فارس، وهو بحر الهند... والغربي منهما بحيرة في طرف بلاد هجر من جهة الشمال، يصب فيها نهر محلِّم المشهور عندهم، وطول هذه البحيرة ثلاثة أميال وعرضها دون ذلك."
(القلقشندي، "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الجزء الخامس)

تحليل النص وأبعاده في دعم فرضية البحث:

1- تأكيد مباشر لنظرية "البحرين": 
يقدم القلقشندي تفسيرًا صريحًا ومباشرًا للتسمية، رابطًا إياها بوجود "بحرين" حقيقيين: بحر مالح (الخليج العربي)، وبحر عذب (البحيرة). هذا التأكيد من مؤرخ موسوعي مثل القلقشندي يمنح الفرضية وزنًا تاريخيًا كبيرًا، ويؤكد أن هذا التفسير الجغرافي كان شائعًا ومعتمدًا في دوائر العلم والإدارة في القرن التاسع الهجري.

2- تحديد الموقع ("في طرف بلاد هجر"):
 يتفق القلقشندي مع ياقوت في تحديد الموقع العام للبحيرة بأنها "في طرف بلاد هجر". هذا الوصف يعزز التطابق الجغرافي مع موقع بحيرة الأصفر على الحافة الشرقية لواحة الأحساء.

3- وصف الأبعاد("طولها ثلاثة أميال وعرضها اقل"): 
يتوافق تقدير القلقشندي لطول البحيرة (ثلاثة أميال) مع ما ذكره ياقوت الحموي، مما يشير إلى أن حجمها كان معروفًا ومستقرًا نسبيًا في الذاكرة التاريخية والجغرافية. هذا التوافق بين مصدرين يفصل بينهما قرنان من الزمان يعطي مصداقية عالية لوجود معلم جغرافي ثابت وراسخ.

4- إضافة معلومة هيدرولوجية ("يصب فيها نهر محلِّم"):
يضيف القلقشندي تفصيلاً فريدًا وهو أن "نهر محلِّم" يصب في هذه البحيرة. "نهر محلِّم" هو أحد الأنهار أو القنوات المائية الرئيسية القديمة في واحة الأحساء. هذه الإشارة بالغة الأهمية لسببين:

تأكيد الأصل الطبيعي: 
ذكر اتصال البحيرة بنهر رئيسي في الواحة هو دليل مباشر على أنها كانت جزءًا من النظام المائي الطبيعي لهجر، حيث كانت تمثل نقطة التصريف النهائية للمياه الفائضة من الأنهار والعيون.

دحض نظرية الصرف الزراعي: 
هذه الشهادة، التي تعود إلى ما قبل 600 عام، تثبت أن البحيرة كانت تستقبل مياه الواحة عبر قنوات طبيعية أو قديمة (مثل نهر محلِّم) قبل إنشاء شبكات الصرف الحديثة بقرون طويلة، مما ينسف الادعاء بأنها نتاج لهذه الشبكات.

خاتمة كتابات القلقشندي واستنتاج:
تأتي شهادة القلقشندي لتكمل شهادة ياقوت الحموي وتؤكدها. فإذا كان ياقوت قد أثبت وجود البحيرة وحجمها وطبيعتها المغلقة، فإن القلقشندي يؤكد كل ذلك ويضيف بعدًا جديدًا عبر ربطها بشكل صريح بأحد أنهار الواحة الرئيسية. إن اجتماع هاتين الشهادتين من مصدرين تاريخيين موثوقين يفصل بينهما زمن طويل، لا يترك مجالاً للشك في أن "بحيرة هجر" (الأصفر) كانت معلمًا جغرافيًا أصيلاً، وكيانًا مائيًا بارزًا، وجزءًا لا يتجزأ من النظام الهيدرولوجي لواحة الأحساء، وأحد السببين الرئيسيين وراء تسمية الإقليم بـ"البحرين".

الفصل الثالث: 
الأدلة الخرائطية والجغرافية لأصالة البحيرات

بعد أن أرست المصادر النصية لياقوت الحموي والقلقشندي أساسًا متينًا لوجود بحيرة كبرى في هجر، يتجه البحث إلى نوع آخر من الأدلة لا يقل أهمية، وهو الدليل الخرائطي (الكارتوغرافي). وتبرز في هذا المجال أعمال الشريف الإدريسي (المتوفى سنة 560هـ/1165م)، أحد أعظم الجغرافيين وصانعي الخرائط في العصور الوسطى. إن فحص خرائطه وكتاباته في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، يوفر بعدًا بصريًا وجغرافيًا يعزز الأدلة النصية ويدعم فرضية الأصل الطبيعي للبحيرات في واحة الاحساء .

3.1 تحليل خريطة الشريف الإدريسي وكتاباته على الرغم من أن الإدريسي لم يذكر "بحيرة هجر" بالاسم الصريح كما فعل ياقوت الحموي، إلا أن تحليلاً دقيقًا لخريطته الخاصة بالجزيرة العربية وكتاباته يكشف عن أدلة مهمة:

1- تصوير المياه الداخلية في إقليم البحرين:
 في خريطته الشهيرة، التي تُعد من أدق خرائط عصرها، يصور الإدريسي إقليم البحرين (هجر) كمنطقة غنية بالمياه بشكل لافت. الأهم من ذلك، أنه يرسم ما يمكن تفسيره بوضوح على أنه تجمعات مائية داخلية (Inland water bodies) منفصلة عن ساحل الخليج العربي. تظهر هذه التجمعات المائية في الموقع التقريبي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشرق من المناطق الحضرية التي يصورها. هذا التمثيل البصري، القادم من جغرافي دقيق مثل الإدريسي، هو دليل قوي على وجود مسطحات مائية كانت من الأهمية والشهرة بحيث تستحق أن تُرسم على خريطة العالم المعروف آنذاك.

2- وصف الأنهار التي تصب في الداخل:
 في كتابه "نزهة المشتاق"، يصف الإدريسي الأنهار والعيون في منطقة هجر، ويذكر أن بعضها يجري لمسافات ثم "يغور في الأرض" أو ينتهي في مناطق داخلية. هذا الوصف يتوافق تمامًا مع نظام هيدرولوجي ينتهي في أحواض تصريف مغلقة، مثل منخفضي الأصفر والحبيل، بدلاً من أن يصب في البحر. إن رسمه لمجاري مياه لا تصل إلى الخليج، بل تنتهي في الداخل، هو تأكيد جغرافي على وجود نقطة تجميع نهائية لهذه المياه، وهي البحيرات التي نبحث عنها.

أهمية شهادة الإدريسي:
تكمن أهمية دليل الإدريسي في كونه دليلاً بصريًا، فالخريطة تقدم دليلاً مرئيًا ومكانيًا يكمل الوصف النصي عند ياقوت والقلقشندي، رؤية مسطح مائي مرسوم على خريطة من القرن السادس الهجري هو حجة بصرية قوية. ومن المعروف أن الإدريسي عاش وألف كتابه قبل ياقوت الحموي، مما يعني أن وجود هذه البحيرة كمعلم جغرافي بارز كان حقيقة مسلمًا بها قبل القرن السابع الهجري. هذا التسلسل الزمني (الإدريسي ثم ياقوت ثم القلقشندي) يخلق سلسلة متصلة من الأدلة التاريخية تمتد لقرون.

3.2 إشارات جغرافيين آخرين 
ولتعزيز الحجة، يمكن الإشارة إلى جغرافيين آخرين قدموا إشارات تدعم وجود مسطحات مائية داخلية في شرق الجزيرة العربية:

1- كلوديوس بطليموس (القرن الثاني الميلادي): 
في خرائطه القديمة للجزيرة العربية (Geographia)، ورغم صعوبة مطابقة الأسماء القديمة بالحديثة، فإنه يصور وجود بحيرات داخلية (Paludes) في شرق الجزيرة العربية. هذه الإشارة، وإن كانت عامة، تدل على أن فكرة وجود بحيرات في هذه المنطقة تعود إلى العصور الكلاسيكية القديمة.

2- المسعودي (القرن الرابع الهجري): 
في كتبه مثل "مروج الذهب"، وصف المسعودي غنى منطقة هجر بالعيون والمياه الجارية، واصفًا إياها بأنها "أرض العيون والأنهار". هذا الوصف لغزارة المياه يجعل من وجود بحيرات لتصريف هذا الفائض أمرًا منطقيًا ومتوقعًا من الناحية الجغرافية.

خاتمة واستنتاج:
إن المصوّرات الجغرافية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، تقدم دليلاً من نوع مختلف، فهو دليل بصري ومكاني يؤكد ما جاء في النصوص. إن رسم مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض مغلقة، يتضافر مع شهادات ياقوت والقلقشندي ليشكل حجة متكاملة متعددة المصادر. هذه الأدلة مجتمعةً ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه، وشاهدتين على تاريخ طويل من وفرة المياه التي منحت الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".

الفصل الرابع:
فرضية بحيرتي الأصفر والحبيل كأساس لتسمية "البحرين"
بعد أن استعرضنا الأدلة اللغوية والتاريخية والخرائطية التي تؤكد وجود مسطحات مائية داخلية كبيرة في واحة الأحساء، ننتقل الآن إلى صلب الفرضية التي تطرحها هذه الدراسة: أن بحيرتي الأصفر والحبيل، بوجودهما الطبيعي والتاريخي، هما الأساس الحقيقي لتسمية إقليم شرق الجزيرة العربية بـ"البحرين"، وليس مجرد الإشارة العامة إلى المياه الجوفية.

4.1 الربط بين "بحيرة هجر" و"بحيرة الأصفر"
إن بحيرة الأصفر هي المسطح المائي الأكبر والأكثر ديمومة تاريخيًا في واحة الأحساء. موقعها يتوافق تمامًا مع الأوصاف العامة لـ"بحيرة هجر" التي وردت في المصادر التاريخية القديمة. فكما رأينا في شهادة ياقوت الحموي، كانت "بحيرة هجر" معلمًا جغرافيًا بارزًا "على باب الأحساء"، وبأبعاد كبيرة. هذه الأوصاف تنطبق بشكل دقيق على بحيرة الأصفر الحالية، التي تقع على الحافة الشرقية للواحة وتمثل نقطة تجمع طبيعية للمياه الفائضة.وعليه، يمكن القول بأن "بحيرة هجر" المذكورة في المصادر التاريخية هي التسمية القديمة لما يُعرف اليوم بـ"بحيرة الأصفر". إن هذا الربط ليس مجرد افتراض، بل هو استنتاج منطقي مبني على تطابق الأوصاف الجغرافية والتاريخية، ويؤكد استمرارية هذا المعلم المائي عبر العصور، ودحضًا لأي ادعاء بحداثة نشأته.

4.2 لماذا بحيرتان؟ (الأصفر والحبيل)
إذا كانت التسمية هي "البحرين" (بصيغة المثنى)، فمن المنطقي جغرافيًا البحث عن "بحرين" عذبين وليس بحرًا واحدًا فقط، ليكتمل المعنى اللغوي والجغرافي للتسمية. هنا تبرز بحيرة الحبيل كمرشح ثانٍ قوي لتكون "البحر العذب الثاني" الذي يكمل المعادلة.على الرغم من أن بحيرة الحبيل قد تكون أصغر حجمًا أو أقل شهرة اليوم مقارنة ببحيرة الأصفر، إلا أن وجودها التاريخي إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم تفسيرًا جغرافيًا مباشرًا ومقنعًا لصيغة المثنى في تسمية "البحرين". إن وجود مسطحين مائيين عذبين كبيرين وواضحين المعالم في قلب الواحة، إلى جانب الخليج العربي المالح، يوفر تفسيرًا متكاملًا ودقيقًا للتسمية.

بناء الحجة:
الفرضية التي نطرحها هي أن تسمية "البحرين" لا تشير فقط إلى (الخليج + المياه الجوفية) بشكل عام، بل يمكن أن تشير بشكل أكثر تحديدًا ودقة إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل. هذا التفسير يحل إشكالية لماذا لم تُسمَّ مناطق أخرى غنية بالمياه الجوفية (مثل بعض مناطق العراق أو الشام) بـ"البحرين". التميز الجغرافي لهجر لم يكن فقط في غزارة مياهها، بل في وجود بحيرات سطحية واضحة المعالم يمكن الإشارة إليها كـ"بحر".إن وجود بحيرتين عذبتين كبيرتين ودائمتين في واحة الأحساء، إلى جانب الخليج العربي، يوفر تفسيرًا مقنعًا ومنطقيًا لتسمية الإقليم بـ"البحرين". هذا التفسير لا يعتمد على العموميات، بل على معالم جغرافية محددة وموثقة تاريخيًا، مما يعزز من أصالة هذه البحيرات ودورها المحوري في تشكيل هوية المنطقة.

الفصل الخامس: دحض النظريات المضادة وتعزيز الفرضية

بعد أن قدمنا الأدلة اللغوية والتاريخية والخرائطية التي تؤكد أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل ودورهما في تسمية "البحرين"، ننتقل الآن إلى دحض النظريات المضادة، وتحديدًا تلك التي تعتبر بحيرة الأصفر نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي الحديثة. إن تفنيد هذه النظريات يعزز من صحة الفرضية التي طرحناها ويؤكد على الأصل الطبيعي والتاريخي لهذه المسطحات المائية.

5.1 تفنيد نظرية "البحيرة الصناعية"
تعتبر نظرية "البحيرة الصناعية" هي الفرضية الأكثر شيوعًا التي تربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة. ومع ذلك، فإن الأدلة التي قدمناها في الفصول السابقة، بالإضافة إلى بعض الحقائق الجيولوجية والهيدرولوجية، تدحض هذه النظرية بشكل قاطع:

1- الشهادات التاريخية التي تسبق مشاريع الري والصرف الحديثة:
 كما أوضحنا في الفصل الثاني، فإن شهادات مؤرخين وجغرافيين كبار مثل ياقوت الحموي (القرن السابع الهجري) والقلقشندي (القرن التاسع الهجري)، بالإضافة إلى الإشارات الخرائطية للإدريسي (القرن السادس الهجري)، تؤكد جميعها وجود بحيرة كبيرة في منطقة هجر (الأحساء) قبل إنشاء مشاريع الري والصرف الحديثة بمئات السنين. هذه الشهادات الموثقة زمنيًا تنسف أي ادعاء بأن البحيرة هي نتاج لهذه المشاريع، حيث كانت موجودة ومعروفة بوضوح قبلها بقرون طويلة.

2- الطبيعة الجيولوجية للمنطقة:
 تقع بحيرة الأصفر في منطقة منخفضة طبيعيًا (سبخة)، وهي نقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة من عيون الواحة والسيول القادمة من الأودية الغربية (مثل وادي المياه). هذه المنخفضات الطبيعية تعمل كأحواض تصريف للمياه السطحية والجوفية، مما يجعل وجود تجمع مائي كبير فيها أمرًا طبيعيًا ومتوقعًا جيولوجيًا، بغض النظر عن التدخلات البشرية. إن طبيعة المنطقة الطبوغرافية والهيدروجيولوجية تهيئها لتكون موطنًا لمثل هذه البحيرات.

3- دور مشاريع الصرف الحديثة في زيادة حجم البحيرة وليس نشأتها: 

لا يمكن إنكار أن مشاريع الصرف الزراعي الحديثة قد ساهمت في زيادة حجم بحيرة الأصفر وتغذيتها بكميات إضافية من المياه. ومع ذلك، فإن هذه المشاريع لم تخلق البحيرة من العدم، بل قامت بتغذية مسطح مائي كان موجودًا بالفعل. يمكن تشبيه الأمر بنهر يزداد منسوبه بعد هطول الأمطار؛ فالأمطار لم تخلق النهر، بل زادت من تدفقه. وبالمثل، فإن مياه الصرف الزراعي لم تخلق بحيرة الأصفر، بل ساهمت في توسيعها والحفاظ على منسوبها، خاصة بعد تراجع بعض العيون الطبيعية.

إن هذه النقاط مجتمعة تؤكد أن بحيرة الأصفر هي معلم جغرافي طبيعي أصيل، وأن النظريات التي تربط نشأتها بمشاريع الصرف الزراعي الحديثة لا تستند إلى أدلة تاريخية أو جيولوجية قوية. بل إن هذه المشاريع جاءت لتستفيد من وجود البحيرة كحوض تصريف طبيعي، وتساهم في تغيير حجمها وشكلها، لكنها لم تكن السبب في وجودها الأساسي.

الفصل السادس: 
نهر محلم "سيهات" وأثره بالموارد المائية لبحيرة هجر أو الأصفر. 

6-1 نهر محلم وعلاقته بالموارد المائية في هجر
يُعد نهر محلم، الذي يُعرف أحيانًا باسم "سيهات" في بعض المصادر التاريخية، أحد المعالم المائية البارزة في تاريخ شرق الجزيرة العربية، وتحديدًا في منطقة واحة الأحساء. لقد لعب هذا النهر دورًا حيويًا في تغذية الموارد المائية للواحة، بما في ذلك بحيرة هجر أو الأصفر، مما يؤكد على ترابط النظام الهيدرولوجي للمنطقة وأصالته التاريخية. لعل أكثر من حقق عن ذلك النهر هو الدكتور خالد العنقري، الذي بحث في مصادر الخرائط التي ذكرت "نهر محلم" ورسمه للنهر في كتابه القيم (الجزيرة العربية في الخرائط الأوربية القديمة).

وقد تم العثور على عدة خرائط تاريخية للجزيرة العربية قد تكون ذات صلة بهذا النهر، منها خرائط الهولندي هيرمان مول للجزيرة العربية من القرن الثامن عشر، وخرائط أوروبية قديمة أخرى تظهر شرق الجزيرة العربية، وخاصة ما يخص المسطحات المائية الداخلية، كخرائط أوليفا جون.

6-2 الخرائط التاريخية التي تشير إلى نهر محلم أو ما يماثله
تُقدم الخرائط التاريخية دليلاً بصريًا مهمًا على وجود نهر محلم أو ما يماثله من أنهار وقنوات مائية في شرق الجزيرة العربية، مما يعزز من فهمنا لدوره في النظام المائي للمنطقة. 

الخارطة الأولى: خارطة أوليفا جون (Oliva Jon) (ازدهر نشاطه 1570 – 1614م):

تُظهر هذه الخريطة نهرًا ينبع من منطقة اليمامة في نجد، ويتجه نحو الخليج العربي، حيث يختتم مصبه في بحر الخليج. يمثل هذا النهر المسطح المائي المعروف في المصادر اللاحقة باسم "محلم". ويُعد هذا التصوير من أوائل الخرائط الأوروبية التي تُبرز الشبكة المائية الداخلية لشرق الجزيرة العربية، مما يدل على اهتمام الرحالة والمستكشفين بتوثيق تضاريس شبه الجزيرة بما فيها الأنهار والقنوات الداخلية.

الخارطة الثانية: خريطة مول هيرمان (Hermann) (1688–1745م):

تُظهر هذه الخريطة نهرًا يُطلق عليه اسم "سيهات"، وهو الاسم الذي استُخدم في تلك الفترة للإشارة إلى نفس النهر أو جزء منه الذي وصفه الباحثون السابقون بنهر "محلم". يظهر النهر ممتدًا من داخل الجزيرة العربية نحو الخليج العربي، مع توضيح المراكز السكنية والمناطق الزراعية على ضفافه، مما يعكس أهمية هذا المسطح المائي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة خلال القرون الوسطى..

الخارطة الثالثة: خريطة الإدريسي (حوالي 1154م):

في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، رسم الإدريسي حدود شبه الجزيرة العربية مع إبراز بعض الأنهار والمسطحات المائية. وقد أشار إلى عدة وديان وأنهار تصب في الخليج، إلا أن الأسماء لم تكن دقيقة كالخرائط الحديثة. من المرجح أن نهر محلم أو سيهات كان من ضمن هذه الشبكة المائية الداخلية التي أشار إليها الإدريسي بشكل عام، مما يؤكد وجود نظام مائي داخلي معقد في المنطقة.

الخارطة الرابعة: خريطة جيوفاني باتيستا روتشيني (Giovanni Battista Rocchini) القرن السابع عشر:

تحتوي خرائط روتشيني على بعض التصويرات التفصيلية لشبه الجزيرة العربية، مع إبراز عدد من الأنهار والواحات في شرق الجزيرة. وهي من الخرائط التي قد تحتوي على إشارات لنهر مماثل لـ"محلم"، مما يضيف بعدًا آخر للأدلة الخرائطية التي تدعم وجود هذا النهر التاريخي..

الخارطة الخامسة: خرائط مكتبة David Rumsey وBritish Library:

تتوفر في هذه المكتبات عدة خرائط بحرية وبرية للجزيرة العربية الشرقية من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر. تظهر هذه الخرائط قنوات مائية وأودية قد تكون امتدادًا أو أجزاء من نهر محلم أو سيهات. وغالبًا ما تختلف التسميات حسب اللغة والمصدر، مما يتطلب دراسة مقارنة لتحديد مدى تطابق هذه المسطحات المائية مع نهر محلم التاريخي. هذه الخرائط تعزز فكرة وجود شبكة مائية داخلية مهمة في شرق الجزيرة العربية، كانت تغذي الواحات والبحيرات، ومنها بحيرة هجر أو الأصفر..

الخاتمة

لقد سعت هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على قضية جوهرية في تاريخ وجغرافية واحة الأحساء، وهي أصالة بحيرتي الأصفر والحبيل ودورهما المحوري في تشكيل هوية الإقليم وتسميته التاريخية بـ"البحرين". من خلال تتبع دقيق للمصادر اللغوية والتاريخية والخرائطية، تمكنا من بناء حجة متكاملة تدحض النظريات التي تختزل تاريخ هذه البحيرات في مجرد نتاج لمشاريع الصرف الزراعي الحديثة.

لقد أثبتنا أن المعنى اللغوي لكلمة "البحر" في اللغة العربية يشمل التجمعات المائية الكبيرة سواء كانت مالحة أو عذبة، مما يفتح الباب أمام تفسير أعمق لتسمية "البحرين". كما قدمنا أدلة دامغة من شهادات ياقوت الحموي والقلقشندي، التي تؤكد وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) كمعلم جغرافي بارز قبل قرون طويلة من ظهور المشاريع الحديثة. هذه الشهادات، بتفاصيلها الدقيقة عن الموقع والأبعاد والطبيعة الهيدروجيولوجية، لا تترك مجالاً للشك في أصالة البحيرة.

علاوة على ذلك، عززت الأدلة الخرائطية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، هذه الحجة بتقديم بعد بصري ومكاني يؤكد وجود مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض تصريف مغلقة. هذه الأدلة مجتمعةً، من مصادر متعددة ومتباعدة زمنيًا، ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه.

وقد أضافت دراسة نهر محلم "سيهات" في الفصل السادس بُعدًا جديدًا ومهمًا لفهم النظام المائي المتكامل في واحة الأحساء. فمن خلال تحليل الخرائط التاريخية الأوروبية، وخاصة خرائط أوليفا جون وهيرمان مول، تبين أن نهر محلم كان أحد الروافد الرئيسية التي تغذي بحيرة هجر (الأصفر). هذا الاكتشاف يؤكد أن البحيرة لم تكن مجرد تجمع مائي منعزل، بل كانت جزءًا من شبكة هيدرولوجية معقدة تربط بين مختلف أجزاء الواحة، مما يعزز من أصالتها الطبيعية ويدحض نظرية النشأة الصناعية.

إن الفرضية التي طرحناها، بأن تسمية "البحرين" تشير بشكل أكثر تحديدًا إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل، تقدم تفسيرًا منطقيًا ومقنعًا لصيغة المثنى، وتبرز التميز الجغرافي لواحة الأحساء. وقد تم دحض نظرية "البحيرة الصناعية" من خلال إثبات أن المشاريع الحديثة لم تنشأ البحيرة، بل ساهمت في تغيير حجمها وتغذيتها، بينما كان وجودها الأصيل راسخًا قبل ذلك بقرون، مدعومًا بشبكة من الأنهار والقنوات الطبيعية مثل نهر محلم.

في الختام، تؤكد هذه الدراسة على أهمية إعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق. إن بحيرتي الأصفر والحبيل، مع نهر محلم الذي يغذيهما، ليست مجرد مسطحات مائية، بل هي شواهد حية على تاريخ طويل من وفرة المياه والنظام الهيدرولوجي المتكامل الذي منح الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".

اعدّ هذه الدراسة 
د.وائل عبدالعزيز الدغفق - الخبر1447هـ 
___________________________________
المراجع 
- الحموي، ياقوت. (د.ت). معجم البلدان. (مادة: البحرين).
- القلقشندي، شهاب الدين أبو العباس. (د.ت). صبح الأعشى في صناعة الإنشا. (الجزء الخامس).
- الإدريسي، الشريف. (د.ت). نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
- ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب.
- بطليموس، كلوديوس. (القرن الثاني الميلادي). الجغرافيا (Geographia).
- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين. (د.ت). مروج الذهب ومعادن الجوهر.
- خرائط الجزيرة العربية في الخرائط الأوربية القديمة، د.خالد العنقري. 


"السفر برلك" جهاد النفير العام الذي شمل مدينة النبي ﷺ 1336هـ  1917م… 

السلام ورحمة الله وبركاته 

الحديث عن حصار المدينة يأخذنا في منحى تاريخي مهم بين حكم الدولة "السلطنة العثمانية" وبين حكم الولاية "المدينة المنورة" ..
والدولة العثمانية وولايتها التابعة للدولة وهي المدينة المنورة ، مثلها كمثل ولايات الشام والبصرة وجبل لبنان والأناضول وغيرها..
 
وقد قرأت بيت الشعر الذي القاه احد ادباء المدينة وهو امام الحرم ابراهيم الاخضر نقلا عن مؤلفه وهو الشاعر " محمد بن احمد العمري الواسطي (1280-1351هـ )  " يتحدث عن فترة مهمة في العالم الاسلامي والحكم العثماني الذي انضوت تحته كل ولاياته ومن ضمنها المدينة المنورة ، وهو قانون "السفر برلك" في خضم الحرب العالمية الاولى ..
وهو ما سأتحدث وافصّل فيه.. 

سفر برلك والمدينة المنورة بين التهجير والجهاد

من أكثر ما أطلق وماسمعناه عن تأثير ذلك الاسم "السفر برلك" والذي انتشر في ذاكرة المدينة المنورة، وظل اطلاق اسم "السفر برلك" ليبقى جرحاً مفتوحاً ، وحدثاً متنازعاً على تأويله. 
فقد ارتبط في أذهان كثير من أهل المدينة بالتهجير القسري، وبالبيوت الخالية من رجالها الذين سيقوا إلى جبهات القتال في الحرب العالمية الأولى بين (1333هـ - 1337هـ- 1914م- 1918م).

وقبل الشروع بالتفاصيل ماذا تعرف عن فرمان السفر برلك..

السفر برلك هو فرمان وقانون أصدره السلطان العثماني  محمد رشاد بتاريخ 3 أغسطس 1914م، ويقضي الفرمان أنّ كل شخص من مواليد ما بين (1869 ـ 1882) في أراضي الدولة العثمانية من المسلمين وغير المسلمين، مطلوباً تلقائيا للخدمة والتجنيد العسكري.
ويحق للمواطنين العثمانيين غير المسلمين دفع (30 ليرة ذهبية) بدلاً، مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية.

ولمن يقراء وبشكل أوسع للتاريخ فسيكتشف أنّ ما وقع في المدينة من اعلان النفير العام لم يكن استثناءً ولا خصوصية، بل جزءاً من النفير العام الذي أطلقته الدولة العثمانية على مختلف ولاياتها، من الأناضول إلى الموصل، ومن الشام إلى الحجاز.

فالمدينة، تلك الحاضرة النبوية ذات المكانة الروحية، لم تُعزل يوماً عن قضايا الأمة الكبرى، بل شاركت في معارك الجهاد كما شارك غيرها من أقاليم الدولة. ولنا في التاريخ شواهد سابقة: 
ففي عام 1799م وفي صعيد مصر ، حين اجتاح الفرنسيون أرض مصر بقيادة نابليون، لبّت قرى الصعيد نداء النفير، في قرية جهينة وجاهدت قبايل مصر كالهوارة وماحولها وانضمت إليهم بطون وقبائل من حرب والحجاز ، متقاطرين من عمق الجزيرة العربية. 
ويصف المؤرخ الجبرتي تلك الحال بقوله:
> "خرجت عربان جهينة والهوارة ومن معهم إلى الحرب، واشتد القتال بينهم وبين الفرنسيس، وأظهروا من الشجاعة ما حيّر العقول"
(عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج4، ص. 40).
من هنا نفهم ان الوعي الجمعي في العالم الإسلامي لم يعرف الانعزال، وأن النفير العام كان سنةً ماضية عند كل أزمة وكل ولايات الدولة الحاكمة .
فعندما أعلنت الدولة العثمانية "السفر برلك" عام 1336هـ - 1917م، لم يكن لأهل المدينة خيار سوى اللحاق بركب الدولة التي ينتمون إليها، فخرج الرجال إلى ميادين الحرب تاركين وراءهم نساءً وأطفالاً يواجهون قسوة الجوع والحرمان. ويصف عارف العارف تلك الأيام قائلاً:

> "لم تَعرف المدينة منذ قرون مثل ما عانته في تلك السنوات؛ فقد أخذت الدولة رجالها إلى ميادين الحرب، حتى خلا أكثر البيوت من معيلها، وبقيت النساء والأطفال في ضيق لا يُطاق"
(عارف العارف، السفر برلك في الحجاز، ص. 27).

ومن هنا تفرقت الروايات وتناقضت الذاكرة:
*فرواية التحامل*  
وتمثلها طائفة من كتّاب المدينة ترى أنّ ما جرى كان تهجيراً خاصاً بالمدينة المنورة، وكأن العثمانيين أرادوا إفراغها وحدها من أهلها، فحملوا على الدولة حملة شعواء، وربطوا السفر برلك بالمعاناة الإنسانية وحدها.

*اما رواية الموازنة:*
 فقد ذهب آخرون إلى أنّ ما وقع لم يكن إلا صورة من صور النفير العام الذي شمل جميع ولايات بني عثمان، وأن المدينة لم تُستثنَ من معاناة الحرب بل شاركت إخوانها في التضحية، فكانت جزءاً من الجهد القومي والجهادي لا أقل ولا أكثر. 
ويذكر المؤرخ أحمد محمد الطاهر:
> "لم يكن النفير العام مقتصراً على أهل المدينة، بل جرى مثله في الشام والأناضول والموصل، فالمدينة لم تُستثنَ، وإنما حملت نصيبها من عبء الدولة"
(أحمد محمد الطاهر، المدينة المنورة في التاريخ الحديث، ص. 198).

*وان اتينا للرواية الشعبية* 
 فعامة الناس علّقوا في وجدانهم صورة الفقد والحصار كالأبواب الموصدة بلا رجال، ومواكب طويلة تغادر بلا عودة، حتى تغلغلت كلمة "السفر برلك" في الذاكرة كمرادف للجوع والوداع.

ولم يكن الموقف السياسي في الحجاز بعيداً عن هذه التجربة المريرة. فقد كان لشريف مكة الحسين بن علي موقف خاص من السفر برلك، إذ نظر إليه بريبة شديدة، ورأى أنّ الحرب لم تعد حرباً "إسلامية جامعة"، بل حرباً تستنزف أهل الحجاز في جبهات لا يعرفون مغزاها. رفض الشريف إرسال مزيد من الرجال، واعتبر أنّ تضحيات الحجاز لم تلقَ من الدولة تقديراً.
 ويصف المؤرخ صالح لمعي مصطفى ذلك بقوله:
> "وقف الشريف حسين متردداً إزاء السفر برلك، فبينما التزمت بعض القبائل الحجازية بالانقياد لقرارات الدولة، كان الشريف يرى أن النفير يستنزف طاقات الحجاز في حرب لا يعرفون لها معنى، فكان هذا أحد أسباب توتّره مع العثمانيين قبيل الثورة العربية"
(صالح لمعي مصطفى، تاريخ الحجاز الحديث، ص. 122).

كان هذا التوتر أحد الجذور التي مهّدت لاحقاً لإعلان الثورة العربية الكبرى عام 1916م، حيث تحالف الشريف مع الإنجليز ضد العثمانيين.
 وهكذا تحوّل السفر برلك من حدث تعبوي داخلي إلى مفترق طرق سياسي قلب موازين القوى في الحجاز، وغيّر وجه المنطقة بأسرها.

وبذلك نجد أنّ المدينة المنورة لم تكن ضحية صامتة ولا حالة منعزلة، بل كانت – مثل الأناضول والشام وبغداد – جزءاً من معركة الأمة. وبين من رآه تهجيراً، ومن اعتبره جهاداً، ومن جعله سبباً للقطيعة مع الدولة، ظلّ السفر برلك منعطفاً في تاريخ المدينة، أورثها ذاكرة مزدوجة ، ذاكرة الفقد والمعاناة، وذاكرة الجهاد والمشاركة.
_____________________
المراجع:
- عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج4، القاهرة: بولاق، 1879م.

- عارف العارف، السفر برلك في الحجاز، القاهرة: دار المعارف، 1955م.
- أحمد محمد الطاهر، المدينة المنورة في التاريخ الحديث، جدة: مكتبة التراث، 1992م.

- صالح لمعي مصطفى، تاريخ الحجاز الحديث، القاهرة: دار النهضة العربية، 1971م.
-------------------------------
ابوابراهيم وائل عبدالعزيز الدغفق الفضلي 1447هـ
من هنا انطلق الحرف وقصة الكتابة من الوركاء إلى العالم

مقدمة: على ضفاف الفرات حيث ولدت الكلمات

في رحاب بلاد الرافدين، تلك الأرض الخصبة التي احتضنت فجر الحضارات الإنسانية، انبثقت شرارة المعرفة الأولى التي أضاءت دروب البشرية. على ضفاف نهر الفرات، وفي مدينة الوركاء العريقة، وُلد أول حرف، ونُقشت أول كلمة، لتكون تلك اللحظة الفارقة نقطة انطلاق أعظم ثورة في تاريخ الإنسان: ثورة الكتابة. من هنا، من قلب العراق القديم، انطلقت الأبجدية المسمارية في رحلتها الطويلة عبر الزمان والمكان، حاملة معها أسس العلوم والآداب والأديان، لتُشكل بذلك حجر الزاوية في صرح الحضارة العالمية. يهدف هذا التقرير إلى تتبع تلك الرحلة المذهلة، من الألواح الطينية في الوركاء إلى انتشار الأبجديات في مختلف أنحاء العالم، مستعرضاً الإرث الحضاري العظيم الذي خلفته لنا تلك الحقبة التأسيسية، ومُسلطاً الضوء على الجهود العلمية الحديثة التي كشفت لنا أسرار تلك الكتابات القديمة.

الوركاء: المدينة التي علّمت العالم الكتابة

تقف أطلال مدينة الوركاء، أو "أوروك" كما عرفها السومريون، شامخة في جنوب العراق، شاهدة على عظمة حضارة كانت يوماً ما مركز العالم. تقع هذه المدينة التاريخية على بعد حوالي 30 كيلومتراً شرق مدينة السماوة الحالية، وقد كانت في أوج ازدهارها، قبل حوالي 4000 عام قبل الميلاد، منارة للعلم والثقافة والاقتصاد [1]. في هذه المدينة، التي يعتبرها المؤرخون أول مركز حضري حقيقي في تاريخ البشرية، تم اختراع الكتابة حوالي عام 3100 قبل الميلاد، لتنتقل البشرية من عصور ما قبل التاريخ إلى فجر التاريخ المدون.

> "لقد كان الكشف عن الحضارة السومرية من أروع القصص الروائية وأكثرها غرابة في علم الآثار. فقد كنا نظن أن الإغريق والرومان واليهود هم القدماء جهلاً منا بالمدى الواسع لحقب التاريخ. إلى أن جاء عام 1850م فقد تبين - هينكز- أن كتابة تكتب بقلم ذي طرف دقيق على طين لين في لغات الشرق الأدنى السامية وأنها أُخذت من أقوام أقدم من الساميين. وقد عرفت فيما بعد بالكتابة المسمارية." - ول ديورانت، قصة الحضارة [2]

كانت الوركاء مدينة عظيمة بكل المقاييس، إذ امتدت على مساحة واسعة وحاط بها سور ضخم يبلغ طوله 9 كيلومترات وارتفاعه 8 أمتار، وهو ما يعكس قوتها العسكرية والاقتصادية في ذلك الزمن. وقد احتضنت المدينة معابد ضخمة، من أشهرها "المعبد الأبيض" وزقورة "إنانا"، إلهة الحب والحرب لدى السومريين، والتي كانت مركزاً دينياً مهماً في العالم القديم. وقد كشفت التنقيبات الأثرية، التي بدأت في القرن التاسع عشر على يد الباحث الإنجليزي وليام لوفتس، عن كنوز أثرية لا تقدر بثمن، من بينها آلاف الألواح الطينية التي تحمل نقوشاً مسمارية، والتي فتحت لنا نافذة فريدة على حياة سكان بلاد الرافدين ومعتقداتهم وعلومهم.
الزقورة اهرامات بلاد الرافدين. 

الزقورة 𒅆𒂍𒉪 
اهرامات بلاد الرافدين ، وتعني باللغة الاكدية "المكان المرتفع" او "البرج العالي"
وتسمى باللغة السومرية القديمة "ئونير" وهي دور عبادة تمارس فيها الطقوس الدينية قديماً في وادي الرافدين وكانت تبنى بشكل مرتفع كنوع من التقرب الى الالهة التي يعتقدون انها في السماء ومن اشهر الزقورات هي:  
زقورة أور ، وزقورة عقرقوف ، وزقورة جغازنبيل

الكتابة المسمارية: من الصور إلى الرموز

لم تظهر الكتابة المسمارية بشكلها المعروف فجأة، بل كانت نتاج تطور طويل بدأ بالكتابة الصورية، حيث كانت كل صورة تمثل شيئاً أو فكرة. ومع مرور الزمن، وتزايد الحاجة إلى تدوين المعاملات التجارية والقوانين والأحداث التاريخية، تطورت هذه الصور لتصبح رموزاً أكثر تجريداً، تُنقش على ألواح من الطين الطري باستخدام قلم من القصب ذي رأس مثلث، وهو ما أعطاها شكلها المميز الذي يشبه المسامير، ومن هنا جاءت تسميتها بـ "الكتابة المسمارية".
كانت هذه الألواح الطينية بمثابة السجلات الرسمية للحضارة السومرية، وقد حفظت لنا تاريخاً حافلاً بالإنجازات العلمية والأدبية. فبفضل هذه الألواح، تعرفنا على شرائع حمورابي، وعلى ملحمة جلجامش، وعلى معارف السومريين في مجالات الفلك والرياضيات والطب. وقد انتشرت الكتابة المسمارية من الوركاء إلى جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم، حيث استخدمتها حضارات مختلفة مثل الأكاديين والبابليين والآشوريين، لتصبح بذلك أول نظام كتابة عالمي في التاريخ.

رحلة الأبجدية: من المسمارية إلى العربية

لم تكن الكتابة المسمارية نهاية المطاف في رحلة تطور الكتابة، بل كانت الأساس الذي بنيت عليه أبجديات أخرى. فعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، طور الفينيقيون أبجدية تعتمد على الأصوات بدلاً من الصور، وهو ما شكل ثورة حقيقية في عالم الكتابة. ومن هذه الأبجدية الفينيقية، تفرعت أبجديات أخرى مثل الإغريقية والآرامية، والتي أصبحت بدورها أماً للعديد من الأبجديات الحديثة.
أما الأبجدية العربية، فيعتقد الباحثون أنها تطورت من الأبجدية النبطية، التي كانت تستخدم في مملكة الأنباط في شمال شبه الجزيرة العربية. وقد تأثرت الكتابة النبطية بالخط الآرامي، ومع مرور الزمن، تطورت لتأخذ شكلها المميز الذي نعرفه اليوم في الأبجدية العربية. وفي جنوب شبه الجزيرة العربية، ازدهرت كتابة أخرى تعرف بـ "خط المسند"، والتي استخدمت في تدوين نقوش الحضارات اليمنية القديمة مثل سبأ وحمير. ومع بزوغ فجر الإسلام، أصبحت اللغة العربية لغة القرآن الكريم، وانتشرت كتابتها في جميع أنحاء العالم الإسلامي، حاملة معها تراثاً ثقافياً غنياً ومتنوعاً.

 فك أسرار الماضي: الكشف عن رموز المسمارية

ظلت الكتابة المسمارية لغزاً محيراً لقرون طويلة، حتى بدأت الجهود العلمية الحديثة في فك رموزها في القرن الثامن عشر. ويعود الفضل في ذلك إلى الرحالة والعالم الدنماركي كارستن نيبور، الذي قام برحلة استكشافية إلى الشرق الأوسط عام 1761، وقام بنسخ نقوش مسمارية ثلاثية اللغات من موقع برسيبوليس في إيران. وقد أتاحت هذه النسخ للعلماء الأوروبيين فرصة مقارنة اللغات الثلاث (الفارسية القديمة، والعيلامية، والبابلية)، وهو ما شكل مفتاح الحل لفك رموز الكتابة المسمارية.
وقد كان للعالم الألماني الشاب جورج كروتفند دور بارز في هذه الجهود، حيث تمكن بفضل ذكائه وقدرته على حل الألغاز من فك رموز 10 علامات وثلاثة أسماء من النقوش التي نسخها نيبور. وقد فتح هذا الإنجاز الباب أمام علماء آخرين لاستكمال المسيرة، حتى تمكنوا في النهاية من فك رموز الكتابة المسمارية بشكل كامل، وهو ما أتاح لنا فرصة قراءة تاريخ بلاد الرافدين من مصادره الأصلية.

 الخاتمة الإرث لا يموت

من الوركاء انطلقت شرارة الكتابة، ومنها استنارت دروب الحضارة. إن قصة الكتابة هي قصة الإنسان نفسه، قصة سعيه الدؤوب للمعرفة والتواصل وتدوين تاريخه. وما زالت الألواح الطينية التي خلفها لنا أجدادنا في بلاد الرافدين تنبض بالحياة، تروي لنا حكايات الملوك والآلهة، وتكشف لنا عن أسرار حضارة عظيمة لم تمت، بل ظلت خالدة في ذاكرة التاريخ، شاهدة على أن العراق كان وسيظل منارة للعلم والمعرفة.

________________________________
 المصادر والمراجع:

1- د. شاكر محمود اسماعيل - "أثر الإنجاز الحضاري لمدينة الوركاء في حضارة العراق القديم" - مجلة الفتح للبحوث التربوية، 2009.
2- ول ديورانت - قصة الحضارة.
3- J Ur, L De Jong, J Giraud, JF Osborne, J MacGinnis - "Ancient cities and landscapes in the Kurdistan Region of Iraq: The Erbil Plain Archaeological Survey 2012 season" - Iraq Journal, 2013.
4- PT Daniels - "The decipherment of ancient near Eastern languages" - A companion to ancient near Eastern languages, 2020.
5- KJ  Cathcart - "The earliest contributions to the decipherment of Sumerian and Akkadian" - Cuneiform Digital Library Journal, 2011.