الخميس، 23 أكتوبر 2025

جولة الصين الخامسة الشاملة رحال الخبر 1447هـ



✦ رحلة الصين بين الجبال والأنهار (5–24 أكتوبر 2025)

✍️ د.الرحال وائل عبدالعزيز الدغفق

 (رحّال الخبر)

مقدمة

في الشرق البعيد، حيث تتعانق السحب بالجبال وتغفو الأنهار في أحضان المدن القديمة، كانت الصين على موعدٍ مع رحلةٍ عربيةٍ تحمل عبق القهوة وفضول المغامرة.
رحلةٌ جمعت بين الحنين إلى الطبيعة والبصيرة بالتاريخ، وبين دهشة المدن الكبرى وهدوء القرى النائية.
اثنا عشر يوماً بين غوانغجو وقويلين وتشانغجياجيه، في حكايةٍ تمزج بين الضوء والمطر، بين الحجر والماء، وبين الإنسان والطبيعة التي خلقها الله جمالًا يتجدد في كل نظرة.


الفصل الأول:

الوصول إلى غوانغجو عناق الشرق الأول

في صباح الثاني عشر من أكتوبر، كانت ثلاث طائراتٍ تشقّ طريقها من الرياض والكويت ودبي، تلتقي فوق سماء الصين في رحلةٍ جمعت الإخوة على أرضٍ غريبة الملامح، دافئة الاستقبال.


كنتُ في انتظارهم منذ الصباح، وعند الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة كانت القوافل قد وصلت مطار غوانغجو الدولي، حيث احتفى بنا المرشد المحلي بابتسامةٍ صينيةٍ مطمئنة، واتجهنا إلى فندق أوشن في قلب المدينة.

كان اليوم الأول حراً، فاختار بعض الرفاق مطاعم تركية وعربية قريبة، بينما انطلق آخرون بين أسواق غوانغجو الغارقة في الألوان والعطور.
ومع منتصف الليل، وصل احد اعضاء الرحلة، لتكتمل القافلة ويبدأ المشهد الأول من الرواية الشرقية.


في اليوم التالي، تجولنا بين معلم أشجار الصنوبر الستة، ثم إلى أكاديمية عائلة تشين وبيت الزعيم صن يات-سين.


وعلى جزيرة شاميان التي ما زالت تحتفظ بملامح الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، سرنا تحت أشجارها القديمة على ضفاف نهر اللؤلؤ.
واختُتم اليوم في سوق تشينغبينغ الشعبي، حيث تنبعث روائح الأعشاب والأسماك المجففة وذكريات الصين القديمة.


الفصل الثاني:

إلى قويلين ومدرجات الأرز أنشودة الريف الصيني

ليلة الرابع عشر من أكتوبر كانت مختلفة، إذ وصلت احد أعضاء الرحلة بعد تأخيرٍ طويل سببه جواز السفر، فكان استقباله في المطار كأننا نستقبل صديق عاد من رحلة صبرٍ طويلة.


وفي صباح اليوم التالي، انطلقنا بالقطار السريع نحو قويلين، مدينة الجبال والأنهار.
ومن هناك إلى لونغشنغ لزيارة قرية لونغ إي ذات المدرجات الأزلية التي تُزرع بالأرز منذ مئات السنين.
تسلقنا الممرات، وشاركنا القرويين طعامهم البسيط المطهو على البخار، في بيوتٍ خشبيةٍ تتدلّى من سفوح الجبال.
كانت الليلة بين الغيم والماء، أنوار صغيرة تتلألأ على مدرجات الأرز، كأن السماء انثنت لتقبل الأرض.

مع فجر الخامس عشر من أكتوبر، استيقظنا على صياح الديكة وهديل وتغاريد العصافير.
انطلقنا بعدها إلى يانغشوو، مدينة الشعر على ضفاف نهر لي، حيث ركبنا السفن وانساب بنا الماء بين الجبال المخروطية التي ألهمت الرسامين والشعراء.


وفي المساء، حضرنا عرض “ليو سانجيه” الأسطوري فوق سطح النهر، مشهدٌ من الضوء والموسيقى يحكي عن حبٍّ ووفاء في أسطورةٍ خالدة.



الفصل الثالث:

الكهوف والبحيرات حيث سكون قويلين وسحرها

صباح السادس عشر من أكتوبر ودّعنا يانغشوو، وعرّجنا على كهف الناي (Reed Flute Cave) حيث تتدلّى الصخور كأنها ألحانٌ متجمدة.
ثم زرنا مصنع الحرير قبل الوصول إلى فندق برافو جولين المطل على البحيرة، حيث انعكست أنوار المساء على الماء، فبدت المدينة لوحةً حية من جمالٍ وطمأنينة.

في السابع عشر من أكتوبر، زرنا صخرة خرطوم الفيل، رمز جولين الأيقوني، ثم ركبنا القطار السريع نحو مدينة العجائب تشانغجياجيه في رحلةٍ استغرقت سبع ساعات من الجنوب إلى الشمال، حتى وصلناها ليلاً تحت أمطارٍ خفيفة ونسيمٍ جبليٍّ بارد.


الفصل الرابع:

 تشانغجياجيه وجبال الأساطير بسلالم السماء

في الثامن عشر من أكتوبر بدأ فصل الأعاجيب.
توجهنا إلى محمية وولينغيوان الوطنية، وشاهدنا جبال جينبيان الشاخصة، ثم صعدنا بـ مصعد بايلونغ الزجاجي إلى حيث السحب تلامس قمم الصخور.
هناك وقفنا أمام مشهدٍ لا يُنسى؛ جبالٌ عمودية مغروسة في الغيم، ومنها استوحى المخرج الأمريكي فيلمه الشهير Avatar.

أما في التاسع عشر من أكتوبر، فقد واجهنا الطبيعة بصلابة الإنسان؛
توجهنا إلى جبل تيانمين (بوابة السماء)، لكن المطر والبرد والضباب حال دون رؤية الجسر الزجاجي الشهير.
ومع ذلك تابعنا السير حتى نزلنا 999 درجة معدنية وسط الرياح والضباب، وكانت الرحلة نزولاً من السماء إلى الأرض بكل ما تحمله الكلمة من تحدٍّ وجمال.

في اليوم الثالث (20 أكتوبر)، زرنا سوق وولينغيوان للعطارة الصينية، ثم مبنى الأبراج 72 التراثي المزدان بالعروض والرقصات الشعبية.
وفي المساء، كانت الرحلة الجوية إلى غوانغجو بديلاً عن القطار الطويل، لنصل منتصف الليل إلى فندق أوشن، منهكين ولكن فرحين.


الفصل الخامس:

 ختام الرحلة في غوانغجو — بين الأبراج والمساجد

في الحادي والعشرين من أكتوبر، كان لنا موعد مع المدينة الكبرى من جديد.
بدأنا من برج كانتون الشاهق، مروراً بـ ساحة هواشنغ الفسيحة، ثم أسواق الأزياء وسوق بيمان الشهير، وختام اليوم في شارع بيجين الصاخب بالحياة.
كانت غوانغجو تودّعنا بأنوارها التي لا تنام.

وفي الثاني والعشرين من أكتوبر، بدأنا جولتنا الختامية في حديقة الكباش الخمسة، رمز الخلاص من المجاعة، ثم زرنا أسوار سلالة مينغ العتيقة، والقاعة التذكارية للدكتور صن يات-سين مؤسس الجمهورية الصينية الحديثة.
ومن هناك إلى أسواق شوبينغ للعطارة والفطر والجينسنغ، تلتها زيارة روحية في مسجد هوايشنغ ذي المنارة البيضاء، ثم مسجد أبي وقاص، الذي يروي التاريخ أنه بني في عهد الصحابة الأوائل.
واختُتم اليوم في حديقة ليوان حيث تتناثر البرك والجسور الخشبية تحت مطرٍ خفيف يوشك أن يقول: انتهت الحكاية.

وفي ذلك المساء، انطلقتُ وحدي إلى سوق الشاي الأكبر في غوانغجو، لأكمل فصولي الخاصة؛ أبحث عن أوراق الشاي النادرة، وأغذي متحف الشاي في الخبر بمعرفةٍ جديدة من أرض الشاي الأولى.


الفصل السادس: الوداع ومعرض كانتون — رسالة الشرق الأخيرة

في الثالث والعشرين من أكتوبر، زرت المنطقة الثانية من معرض كانتون فير 2025، حيث تتجلى الصناعة الصينية في أبهى صورها.
ثم عدت إلى الفندق استعداداً للرحيل، مودعاً الرفاق الذين رافقوني في رحلةٍ كانت أجمل من الحلم.

وقبل أن تنطوي الصفحة، اتفقنا أن الرحلة القادمة ستكون إلى الهند والمثلث الذهبي (دلهي – آغرا – جايبور)، وربما إلى كشمير في ربيع مارس، حيث الجمال لا يُكتب بل يُعاش.


الخاتمة

هكذا كانت الصين...
بلادٌ تجمع في حضنها التاريخ والحكمة، الجمال والصرامة، الألوان والضباب.
رحلةٌ لم تكن مجرد مسارٍ جغرافي، بل عبورٌ في الذات؛ من صخب المدن إلى سكون الجبال، ومن أعشاب العطارين إلى بخار الشاي الذي يروي الحكايات.
وما بين الغيم والابتسامات والقطارات والأنهار، وُلدت ذاكرةٌ جديدة تضاف إلى سجل رحلات "رحّال الجزيرة العربية"،
ذكرى تقول لكل من يقرأ:

"سافر لتعرف، وتأمل لتشكر، وعد لتُحدّث بما رأيت من جمال الله في أرضه."



الخميس، 16 أكتوبر 2025

مسار رحال الخبر للصين بين نظرات وعبر الرحلة 1447هـ

جولة رحّال داخل الصين ومحاولة لفهم وطبيعة التركيبة العميقة للشعب الصيني بنظر رحّال وليس بنظر سائح . 
وساتناول هذا الموضوع ضمن خمس من المناحي الايضاحية لهذه التركيبة. 
وسابدأها بتنوع الشعب الصيني وتكوينه القبلي ، ثم علاقة تلك المجتمعات مع بعضها. وثم علاقة المجتمع الصيني مع كل من حوله بالعالم ، وبعدها ساتطرق الى ملامح سلوكية قد تكون غريبة لمن يزور الصين ولم يلحظها ، واخيرا الخلاصة التي وصلت أليها ، والى التفاصيل… 

أولاً: تنوّع الشعب الصيني وتكوينه القبلي والإثني

رغم أن الصين تُقدَّم للعالم كأمّة واحدة موحّدة، إلا أنها في عمقها فسيفساء من القوميات والقبائل التي تنصهر في بوتقة الدولة الحديثة:
الأغلبية الهان (Han):
يمثلون نحو 92٪ من السكان، ويُعدّون العمود الفقري للثقافة الصينية، من اللغة إلى الفنون والعادات.
يُعرف الهان بانضباطهم، وولائهم للأسرة، وحبهم للعمل، وبنظامهم الاجتماعي الدقيق الذي يقدّم الجماعة على الفرد.

القوميات الـ 55 الأخرى:
منها الويغور في تركستان الشرقية (شينجيانغ)، والتيبت في الهضبة الغربية، والزوانغ، والمنشور، والمغول، والكازاخ، والهوي (المسلمون الصينيون).
كل مجموعة تحمل مزيجًا من العادات واللغات والمعتقدات والموسيقى والملابس.

بعض القبائل ما زالت تحافظ على نظامها الأمومي مثل قبائل الموسو Mosuo في مقاطعة يونّان، حيث تُنسب الأنساب إلى الأم، وتُعتبر العلاقات الزوجية حرة نسبيًا — وهو أمر يثير دهشة الزائرين من العالم الإسلامي والغرب على حدّ سواء.

🀄 ثانيًا:
 علاقة المجموعات ببعضها داخل الصين
التعايش والتنافس:
يعيش الجميع تحت سلطة مركزية قوية تشجّع على الوحدة الوطنية، لكنّ التنوّع العرقي أحيانًا يولّد توتّرًا ثقافيًا مكتومًا، خاصة في المناطق البعيدة مثل التيبت وشينجيانغ.

التمازج الثقافي:
المدن الكبرى مثل شنغهاي وغوانزو وبكين صارت بوتقة تصهر كل الأعراق، حتى تكاد لا تميّز الأصل من اللهجة.

العائلة كوحدة مقدسة:
بغضّ النظر عن الأصل، تقديس العائلة والآباء هو الرابط الذي يجمع الصينيين كافة، حتى أصبح من سماتهم الأبرز عالميًا.

🌏 ثالثًا:
علاقة الصينيين بالآخرين

1- مع الجيران الآسيويين:
العلاقة مع اليابان وكوريا مشوبة بالمنافسة التاريخية والاحترام المتبادل — فهم أبناء حضارة الكونفوشيوسية نفسها.

مع الهند هناك توتر حدودي، لكن تبادل ثقافي قديم يعود إلى طريق الحرير وانتقال البوذية.

مع روسيا ومنغوليا علاقة براغماتية يغلب عليها البعد التجاري والاستراتيجي.

2- مع العالم العربي والشرق الأوسط:
علاقة تقوم على الاقتصاد والاحترام المتبادل أكثر من الفهم الثقافي العميق.
الصين ترى في العرب “بوابة للطاقة والأسواق”، والعرب يرون فيها “قوة اقتصادية بلا استعمار”.

المسلمون الصينيون (الهوي والويغور) يشكلون جسرًا روحانيًا وثقافيًا بين الجانبين، رغم تعقيدات الواقع السياسي.

للعرب حضور قديم في الصين منذ القرن السابع الميلادي، خاصة في مدن مثل قوانغتشو وشيان حيث بُنيت أولى المساجد في شرق آسيا.

3- مع الغرب:
علاقة مركّبة من الإعجاب والريبة؛ فالصيني يحترم تفوق الغرب العلمي، لكنه لا يعترف له بالتفوّق الأخلاقي أو الحضاري.

الغربيون غالبًا يُدهشون من انغلاق الصينيين على خصوصيتهم الاجتماعية، حيث يندر أن يُدخل الصيني الغريب إلى بيته.

🧧 رابعًا:
ملامح سلوكية غريبة أو مدهشة للغرباء امثالنا… 

1- حب الصمت والانضباط: الصيني يفضّل الفعل على القول، وغالبًا ما يبتسم بدل الجدال.

2- ثقافة الجماعة:
لا يقدّم نفسه كفرد متفرّد بل كجزء من منظومة — حتى في العمل والسفر والصداقة.

3- تقديس الوقت والإنتاجية: فيُعتبر التأخير وعدم الدقة قلة احترام.

4- تجنّب المواجهة العلنية:
يسمّونها “حفظ الوجه” (Mianzi) أي حفظ الكرامة الاجتماعية، لذا لا ينتقدك مباشرة.

5- عادات الطعام:
يأكلون كل ما يُظن أنه لا يُؤكل، لكن في الغالب عن فلسفة قديمة تعتبر كل كائن دواءً من نوع ما.

6- الزواج والإنجاب:
تُحدده العائلة لا المشاعر، رغم أن الجيل الجديد بدأ يتغيّر.

7- التعامل مع الغرباء:
في البداية يبدو التحفّظ، لكن إذا كسبت ثقته، صار وفيًّا لأبعد الحدود.

🏮 خامسًا: الخلاصة الفكرية المستخلصة لفهم شعب الصين. 

> الشعب الصيني يشبه نهر اليانغتسي: واسع، متعدد المنابع، لا يُدرَك من نظرة واحدة.
قد تراه ساكنًا، لكنه يحمل في العمق طاقةً هائلة من الصبر، والالتزام، والإيمان بالعمل كعبادة دنيوية.
ومع أنه يبدو مغلقًا أحيانًا، إلا أن جوهره الإنساني منفتح على السلام والتعايش، ما دام الآخر يحترم حدوده وثقافته.

[١٦‏/١٠، ١٠:٥٧ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: *الجانب الإنساني والتاريخي من حضارة مسلمي الصين قلّ من يتناوله بدقّة.*

واقدم إليكم عرضًا موجزًا ومنظّمًا يبيّن جغرافية المسلمين في الصين، وتاريخهم، ومعاناتهم وجزء من الذي رأيته وزرته في هذه الرحلة ورحلات ماضية بين مقاطعات شينغيانغ و ينغشي وزيزانج وتشينغهاي وتشينغي وخبي وغيرها… 
ولتكوّن رؤية شاملة ومختصرة:

🕌 أولًا: خريطة توزّع المسلمين في الصين

يقدَّر عدد المسلمين بنحو 25 إلى 30 مليون نسمة، موزّعين على أكثر من عشر قوميات، أهمها:

1- الهوي (Hui) – يعيشون في جميع أنحاء الصين، خاصة في مقاطعات نينغشيا، غانسو، ويونّان.

أصلهم من تزاوج العرب والفرس والترك الذين قدموا عبر طريق الحرير منذ القرن السابع الميلادي.
يتميّزون بانسجامهم مع الدولة الصينية مع حفاظهم على الإسلام والعادات العربية (العمامة، المساجد، اللغة العربية الدينية).

2- الويغور (Uyghur) – يعيشون في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) غرب الصين، قرب حدود كازاخستان.
أصولهم تركية، لغتهم قريبة من الأوزبكية.
يعانون من قيود شديدة على العبادة والتنقل والتعليم الديني منذ عقود، وتخضع منطقتهم لرقابة أمنية مكثفة.
الثقافة الويغورية غنية بالموسيقى والرقص والمأكولات المشابهة لآسيا الوسطى.

3- الكازاخ والقيرغيز والطاجيك – في أقصى الشمال الغربي قرب جبال تيان شان والحدود مع آسيا الوسطى.
قبائل رعوية إسلامية، متأثرة بثقافة البدو الرحّل.
يعيشون في مناطق جبلية، ومعاناتهم أقل من الويغور لكنّهم مراقبون بشدة.

4- السالار (Salar) في مقاطعة تشينغهاي شمال غرب البلاد.
أصولهم من التركمان، ويتحدثون لغة تركية قديمة.
يُعرفون بتمسّكهم بالإسلام وبتشييد مساجد جميلة صغيرة الطراز.

5-الباوان والبوهي والمغول المسلمون في غانسو ومنغوليا الداخلية.
تأثّروا بالبوذية المحيطة لكنهم حافظوا على صلاتهم الدينية.

6- مسلمو يونّان (Yunnan Muslims) – في الجنوب الغربي قرب ميانمار ولاوس.
مزيج من الهوي والأقليات المحلية، شاركوا تاريخيًا في التبادل التجاري مع العرب والهنود.
كثير منهم هاجر إلى بورما وتايلاند بعد الثورات في القرن التاسع عشر.

🧭 ثانيًا:
المعاناة عبر التاريخ
1- العصور الإمبراطورية:
المسلمون حظوا باحترام في عهد أسرتي تانغ ويوان بسبب دورهم التجاري والعلمي.
لكنهم تعرّضوا لاحقًا للقمع في فترات أخرى، خاصة بعد تمردات القرن التاسع عشر (مثل ثورة دو ونشيوان في يونّان وثورة دنغن في غانسو).

2- القرن العشرون:
بعد قيام الصين الشعبية عام 1949، اعترفت الدولة رسميًا بالإسلام كدين معترف به، لكن السيطرة الحكومية على المؤسسات الدينية كانت كاملة.
فترة “الثورة الثقافية” (1966–1976) شهدت تدميرًا للمساجد والمخطوطات ومنع الشعائر.

3- العصر الحديث:
اليوم يتمتع المسلمون بحرية محدودة ومراقَبة.

في المدن الكبرى تُسمح المساجد بهدوء، لكنّ التعليم الإسلامي المستقل مقيّد.

الويغور يواجهون أشدّ القيود: إعادة التثقيف الإجباري، مراقبة الاتصالات، وتقييد التنقل.

أما الهوي فمقبولون اجتماعيًا أكثر لأنهم لا يطالبون بالاستقلال ويستخدمون اللغة الصينية.

🌍 ثالثًا: الأثر الثقافي والديني للمسلمين في الصين

أدخلوا إلى الصين الطب العربي، والفلك، والتجارة البحرية.

بنوا أقدم المساجد في شرق آسيا مثل مسجد هوايشن في غوانغتشو ومسجد شيان الكبير.

كانوا جسرًا بين الحضارة الإسلامية والشرق الأقصى عبر طريق الحرير.

ما زال طعامهم (الحلال، النودلز اليدوي، خبز النان) جزءًا محبوبًا من المطبخ الصيني العام.

🕊️ رابعًا: خلاصة فكرية 
> المسلمون في الصين يشكّلون خيوطًا دقيقة في نسيج حضارة ضخمة؛
بعضهم مندمج في الجسد، وبعضهم غريب في روحه،
لكنّهم جميعًا يحمِلون نورًا عربيًا تركيًّا فارسيًّا لم يخمد رغم العصور والضغوط.
هم أبناء طريق الحرير، ما زالوا يسيرون عليه… ولكن بأقدامٍ أثقل وخطواتٍ صابرة.

✍️: الرحال وائل الدغفق1447هـ
[١٦‏/١٠، ١١:٢٤ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: رحلات رحّال الخبر في الشرق الأقصى»، وقد تضمّنتُ فيها التوثيق الجغرافي والوصف الحسي لمساجد وأسواق قومية الهوي، مع روح السفر والتأمل التي تميّزنا فيها.

*🕌 قوم الهوي... حين يتحدث الإسلام بلهجة صينية* 

في شمال الصين، حيث يتلوى النهر الأصفر بين التلال الطينية، تمتد أرض نينغشيا كواحةٍ صغيرة في قلب الإمبراطورية الكبرى.
حين تطأها قدماك تشعر أنك لا تسير في الصين فحسب، بل في فصلٍ نادر من تاريخ الإسلام، ذلك الذي لم يُكتب في مكة أو بغداد، بل كُتب بحروفٍ صينية على جدران المساجد القديمة.

🌏 رحلة إلى الشرق الذي صلّى غربًا

وصلتُ إلى نينغشيا عبر قطارٍ طويلٍ يشقّ أراضي الشمال الغربي، تمرُّ بك الحقول المصفّرة والقرى التي ترفرف فيها أعلامٌ خضراء صغيرة فوق القباب.
كل محطةٍ تبدو وكأنها تستقبل ضيفًا من التاريخ فهنا مرّ التجار العرب والفرس الذين جاؤوا منذ أكثر من ألفٍ وثلاثمئة عام يحملون العطور واللؤلؤ والقرآن.
على طريق الحرير، عبروا من سواحل قوانغتشو وتشوانتشو إلى عمق الصين، حيث تركوا وراءهم أسماءً عربيةً كُتبت بخطٍّ صيني على شواهد القبور القديمة.

في تلك الأزمنة البعيدة، كان الإيمان يسافر مع القوافل، لا مع الجيوش.
ولذلك، حين وُلد شعب الهوي، وُلد من رحم التجارة والمودة، لا من فتوحاتٍ ولا حروب.

🕋 من المغول إلى الهان... اندماج دون ذوبان

في القرن الثالث عشر، حين اجتاحت جيوش المغول آسيا الوسطى، كانت تفتح الطرق التجارية والقلوب معًا.
جاء المسلمون من بخارى وسمرقند وهرات إلى أراضي الصين، واستقر كثير منهم في نينغشيا وقانسو وشنشي.
ومع مرور السنين، تزاوجوا مع الصينيين من قومية الهان، فأنجبوا أبناءً عيونهم شرقيةٌ، لكن قلوبهم تتجه غربًا نحو الكعبة.

هكذا نشأت هوية الهوي ليست قومية دمٍ، بل قومية إيمانٍ وثقافة.
يتحدثون الصينية، لكنهم يبدأون طعامهم بـ «بسم الله»، ويُغلقون يومهم بالدعاء على سجادةٍ في زوايا بيوتهم.
وفي حفلات الزواج، يختلط صوت المزمار الصيني بنغمات الأناشيد الإسلامية، كأن ثقافتين تصليان معًا صلاة الجماعة.

🕌 نينغشيا... وطنٌ بلا منفى

حين دخلتُ مدينة ينتشوان عاصمة نينغشيا، شعرتُ أني في مدينةٍ مزدوجة الهوية: فواجهات المتاجر صينية الخط، لكن تحتها عبارات بالعربية: مطعم حلال – السلام عليكم – لحوم طازجة.
في الأسواق القديمة، تلتقي رائحة الكمون الصينية مع طهو اللحم المشوي على الطريقة البخارية، وتسمع أذان المغرب ينساب من مكبراتٍ معلّقةٍ فوق أبواب الطين.

أهل نينغشيا لا يتحدثون كثيرًا عن تاريخهم، لكنه حاضرٌ في ملامحهم.
في كل مسجدٍ حكاية:
في مسجد تشونغوي ترى القباب البيضاء تتناغم مع السقوف الخشبية الحمراء في لوحةٍ لا تشبه إلا الهوي أنفسهم.
وفي مسجد شياهو، يمتدّ محرابٌ نحته الحرفيون الصينيون بدقةٍ مذهلة، لكنه يتجه تمامًا نحو مكة.

🏯 بكين... حين يلتقي الأذان وناطحات الزجاج

من نينغشيا إلى بكين، تأخذك رحلة القطار إلى قلب المدينة الصاخبة، وهناك، وسط الأبراج والمراكز التجارية، يقف مسجد نيوجيه كأقدم شاهدٍ على الإسلام في العاصمة.
تخطو بوابته الخشبية التي كُتبت عليها عبارة «الله أكبر» بخطٍّ عربيٍّ مذهبٍ داخل إطارٍ صينيٍّ من الزخارف التنينية.
وحين يرتفع الأذان بين ضجيج السيارات، تشعر أن الزمن انحنى احترامًا لقرونٍ من التعايش.

في باحة المسجد، يجلس شيخٌ من الهوي يشرح لتلاميذه بالعربية كلماتٍ صينية، ويبتسم قائلاً:

> "الإسلام لا يحتاج لغة، بل قلبًا يعرف الطريق إلى القبلة."

🌙 هوية متجذّرة رغم العواصف

مرّت قرونٌ شهد فيها الهوي محنًا وأحداثًا مؤلمة، من تضييقٍ سياسي إلى ثوراتٍ متقطعة، لكنهم ظلّوا على عهدهم مع الله.
في القرى البعيدة، كانت النساء يعلّمن أبناءهن الوضوء سرًا في فترات المنع، ويُخفين المصاحف في صناديق الشاي القديمة.
حتى اليوم، حين تلتقي أحدهم في قانسو أو يونان أو خنان، تشعر أن الإيمان ما زال حيًّا في ملامحه الهادئة.

🌸 شعبٌ يجمع النقيضين
من أجمل ما يميز الهوي أنهم يعيشون التوازن النادر بين الإيمان والانتماء، بين الأصالة والانصهار.
هم مسلمون تمامًا، وصينيون تمامًا — يقرأون القرآن بلسانٍ صينيٍ واضح، ويحتفلون برمضان بالزخارف الحمراء التي ترمز للحظ السعيد في ثقافتهم.
لقد أصبحوا جسرًا بين الشرق الإسلامي والشرق الأقصى، برهانًا على أن التلاقي لا يفسد الهوية، بل يثريها.

✨ خاتمة الرحلة

حين غادرتُ نينغشيا، كانت المآذن الصغيرة تبتعد عني شيئًا فشيئًا، وكنت أسترجع وجوه الأطفال الذين يردّدون السلام بلغتين:
«السلام عليكم» و«ني هاو».
أدركت حينها أن الإسلام في الصين ليس غريبًا ولا دخيلًا، بل جزءٌ من نسيجها القديم، من نسمة الحرير ومن نكهة الشاي ومن دعاء الأمهات عند الغروب.

> إن شعب الهوي ليس سلالةً من دمٍ، بل من ضوءٍ امتزج بالحضارة الصينية وبقي حيًّا حتى اليوم.

[١٦‏/١٠، ١١:٥٠ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: رحلاتي بين الأزقّة والأسواق في كاشغر (Kashgar) بمقاطعة شينجيانغ في شمال غرب الصين، نروي قصة قومية الأيغور المسلمين بحسٍّ ترحالي وتعايش بين التوثيق والتاريخ:

*🕌 قومية الأيغور في كاشغر: في قلب آسيا المسلمة* 

حين تدخل كاشغر، تشعر وكأنك تقف عند بوابة الزمن، حيث الصحارى تمتد إلى الأفق، والجبال تحرس المدينة بظلّها، والسوق القديم يعجّ بألوان القبّعات والتوابل وصدى الأذان المفقود عدا داخل المسجد وبصوت الهمس. هنا، في الجنوب الغربي من إقليم شينجيانغ (Xinjiang Uygur Autonomous Region)، يعيش الأيغور شعبٌ تركيٌّ مسلمٌ يغزل حياته بين رياح الصحراء وضفاف واحات طريفة، بين القوافل والحدود، بين البساط الحريري وآذان الجمعة.

كاشغر ليست مجرد مدينة  إنها قلب الهوية الأيغورية، مفترق طرقٍ بين الشرق والغرب، بين الصين وآسيا الوسطى، بين التاريخ والحاضر.

🌄 منذ القِدم: التاريخ يُكلّم الحجر

قبل أن تُدعى كاشغر بهذا الاسم، كانت تُعرف باسم شولي (Shule)، وقد ذُكرت في السجلات الصينية منذ القرن الثاني قبل الميلاد كواحةٍ في طريق القوافل. 
مرّت على هذه الواحة قصص كثير، من إمبراطورياتٍ عابرة، من صراعٍ على الطرق، من أممٍ ودولٍ وملوكٍ:

في عهد أسرة تانغ، دخلت كاشغر ضمن نفوذ الصين في فترات معينة، كحصنٍ على حدود الإمبراطورية الغربية. 

عبر العصور، كانت تحت سيطرة الإمبراطوريات التركية، والمغول، والكاراخانيين، وغيرهم من الدول التي تتقاسم السلطة هناك. 

في القرن العاشر، اتّخذت سلالة الكاراخانيد الإسلام كدين رسمي، فكان ذلك لحظة محورية في تشكيل الهوية الدينية للمنطقة، وأثرت في كاشغر كأحد مراكز المسلمين الجدد. 

في العصور اللاحقة، خضعت لزخم الحركات السياسية والدينية، بما في ذلك محاولات الاستقلال والحكم الذاتي، مثل قيام جمهورية تركستان الشرقية الأولى من كاشغر عام 1933 لفترة قصيرة. 

في عهد الإمبراطورية الصينية (السلالة الكينغ)، اجتُلبت المناطق الغربية تدريجيًّا إلى الحكم المباشر الصيني، فواجه الأيغور تحديات السيطرة المركزية. 

بذلك، كاشغر ليست فقط مدينة عابرة في التاريخ، بل ميدانٌ تجري فيه قصة الأيغور — خلقوا التاريخ كما يُخلَق التاريخ من روح الناس.

🕌 كاشغر اليوم: السوق والنبض الديني

حين تتجوّل في سوق التجمع الكبير (Grand Bazaar) في كاشغر، ترى بضائعٍ من شرق آسيا ووسط آسيا وأوروبا، وتسمع لغاتٍ تركية وفارسية وصينية تتداخل كأنها ألحانٌ في سيمفونية تجارية.
وفي الأزقة الضيقة تنشق رائحة الخبز الأيغوري المطهو في أفران طينية، وتنظر إلى الحُليّ والنقوش التقليدية التي تحكي تاريخًا وجدانياً للأجيال.

من أبرز معالمها التاريخية والدينية هو جامع إيدي كاه (Id Kah Mosque)، الذي بُني عام 1442م، ويُعدُّ أحد أكبر المساجد في شينجيانغ. 
تصميمه يجمع بين الطراز المعماري المركزي-آسيوي والعناصر الإسلامية — يحتوي على ساحات واسعة، وقبة كبيرة، وأبراج دقيقة. 
في أيام الجمع ، كان…  الملايين من المؤمنين يتجمعون في أفنيته وصحنه للصلاة، وكانت المساجد المحيطة تنبض بالدعاء والقرآن. 

لكن السنين الأخيرة شهدت تغييرات كبيرة. بعض المصادر تقول إن المسجد قد تحوّل من مركز عبادة نشط إلى جذب سياحي كمقهى وبعضه حول لمتحف ، وإن الصلوات تُقام بمجموعات محدودة، وأن عدد المصلّين قد تراجع كثيرًا. 
بعض المعلمين المطرودين يقولون إن بعض الفقرات الدينية تُرتّب من جهة رسمية وأن النشاط الحقيقي اختفى. 

كاشغر اليوم، بالرغم من ضغوط التحديث، لا تزال تحافظ على بقايا هويتها الأيغورية — في المبان التقليدية، وفي أسواق الحرف، وفي همس الأذان داخل المساجد المسموحة للصلاة والذي يختلط بصدى السيارات والازدحام.

🧭 رحلة في الهوية: أمةٌ في مواجهة التحدّيات

الأيغور هم قوم تركيّون مسلمون، لغتهم اللغة الأويغورية تنتمي إلى الفرع التركي لغات آسيا الوسطى، وهي كتابة عربية مخصصة. 
هم مرتبطون ثقافيًا وتراثيًا بشعوب آسيا الوسطى، أكثر من ارتباطهم الصيني، لكنهم يعيشون داخل الدولة الصينية، بين الهوية المغايرة والمصلحة السياسية. 

على مدى السنوات الأخيرة، تعرض الأيغور لسياسات صارمة من السلطات الصينية: برامج “إعادة التربية” أو “التدريب المهني”، مراقبة واسعة للهوية الدينية، ترحيل قسري، وإفراغ بعض الأحياء القديمة كجزء من مخاطبة “السلامة الوطنية”. 
تقارير كثيرة تقول إن مدينة كاشغر القديمة — ومنازلها التقليدية ومساجدها وأزقتها — عُرضت لهدم جزئي أو إعادة بناء بأشكال أكثر تجانسًا مع التخطيط المركزي، مما أثار جدلًا كبيرًا حول ما إذا كان ذلك نوعًا من “محو الذاكرة”. 
الهنودسة التي تُرسم في الشوارع الآن قد تبدو عادية، لكن بعض أسماء الشوارع الأيغورية والعلامات الدينية قد “نُقِحت” أو أُزيلت. 
حتى لفظة السلام عليكم ورحمة الله ممنوعة من التداول..
كما ان لفظة "حلال" بالمطاعم محرّمة.. 
هنا في كاشغر، في الأزقة التي تخُتَمّ بالأبواب الخشبية القديمة، تسير نساءٌ يلبسن حجابًا خفيفًا، وبصراحة لم اجد محجبة فعليا خلال زيارتي...  يمشين بهدوءٍ تارة، والامر تحت المراقبةٍ الصارمة.
وفي القرى البعيدة، تُروى قصص عن أولئك الذين أُخذوا إلى مراكز “التدريب” (السجون)، ولم يعودوا، أو يعيدون إلى أهلهم بعد تغيّرات لا تُعلن.

✨ في الختام: بين الأمس واليوم

حين تغادر كاشغر، تأخذ معك صوت الأذان المتناثر بين الأزقة، وقطعة خبز يدوية محمصة، وذكريات الحكايات التي لم تُكتب بعد في كتب التاريخ.
تدرك أنه لا شيء يُعطى لهويةٍ مسلمةٍ في قلب الصين، إن لم تحمله الأجيال بصبرٍ وإيمان.
إن الأيغور في كاشغر هم شمسٌ في أفقٍ غير مستقرّ، ينهضون من بين الرمال ليحافظوا على نورهم، رغم العواصف.

> إن كاشغر ليست مجرد مدينة في غرب الصين، بل هي جرحٌ وشاهدٌ وصوتٌ يصارع من أجل ألا يخمد.

✍️: الرحال وائل الدغفق1447هـ
[١٦‏/١٠، ١١:٥٠ ص] رحال الخبر وائل الدغفق: رواية شيانغفي: أسطورة العطر والماء

في قلب شينجيانغ، حيث تنساب الرياح الشمالية الشرقية وتحمل معها عبق الماضي، تقع "حديقة شيانغفي" ذات المناظر الخلابة. هناك، حيث تلتقي السماء بالأرض وتلتف الجبال حول القرية الصغيرة "آيزريتي"، في بلدة هاوهان، تظهر الطبيعة على صورتها الأكثر نقاءً. الحديقة التي تمتد على مساحة تزيد عن ألف فدان (حوالي 1000 فدان) لم تكن مجرد بقعة من الأرض، بل كانت بداية لحكاية قديمة تكتبها الرياح والنهر والذكريات.

بدأت رحلة حديقة شيانغفي في عام 2014، عندما قرر القائمون على تطوير المنطقة أن يجعلوا منها معلمًا سياحيًا يعكس الثقافة الفريدة لشعوب المنطقة. ومع مرور السنوات، أصبحت الحديقة في عام 2019 واحدة من الوجهات السياحية الوطنية المصنفة ضمن المواقع السياحية من المستوى 4A، حيث تجذب الزوار من شتى أنحاء العالم لاستكشاف تاريخها العريق وجمالها الخلاب.

داخل هذه الحديقة، سيجد الزائر نفسه محاطًا بمجموعة من المعالم التي تحكي قصصًا ضاربة في عمق التاريخ. من بينها "حجر شيانغفي" الذي يحمل ذكرى تلك الأيام التي ولدت فيها الأساطير، إلى "مقر إقامة شيانغفي السابق" حيث سكن الأشخاص الذين شكلوا تاريخ المنطقة. أما "طاحونة الماء القديمة" فتُعتبر شاهدًا على التقاليد القديمة في استخدام الماء، بينما تحمل "شجرة الحب" رمزًا للرغبات المستحيلة والمشاعر الخالدة.

وفي الزمان الذي نكتب عنه، حيث كانت الأسطورة تُكتب بالحبر ذاته الذي ينساب من عيون الجبال، كانت "أسطورة شيانغفي" تروي عن "المحظية العطرة" التي أصبحت جزءًا من القصص التي يتناقلها الناس. يتداولها الأجداد كما يتداولون الزهور العطرية، لكن الحكاية، رغم جمالها، تحولت إلى مأساة، لتبقى تلك الفتاة العطرة التي "تحولت إلى فراشة" مع مرور الأيام، عالقة في الأذهان.

لكن القصة الحقيقية التي يجب أن تُروى هنا هي قصة "محمد يوسف" الرجل الذي جاء إلى جنوب شينجيانغ ليغير مجرى التاريخ. لم يكن محمد يوسف مجرد معلم صوفي عادي، بل كان رمزا لطريقة "النقشبندية" التي حملها من بلاد ما وراء النهر إلى هذه الأرض، ليبدأ مسارًا روحيًا وأيديولوجيًا كان له الأثر العميق على سكان المنطقة.

عاش "محمد يوسف" في زمن لم يكن فيه الطريق إلى الله إلا عبر المشقة والتضحية، فكان يروج للطريقة النقشبندية التي جمعت بين السلوك الصوفي والالتزام الديني، حتى أصبحت طريقة صوفية لها أتباع مخلصون في كافة أنحاء شينجيانغ. وعندما وافته المنية، خلفه ابنه "آفاق خوجة"، الذي حمل الراية بعده وأصبح خليفته في نشر تعاليم الطريقة.

ورغم أن هذا الضريح الذي يُعد اليوم من أبرز المعالم الإسلامية في شينجيانغ كان في البداية مجرد مكان للراحة الأبدية لمعلم صوفي، إلا أنه سرعان ما تحول إلى رمز من رموز التاريخ الروحي والسياسي في المنطقة. يضم الضريح القبور التي تتراكم عليها طبقات من الزمن لعائلة "آفاق خوجة" التي حملت الإرث نفسه لعدة أجيال.

ومن هنا، تبدأ أسطورة "شيانغفي" في الظهور. كانت أحد أحفاد "آفاق خوجة" قد ارتبطت بإمبراطور "تشيان لونغ" في قصة تُخلد في الزمان والمكان. كانت تلك الفتاة، التي اشتهرت بعطرها الذي لا يُنسى، قد اختارت طريقًا شائكًا، حين تخلت عن أصولها لتصبح محظية في قصر الإمبراطور. لكن ما لبثت أن تلاشت في ظلال القصر، وسط الأحزان والآلام، حتى ظهرت، بعد وفاتها، في الأساطير كفراشة تحلق في السماء، تحمل في جناحيها العطر الذي سلبت به القلوب.

وكلما مر الزمان، كلما تجددت الأسطورة، وتشبثت بالذاكرة الجمعية للناس. فتجدها اليوم في "معرض شيانغفي" داخل الحديقة، حيث تُعرض أدوات وقطع أثرية تحكي عن حياة هذه الشخصية الغامضة، وكذلك في "جناح العطور" الذي يحمل عبير تلك الأيام البعيدة. أما "سوق كاشغر القديم" فيعج بروائح التوابل، حيث يلتقي المزارعون والتجار المحليون، بينما يعكس "المعرض الثقافي" تاريخًا عريقًا يمتد إلى ما وراء حدود الجغرافيا.

ومع كل زاوية في هذه الحديقة، يبقى السؤال نفسه يتردد: هل ماتت "المحظية العطرة" أم تحولت إلى فراشة؟ أم أنها، في الواقع، هي أسطورة بحد ذاتها، ستظل تحوم في الأفق إلى الأبد، مثل العطر الذي لا يزول؟
✍️: الرحال وائل الدغفق1447هـ

✍️: الرحال وائل الدغفق.1447هـ

السبت، 4 أكتوبر 2025

مسلاخ الذئب في وادي حضرموت بين الأسطورة والذاكرة (مستئذب صيعر) رحال الخبر.

*مسلاخ الذئب في وادي حضرموت: بين الأسطورة والذاكرة* 


✍️: اعداد وتحقيق

د. وائل بن عبدالعزيز الدغفق


مؤرخ  رحّالة الجزيرة العربية – المملكة العربية السعودية

 

مقدمة: 

في قلب الربع الخالي، حيث تتثاءب الرمال وتغفو الأساطير على وهج الشمس، نشأت حكايةٌ هزّت خيال المؤرخين والرحّالة والعلماء معًا: 

حكاية المستئذب الصيعري.

هناك، في أودية حضرموت البعيدة، يُروى أن الإنسان لم يعد يكتفي بجلده، بل لبس مسلاخ الذئب وخرج يركض في القفر بحثًا عن النجاة أو الفناء.

ليست هذه سطور رواية خيالية، بل أثرٌ حقيقي دوّنه المقريزي في القرن التاسع الهجري، وشهد عليه فقهاء ومؤرخون، ثم صوّر وجوه أهله الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر، قبل أن يدوّن عنهم الأنثروبولوجي النمساوي والتر دوشتال في القرن العشرين.


بين الخرزة المنسوبة لقوم عاد، وفتوى السقّاف عن الذئب البشري، تمتدّ هذه الأسطورة مثل ظلٍّ طويلٍ على رمال حضرموت:

هل كان أولئك رجالًا التهمهم الجوع فصاروا ذئابًا؟ أم أن الذئب هو الذي تعلّم من الإنسان كيف يخفي أنيابه؟


الملخص

تتناول هذه الدراسة رواية فلكلورية موثَّقة من حضرموت، تتحدث عن قبيلة الصيعر التي ارتبط اسمها بما يُعرف في التراث الشعبي بـ«مسلاخ الذئب» أو «الاستئذاب»، حيث يُروى أن بعض أفرادها يتحولون إلى ذئاب ضارية بابتلاع خرزةٍ منسوبةٍ إلى قوم عاد.

وتتابع هذه الورقة مسار الحكاية من أقدم مصدرها عند المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في القرن التاسع الهجري، مرورًا برواية ابن جندان في القرن الثامن، وفتوى السقّاف في القرن الرابع عشر، ثم توثيق ويلفريد ثيسيجر المصوّر عام 1947م، وصولًا إلى الدراسة الأنثروبولوجية الميدانية للباحث والتر دوشتال في القرن العشرين، لتبيّن كيف انتقلت الأسطورة من فم الجوع إلى مدوّنة العلم.

 

 تمهيد:

 بين الأسطورة والأنثروبولوجيا

يُعدّ التراث الشعبي الحضرمي أحد أغنى المخازن الأسطورية في الجزيرة العربية، إذ تختلط فيه عناصر البيئة الصحراوية بالعزلة الجغرافية والذاكرة الشفهية المتوارثة. ومن أبرز تلك الأساطير قصة استئذاب الصيعر، التي جمعت بين الرمز والمعاناة، بين الجوع والتحوّل، وبين الإيمان والخرافة.

 

الرواية الأولى: 

المقريزي (ت 845هـ)

يُعدّ المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي أول من دوّن خبر “تحوّل” قبيلة الصيعر في رسالته النادرة «الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة». كتبها سنة 839هـ أثناء مجاورته بمكة، استنادًا إلى روايات حضرمية نقلها عنه “العبد الصالح أبو بريك عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن سالم بن بريك الحضرمي” (من بني سيف الشبوي).

قال المقريزي في نصّه:

«… وبأرضهم نبق كثيرة جدًا… فإذا أجدبت أرضهم لقلة الغيث انقسم الصيعر قسمين: فرقة تخيف السبيل، وفرقة تتقلب ذئابًا ضارية. وذلك أن الواحد منهم عنده خرزة من كنوز ظفروا بها من عهد عاد، فإذا أراد أن ينقلب ذئبًا تثاءب مرارًا… ثم يبتلع الخرزة فينقلب في الحال ذئبًا له وبر وذنب… فإذا أراد الرجوع تمرّغ بالأرض فعاد بشرًا، وتبقى الخرزة… وهذا أمر مشهور عند جميع أهل حضرموت لا ينكره أحد منهم»【1】.

بهذا النصّ، أسّس المقريزي ما يشبه النواة الأنثروبولوجية الأولى لفكرة “التحوّل الحيواني” في التراث العربي، قبل ظهور مصطلح werewolf في الدراسات الغربية بقرون.

 

شهادة ابن جندان (القرن الثامن الهجري)

يورد ابن جندان العلوي الحضرمي في كتابه «مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت» أن سنة 790هـ شهدت مجاعة كبيرة “كان فيها جماعة من الصيعر على سفوح الجبال ينهشون لحوم البشر”【2】.

هذا الوصف، وإن لم يصرّح بـ"الخرزة" أو التحوّل، إلا أنه يربط الظاهرة بالجوع الشديد والانفلات الحيواني، مما يؤكد أن الأسطورة لم تكن خرافةً صافية بل نتاجًا لتجربة بيئية قاسية.


وهنا اتت فتوى السقّاف في (القرن الرابع عشر الهجري)

وبعد قرون من المقريزي وابن جندان، ترد هذه الفتوى النادرة للعلامة المفتي والمؤرخ عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف (توفى 1375هـ) في كتابه «بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد»، جاء فيها:

«سُئلتُ عن رجلٍ من أهل بلادنا يتصوّر بصورة الذئب ويعدو على الغنم، فأفتيتُ بحلّ قتله ما دام على تلك الصورة، ولا سيما في حال اعتدائه. وما كدت أصدّق بذلك حتى كادت تتواتر الأخبار عن مشاهدته»【3】.


الفتوى تُبرز تعامل الفقيه مع الحكاية كواقعة حسّية ذات أثر فقهي، لا كخرافةٍ أو حكايةٍ للتندر.

وهي من أقوى الشواهد على أن الفولكلور المحلي تسلل إلى بنية الفقه الاجتماعي، ليصبح الحدّ بين الخيال والحقيقة غائمًا في الوعي الجمعي.

 

الشاهد البصري: 

ويلفريد ثيسيجر (1947م)

في منتصف القرن العشرين، زار الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر (Wilfred Thesiger) وادي حضرموت، ووثّق بعدسته صورًا لقبيلة الصيعر عام 1947م في مناطق "منوخ وبئر تامس".

تظهر صوره المحفوظة في Pitt Rivers Museum – Oxford رجال الصيعر بملامحهم البدوية الصلبة، ونساءً يملأن القِرب من الآبار【4】.

لم يذكر ثيسيجر حادثة “التحوّل” صراحة، لكنه سجّل القبيلة نفسها التي تناقلتها الأسطورة، مضيفًا بذلك بعدًا بصريًا للذاكرة الفلكلورية.

 

وهنا الدراسة الأنثروبولوجية الأكثر حداثة: 

لوالتر دوشتال(1960–1995م)

ففي ستينيات القرن العشرين، أجرى الباحث النمساوي Walter Dostal دراسة ميدانية شاملة عن قبائل شمال شرق اليمن، منها الصيعر، ركّزت على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقبيلة【5】.

ورغم أن دراسته لم تذكر الاستئذاب نصًا، إلا أن الباحث أشار إلى وجود تصورات أسطورية عن التحوّل الحيواني في المرويات الشفوية للبدو، مما يؤكد بقاء الظاهرة كموروثٍ رمزيٍّ حيّ.

 

وهنا استقصاء لما وراء الأسطورة: 

ودلالات الاستئذاب في الوعي الجمعي العربي. 


هناك تقاطع لحالة “مسلاخ الذئب” وهو مايطلق عليه غربيا في اساطيرهم "المستئذب" وهو تحول رجال لذئاب في حالات خاصة. 

اما عربيا فهناك رموزٍ فولكلورية مشابهة في عالمنا العربي منها :

• السعلوة في العراق والجزيرة؛

• القطرب في الحجاز؛

• البودا (الإنسان-الضبع) في السودان والقرن الإفريقي. 


وجميعها تشير إلى تحوّل الإنسان تحت وطأة الجوع أو اللعنة أو السحر.


في ضوء ذلك، يمكن قراءة “خرزة عاد” بوصفها رمزًا لقوةٍ كامنة في الإنسان تُخرجه من إنسانيته حين تشتدّ الحاجة أو الفناء ، وفي جلب عاد لسياق القصة كون قصة عاد من القصص الشهيرة وذات دلالة اسطورية يصعب نكرانها مع صعوبة اثباتها كون عاد بكبر قصتها وقوتها واساطيرها غير موجودة ، فتنسب كل مجهول لمجهول لتتراكم الاسطورة بعضها فوق بعض .

فالذئب هنا ليس حيوانًا فقط، بل استعارةٌ عن التحوّل النفسي والوجودي في مواجهة القفر والمجاعة.

ومن بين الحيوانات المعروفة تظل اسطورة الذئب وخباياه والأساطير التي تروى عنه وعلاقته بالجن وما الى ذلك حاضرة في مسلاخ الذئب في قصتنا… 


 

واذا اردنا ان نستبدل البحث التاريخي والموثق برواية فلكلورية لمسلاخ الذئب في وادي حضرموت فسيكون لها معنى واسطورة ممكن فهمها خلال الرواية لا البحث والاستدلال.. 


ولتكن البداية من نثر غبار القفر ومن صرخة التحوّل في حال الفقر ، لتبدأ الحكاية… 


ففي الليالي التي كان القمر فيها كقرص نحاسيّ يطفو على رمال حضرموت، وحين كانت المجاعة تلسع الأرض وييبس النبق في سدر وادي الصيعر.

هناك، بين هضاب “جارول” ورمال “الربع الخالي”، يُروى أن رجالًا من الصيعر إذا اشتدّ بهم الجوع، ولاذت السماء بالصمت، تحوّل بعضهم إلى ذئاب ضارية؛ فيلتهمون الغنم والبشر على السواء.

وقد أمدّنا المؤرخ المصري تقيّ الدين المقريزي(ت 845هـ) حيث دوّن ما سمعه من “ثقاتٍ من أهل حضرموت” أثناء مقامه بمكة سنة 839هـ.. 

ففي رسالته النادرة «الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة».


قال عن قبيلة الصيعر شيئا عجيبا حيث قال:

«… فإذا أجدبت أرضهم لقلة الغيث، يبس شجر النبق، وانقسموا قسمين: فرقة تخيف السبيل "قطّاع طرق"، وفرقة تتقلب ذئابًا ضارية "المستئذبون"، يبتلع الواحد خرزةً من كنوزٍ قديمةٍ من عهد عاد، فينقلب في الحال ذئبًا ذا وبرٍ وذنب، فإذا أراد الرجوع تمرّغ بالأرض فعاد بشرًا، وتبقى الخرزة…».

وأنهى المقريزي سرده بقوله:

«وهذا أمرٌ مشهورٌ عند أهل حضرموت لا ينكره أحدٌ منهم».

هكذا سجّل أول “شاهد حضرمي-منقول” لفكرة مسلاخ الذئب، ودوّنها في وثيقة علمية لا في أسطورةٍ شفهية.

وما حال المجاعة الكبرى عام (790هـ) وشهادة ابن جندان العلوي الحضرمي بعد نصف قرنٍ من المقريزي، في كتابه «مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت» أن سنة 790هـ شهدت مجاعةً عظيمة:

«وكان جماعة من الصيعر على سفوح الجبال ينهشون لحوم البشر».

قد لا يذكر “خرزة عاد”، لكنه يربط الجوع بالعنف الحيواني، وكأن أسطورة المقريزي وجدت شاهدها الواقعي في زمن المجاعة.


وفي خضم النقاش والتاويل وفنش الرواية تأتي فتوى السقّاف

بعد ستة قرون وفي الوقت الحاضر، حيث عاد الصدى في فتوى الفقيه عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف (ت 1375هـ) في كتابه «بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد»، ص 460 بقوله :

«سُئلتُ عن رجلٍ من بلادنا يتصوّر بصورة الذئب ويعدو على الغنم، فأفتيتُ بحلّ قتله ما دام على تلك الصورة، ولا سيما في حال اعتدائه… حتى كادت تتواتر الأخبار عن مشاهدته».

تلك الفتوى المدهشة أعادت للموروث القديم حياةً فقهية، إذ تعامل السقّاف مع التحوّل كـ”واقعة حسّية” تستوجب حكمًا شرعيًا، لا كخرافة.


وفي مشهد أخير عام 1947م

وبعد الحرب العالمية الثانية، عبر الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر وادي حضرموت وعدّسته ترصد وجوه الصيعر في بئر منوخ وبئر طامس وريضة صيعر .

وتُظهر صوره المنشورة في Pitt Rivers Museum – Oxford رجالًا أشدّاء بملامحٍ صارمةٍ كأنها استبقت في ملامحها ظلال الحكاية القديمة؛ لم يرَ ثيسيجر “ذئبًا”، لكنه وثّق القبيلة ذاتها التي حملت الأسطورة قرونًا.

والدراسة الحديثة للباحث النمساوي والتر دوشتال (1960 – 1995م)

في ستينيات القرن العشرين، حيثأجرى Walter Dostal دراسةً ميدانية عن قبائل اليمن، شملت الصيعر، بعنوان «Sozio-ökonomische Aspekte der Stammesdemokratie in Nordost-Yemen» وغيرها، ثم أضاف ملاحظات حتى 1995م.

تناول مساكنهم ونظامهم الاجتماعي وتأثير الحداثة، ولم يؤكد روايات “التحوّل”، لكنه سجّل أن “الأسطورة عن رجلٍ يتلبّس شكل الذئب لا تزال حيّة في الذاكرة الشفوية للصيعر والبدو المجاورين”.

فكانت دراسته صكّ توثيقٍ إثنوغرافي لما تبقّى من صدى الأسطورة.

ولكي نفهم الجذور الفولكلورية لأساس قصتنا. 

من فكرة التحوّل إلى حيوان وكونها ليست حصرًا على حضرموت بل تعدّت للعالم العربي والغربي :

ففي الجزيرة العربية عُرف القُطرُب أو السَّعلوة، ذلك الكائن الذي يتبدّل ليلًا بين إنسانٍ ووحش.

وفي السودان والقرن الإفريقي ووحش “البودا” المتحول ببن (الرجل-الضبع).

وفي العراق خرافة “السعلوة” التي تأكل المسافرين.

كل تلك الحالات والخرافات تؤكد أن الخوف من الجوع والعزلة والقفر والفقر يولّد في خيال الشعوب كائنًا يتقمّص الوحش ليبقى حيًا.


وفي الختام بين الأسطورة والذاكرة، وبين خرزة عاد واستئذاب الصيعر، وما بين خرزة المقريزي ومجاعة ابن جندان وفتوى السقّاف وعدسة ثيسيجر ودراسة دوشتال—تُرسم ملحمة حضرمية نادرة:

أسطورةٌ بدأت من فم الجوع، وخرافة خرزة قوم عاد لتتحوّل إلى فتوى، ثم إلى ذاكرةٍ مصوّرة، ثم إلى مادةٍ إثنوغرافية، وأخيرًا إلى أيقونة من أساطير حضرموت.

وفي كل مرةٍ يُروى فيها عن “مسلاخ الذئب”، يختلط الصدق بالعجب، ويبقى السؤال معلّقًا فوق وادي حضرموت:

هل كان الصيعر ذئابًا بالفعل؟ أم أن الذئب كان رمزًا للجوع، والخرزة استعارة عن تحوّل الإنسان حين تضيق به الحياة؟

ولعلّ السرّ يكمن في “خرزة عاد”، فإذا اكتُشف موضعها يومًا، اكتملت الرواية.

 

المراجع

1. تقيّ الدين المقريزي، الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة، تحقيق طارق بن محمد العمودي، صـ 23–26.

2. ابن جندان العلوي الحضرمي، مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت، جـ1، صـ 71.

3. عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف، بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد، صـ 460.

4. Wilfred Thesiger, Arabian Sands, and photographic archive, Pitt Rivers Museum (Oxford), “Sa’ar tribe at Minwakh, Hadramawt, 1947.”

5. Walter Dostal, Sozio-ökonomische Aspekte der Stammesdemokratie in Nordost-Yemen, Sociologus, Vol. 24, No.1 (1974); and subsequent notes (1995), Vienna Academy of Sciences.

 

د. وائل بن عبد العزيز الدغفق  1447هـ

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

اول زيارة للهند 1980 وزيارة بعد40 عام لرحال الخبر ..My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

الرحلة الأولى إلى الهند (1400هـ / 1980م) 

My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

رواية من فصول الذاكرة

المقدمة:

من الثانوية إلى المطار

كنتُ حينها طالبًا في المرحلة الثانوية، أبحث عن معنى للحياة خارج أسوار المدرسة. كان الصيف فرصة ذهبية، فالتحقت ببرنامج عمل للطلبة لاكتساب الخبرات، وكان الراتب مجزيًا بمعايير ذلك الزمن. شيئًا فشيئًا، تجمّع في يدي مبلغ طيب بلغ نحو 2000 ريال، وهو ما اعتبرته ثروة صغيرة تمنحني جناحين لأحلّق بهما.

عندها بدأ الحلم يتشكّل: أن أستقل الطائرة وحيدًا، وأن أعتمد على نفسي، وأختبر قدرتي على مواجهة المجهول.

اختيار الوجهة: وكانت الهند.

وحددت خط الانطلاق: 

ومن مطار الظهران الدولي، ذلك المطار العريق الذي كان آنذاك في أوج شهرته، بوابة الشرق الأوسط إلى العالم، قبل أن يتوقف عمله لاحقًا ويُستبدل بمطار الملك فهد بالدمام.

وحين جلست على مقعدي في طائرة Air India، شعرت لأول مرة أنني لم أعد مجرد طالب ثانوي، بل مسافر على أعتاب حياة جديدة.


الفصل الأول. 

بومباي… مسرح المغامرة الأولى

هبطت الطائرة في بومباي، فوجدت نفسي في مدينة تضج بالحياة والفوضى معًا. هناك بدأت المغامرة الكبرى لاكتشاف ذاتي. ارتديت اللباس الأبيض الهندي، واندمجت بين الناس كأنني واحدٌ منهم. سكنت فنادقهم الشعبية في أزقة ضيقة، واستأجرت دراجة هوائية، أجوب بها شوارع المدينة المزدحمة بحرية دون أن يلحظني أحد.

قضيت أسبوعًا كاملًا في هذه التجربة، أعيش بينهم بلا وسطاء، أتناول طعامهم، أرى حياتهم اليومية عن قرب. رأيت مشاهد ستبقى محفورة في ذاكرتي: أطفال يخرجون من أنبوب معدني مخصّص للمجاري، ثم يرتدون زيّ المدرسة الأزرق والأبيض ويذهبون بابتسامة بريئة. مزيج من الفقر والعزيمة، من البؤس والكرامة.

في بومباي تعلمت أن المغامرة الحقيقية ليست في رؤية الأماكن، بل في الانغماس بالحياة كما يعيشها أهلها. وهناك أيقنت أنني اجتزت الاختبار الأول للاعتماد على النفس، وأن هذه ليست سوى بداية الطريق.

اول صورة لي في بومبي1980

الصورة الثانية بعد مرور 40 عام على الاولى كانت في عام2020

التقطت في هذا الشارع في بومبي


الفصل الثاني:

 اللقاء في دلهي

بعد أسبوع من مغامرتي في بومباي، جاءني خبر أن والدي قد وصل إلى دلهي لإنهاء أعماله الخاصة بالمصانع وجلب المعدات والعمال. حملت حقيبتي، وتركت وراء ظهري أزقة بومباي الصاخبة، وانطلقت لألتحق به.

في دلهي كان اللقاء. أخبرته عن مغامرتي الأولى، وكيف نجحت في أن أعيش وحدي بينهم دون أن ينكشف أمري. ابتسم الوالد، وربما شعر بالارتياح أن ابنه بات يملك الجرأة والقدرة على مواجهة الحياة. 



الفصل الثالث:

 دلهي… بين التاريخ والمآذن

انطلقت مع والدي أستكشف وجهًا آخر للهند. دخلنا القلعة الحمراء، حصن المغول، حيث كان السلطان "أكبر" يبسط سلطانه على الهند والسند. وبين جدرانها شعرت أنني أسمع همس التاريخ وصليل السيوف.

ثم زرنا المسجد الجامع (المغولي الأحمر)، المهيب بمآذنه الشامخة وساحاته الواسعة. هناك ازداد يقيني بعظمة البصمة الإسلامية في أرض الهند، وكيف أنها لم تكن عابرة، بل جزء أصيل من حضارتها.

مع الوالد في زيارة لتاج محل في اكرا

الفصل الرابع: أغرا… مرثية من الرخام الأبيض

ومن دلهي ارتحلنا إلى أغرا، حيث وقفت وجهاً لوجه أمام أعجوبة الدنيا: تاج محل. كان المشهد أكبر من الكلمات، مبنى أبيض من المرمر يضيء كالحلم، مرثية خالدة للحب. تجولت بين حدائقه وقبابه، والدهشة لا تفارقني.

إلى جواره وقفنا عند القلعة التي بناها السلطان "أكبر"، رمز القوة والسيطرة. في تلك اللحظة أدركت كيف تجتمع في الهند كل المتناقضات: الحب والحرب، الرخاء والفقر، العظمة والبساطة. 


الختام:

 انطلاقة نحو العالم

هكذا كانت رحلتي الأولى: بدأت وحيدًا في بومباي لاختبار نفسي، ثم التقيت والدي في دلهي، وأكملنا سويًا جولة في أغرا حيث تاج محل الخالد.
كانت تجربة صغيرة في ظاهرها، لكنها شكلت بدايتي الحقيقية. لقد علمتني أن السفر ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو انطلاقة نحو الذات أولًا، ثم نحو العالم. ومن هناك بدأت رحلتي الطويلة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، والحمد لله على التيسير.

وائل بن عبدالعزيز الدغفق1980 1400هـ
_________________________________
وهنا الرحلة بعد ترجمتها باللغة الانجليزية

My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

A Tale from the Early Days of Rahhal al-Khobar

Prologue: From Schoolboy to Traveler

At the time, I was still a high school student, restless and curious about life beyond the classroom walls. During the summer, I joined a student work program designed to build character and provide practical experience. The pay was generous for those days, and by the end of the season, I had managed to save around 2,000 Saudi riyals — a small fortune in my young eyes, yet enough to give me wings.

The dream quickly took shape: to buy a ticket, board a plane alone, and rely entirely on myself in a foreign land.

The departure point was Dhahran International Airport, the legendary hub of the Eastern Province and one of the busiest airports in the Middle East before it was later replaced by King Fahd International. My ticket was with Air India, and as I fastened my seatbelt, I felt a surge of anticipation. This was no ordinary trip; it was my initiation into the world of independence and discovery.


---

Chapter One: Bombay — A Stage for the Self

When the aircraft descended over Bombay (now Mumbai), I stepped into a city brimming with chaos and vitality. It was here that my true adventure began — a test of courage, self-reliance, and the art of blending in.

I donned the simple white attire of the locals, checked into modest lodgings tucked away in narrow alleys, and rented a humble bicycle. With this disguise, I roamed the city freely, moving unseen through crowded markets and teeming streets.

I lived for a week among the people of Bombay — eating their food, watching their daily struggles, listening to their laughter and quarrels. Some images etched themselves forever into my memory: children crawling out of a sewer pipe in the morning, only to emerge freshly dressed in crisp blue-and-white school uniforms; a family living in despair, yet holding on to dignity; the endless rattle of buses, rickshaws, ox-drawn carts, horse carriages, even elephants pulling wagons. A river of humanity, all flowing in directions that seemed chaotic yet strangely harmonious.

That week in Bombay was more than survival; it was an awakening. I realized that the essence of travel lies not in monuments or photographs, but in immersing oneself in the rhythm of ordinary lives.


---

Chapter Two: Reunion in Delhi

After seven days of anonymity in Bombay, news reached me that my father had arrived in Delhi to oversee factory arrangements and the import of machinery and workers. I gathered my few belongings, left the bustle of Bombay behind, and made my way north.

There, in Delhi, I rejoined him. With excitement, I recounted my hidden adventure, how I had lived unnoticed among strangers. He listened with quiet pride, perhaps relieved to see that his son had the courage to carve his own path.


---

Chapter Three: Delhi — Where History Whispers

With my father beside me, I discovered another face of India: its imperial grandeur. We walked through the towering gates of the Red Fort, once the seat of the mighty Mughal emperor Akbar. The fortress walls seemed to murmur tales of power, conquest, and splendour.

Not far away, we stood in awe at the Jama Masjid, one of the largest mosques in India, with minarets piercing the Delhi sky. In its vast courtyard, I felt the weight of history — of Islam’s enduring imprint on this land.


---

Chapter Four: Agra — A Love Carved in Marble

From Delhi, our journey took us further to Agra, and there I encountered one of the world’s wonders: the Taj Mahal. No words could capture the majesty of that white marble mausoleum, gleaming like a dream against the sky. It was not merely architecture, but a poem in stone — a love story immortalized in symmetry and silence.

Beside it stood the massive fort built by Emperor Akbar, a reminder that India has always been a land where beauty and might, romance and empire, lived side by side.


---

Epilogue: A Beginning, Not an End

And so ended my first voyage to India: beginning alone in the labyrinth of Bombay, continuing in Delhi with my father, and culminating in Agra before the timeless Taj.

What began as the adventure of a high school boy with 2,000 riyals became the foundation of a lifelong journey. That trip taught me that travel is more than movement across maps; it is an inward discovery, a dialogue with the self, and an endless invitation to the world.

From that summer of 1980, my life as a traveler truly began. And for that, I remain forever grateful.

الجمعة، 5 سبتمبر 2025

منغوليا تنين هائج دمر العالم ،روَّضَهُ الاسلام .الرحال وائل الدغفق

دوَّنَ الفِكْرَة بِحَبْس اللَّقْطَة وأَخْذِ اللَّحْظَة الرحال وائل الدغفق 


مدخل إلى أرض التناقضات

منغوليا، تلك الرقعة المترامية بين سيبيريا الروسية وصحراء جوبي الممتدة نحو الصين، تبدو للزائر كأنها حلقة وصل بين عالمين: الترك في الغرب والوسط، والصين في الشرق. إنها أرض الخيول الجامحة، والسهوب التي لا تنتهي، والتاريخ الذي يتقاطع فيه صليل السيوف مع تراتيل الدعاء. هنا وُلد جنكيز خان الذي غيّر وجه العالم ، وهنا أيضاً دخل الإسلام ليبقى شاهداً على تمازج الأرواح وبث السلام رغم قسوة الطبيعة.




منغوليا… بين صليل السيوف وضبحُ العاديات. 


لمّا أرحل بخيالي إلى سهوب منغوليا، أسمع صهيل الخيول قبل أن تلمح عيني المدى. تلك الأرض التي خرج منها جنكيز خان عام 1206م، موحِّد القبائل ونافخ روح التوسّع، لتندفع جحافل المغول كسيل جارف يعبر آسيا ويكسر أسوار أوروبا الشرقية بين 1237 و1241م. كان صليل سيوفهم كالرعد، ووقع حوافر خيلهم كالطوفان، حتى خشي الغرب أن ينطفئ نور حضارته عند حدود فيينا.

لكن الريح لم تكتفِ بأوروبا. ففي عام 1258م، دوّى السقوط المدوّي لبغداد، عاصمة الإسلام وعروس دجلة. غشي السواد قلوب المسلمين يوم دخل هولاكو خان، فسقطت الخلافة العباسية، وكأن الإسلام خسر قلبه في لحظة من قسوة الحديد. 

غير أن عجلة التاريخ لا تسير على وتيرة واحدة؛ فما يدمّره السيف قد تعيده الروح.

فما أن أطلّ القرن الرابع عشر حتى تبدّل المشهد. 

جاء غازان خان حفيد هولاكو، ليعلن إسلامه عام 1295م، ومعه بدأ التحول العظيم: 

من أعداءٍ للإسلام إلى أنصارٍ له. دخلت القبائل المغولية في الإسلام كما يدخل النهر في البحر، وامتزجت ثقافة البدو الرحّل بآيات القرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ليصبحوا بعد زمنٍ قصيرٍ حماة للعقيدة في فارس والهند وما وراء النهر.


وعلى دروب آسيا الوسطى، التقت الدماء المغولية بالروح التركية. فالترك والمغول أخوة في السهل والبادية، يتشابهون في الخيمة والخيل، في الغزو والرحيل وفي البأس والقوة.

كما قال صلى الله عليه وسلم فيهم وبخطرهم:  " دعو الحبشة ماودعوكم واتركو الترك ماتركوكم.. " 


ومن هذا التمازج خرجت أمم جديدة، منها التتار والكازاخ، حتى أن سلاطين بني عثمان تباهوا أحياناً بالانتساب إلى نسب جنكيز، وكأن القوة لا تكتمل إلا بذكراه.

أما الروس، فقد ذاقوا مرارة "القبيلة الذهبية" لقرون منذ القرن الثالث عشر، يدفعون الجزية ويخشون السياط، حتى إذا انقلب الزمن، نهضت روسيا وصارت قوة توسّعت شمالاً وشرقاً، واستوعبت في سيبيريا بقايا القبائل المغولية. ومنذ القرن السابع عشر، صارت منغوليا ميدان صراع بين الدب الروسي والتنين الصيني.

أما الصين، فقد جرّبت الحكم المباشر تحت راية أسرة يوان التي أسسها قوبلاي خان عام 1271م، ثم لفظتهم بعد سقوطها سنة 1368م، لكنها أبقت يدها ممدودة على منغوليا، تعتبرها حديقة خلفية لا يجوز أن تفلت. وفي عام 1911م، حين انهارت سلالة "تشينغ"، رفعت منغوليا رأسها تعلن استقلالها، لكن القدر ألقى بها سريعاً في حضن الروس.

جاء القرن العشرون، وجاءت الشيوعية عام 1921م، فأغلقت المدارس والمساجد، وقُمعت الهوية الإسلامية حتى كادت أن تختفي. لكن روح الكازاخ في غرب البلاد بقيت على العهد، يؤذّنون في قمم الجبال، يصلّون ويصومون وكأنهم يثبتون أن الإسلام شجرة لا تذبل مهما حاولت الرياح اقتلاعها.


ومع 1991م، انهار الاتحاد السوفيتي، واستقلّت منغوليا لتعود إلى مسرح العالم. صارت اليوم بين الصين وروسيا تتأرجح، تبحث عن ذاتها، تبيع الفحم لآسيا وتستورد الكهرباء من جيرانها. أما علاقتها بالعالم الإسلامي فهي علاقة ذكرى وأمل، إذ لا تزال الأقلية المسلمة هناك مرآة تذكّر بتاريخٍ طويل بدأ بالدم، وانتهى بالدعاء.



تأمل بين حراب المغول ومآذن السلام. 

أقف اليوم على تلال جوبي، أتأمل كيف تحوّل السيف الذي خرّب بغداد إلى مصحف يُقرأ في بيوت الكازاخ. وكيف غزا المغول أوروبا والشرق، ثم غزا الإسلام قلوبهم فأعاد صياغة مسارهم. منغوليا اليوم ليست إمبراطورية، بل أرض تبحث عن مكانها بين القوى الكبرى، لكنها تظل شاهدة على دورة التاريخ ، من الطوفان إلى الهدوء، ومن الخراب إلى الإيمان.




الإسلام في منغوليا: تاريخ مكتوم وصمود نادر

دخل الإسلام إلى منغوليا مع القرن الثالث عشر، حين امتدت أجنحة الإمبراطورية المغولية نحو بلاد ما وراء النهر. حمل الجنود والتجار المسلمون معهم المصاحف واللغة العربية، وتسرّبت الدعوة بين القبائل الرحّل. وفي عهد بعض أحفاد جنكيز خان، خصوصاً في القرن الرابع عشر، اعتنق عدد من أمراء المغول الإسلام متأثرين بجيرانهم من الأتراك المسلمين في آسيا الوسطى.

ورغم أن البوذية أصبحت الديانة الغالبة في منغوليا منذ القرن السادس عشر، ظلّت هناك جيوب إسلامية، أبرزها مجتمع الكازاخ المسلمين في غرب البلاد بمنطقة "بايان-أولجي"، الذين حافظوا على صلواتهم وصيامهم وعاداتهم في الزواج والضيافة، وظل الأذان يرتفع بين الجبال البعيدة وكأنه تحدٍّ للزمن.


بين الترك والصين: هوية تتأرجح

يجد الرحّالة أن منغوليا تتأرجح بين هويتين:

  • من الغرب، جاءت التأثيرات التركية: اللباس الفروّي، أدوات الصيد، والعزف على آلة "الدومبرا" التي نجدها أيضاً عند الكازاخ والقرغيز.
  • من الشرق، تسللت المؤثرات الصينية: العمارة الخشبية المزخرفة، الطقوس البوذية، وأنماط الأكل من الحساء والنودلز.

هذا التمازج جعل المجتمع المنغولي أشبه بمرآة كبرى تعكس الشرق والغرب معاً، دون أن يذوب في أحدهما.


أغرب العادات المنغولية

عبادة واحترام النار

ما زال بعض الرحّل يشعلون النار وسط خيمتهم "الجير"، ويعتبرونها روح البيت، فلا يجوز البصق فيها ولا إطفاؤها بالماء.

شاي الحليب بالملح:

 يُقدَّم للضيف أول ما يدخل البيت، وهو مزيج من الشاي الأسود والحليب والملح والزبدة، على خلاف مألوفنا العربي حيث السكر هو القرين للشاي وانوقع أن ارتفاع المنطقة وقلشة الضغط يحتاج لأملاح لرفعه ووجدت تلك العادة في كشمير والتبت أيضا.

طقس "نادام"

مهرجان سنوي يجمع ثلاثة فنون: المصارعة، سباق الخيل، ورمي السهام. ويُعتبر استعراضاً لفروسية المغول التي غزت العالم قديماً.

الضيافة باللحم

لا مكان للخضار في مائدة البدو المغول، فالمائدة أساسها لحم الضأن أو الخيل، يُطهى في قدر حجري ساخن يُدعى "خورخوق".



ومظات منغولية


حبس اللقطة بذكر الفكرة لتدوين اللحظة لتاريخ الخيل والريح.. 

أحسست وأنا أطوي صفحات التاريخ عن منغوليا أنني لا أقرأ بل أسمع وقع حوافر الخيل وصليل السيوف. هنا، عام 1206م، ظهر جنكيز خان موحِّداً القبائل، وأطلق فكرة توسعية كالنار في الهشيم، اجتاحت آسيا وأوروبا الشرقية حتى وصلت أبواب فيينا عام 1241م. ثم التفتت الريح نحو بغداد، فسقطت الخلافة العباسية عام 1258م، وارتجف قلب الإسلام أمام زحف المغول.

لكن التاريخ يحب المفاجآت؛ فما كان بالأمس طوفاناً مدمراً، أصبح اليوم نبعاً يتدفق بالإيمان. ففي 1295م، أسلم غازان خان، لتتحول إمبراطورية الرعب إلى جزء من الحضارة الإسلامية. ومنذ ذلك الحين، ارتبط المغول بالترك تارة، وبالصين والروس تارة أخرى، حتى وصلوا إلى حاضر يتأرجح بين القوى الكبرى.


على أرض السهوب

دخلت منغوليا لا كزائر عابر، بل كرحّال يفتش عن الأرواح في وجوه الناس. السهوب منبسطة كالبحر بلا ماء، خضراء في الصيف، متجمدة في الشتاء. والريح هناك لا تهدأ، تحمل معها صهيل الخيل ورائحة الدخان الخارج من خيمة بدوية بيضاء تُدعى "الجير".


الخيمة ليست جدراناً من قماش فحسب؛ إنها قلب الحياة. في وسطها نار مشتعلة، كأنها روح البيت، لا يطفئونها بالماء ولا يرمون فيها شيئاً دنساً. على بساطها يجلس الضيف كأنه فرد من العائلة، ويُقدَّم له أول ما يُقدَّم كوب من شاي بالحليب والملح. تذوقته، فشعرت أن الغرابة في الطعم ليست إلا جسراً للقبول؛ فأنت تقبل الضيافة لا لتشرب، بل لتكون واحداً منهم.


طقوس وقوة كامنة

في مهرجان نادام الصيفي، يتجلى سر الأمة. الصغار يتسابقون على الخيل لمسافات تعجز عنها سياراتنا، الرجال يتصارعون على الرمال في مصارعة بدائية، والرماة يطلقون سهامهم كأنهم يعيدون أمجاد جنكيز. لم يكن الأمر مجرد احتفال، بل كان درساً: أن الهوية البدوية لا تموت، ولو غزاها الزمن والحداثة.

أما المائدة، فهي عامرة باللحم: ضأن أو حصان، مطهوّ في قدر حجري يسمونه "خورخوق". وعندما تُقدَّم لك قطعة اللحم مع الابتسامة، تفهم أن الكرم هنا لا يُقاس بما تملك، بل بما تستطيع أن تقتسمه مع الغريب.




تمازج الجوار

المنغولي يشبه الترك في حبه للخيل والموسيقى البدوية، ويشبه الصيني في بعض ملامح وجهه وأطباقه، ويحمل في قلبه أثراً روسياً من الحقبة السوفييتية. لكنه مع ذلك يحتفظ بروحه الخاصة: روح البدو الذين لا يأنسون إلا في السهوب، ولا يعرفون إلا التنقل، كأن الأرض كلها مجرد ممر طويل.


الرحلة المنغولية.. 

وأنا أغادر منغوليا، شعرت أنني خرجت من كتاب حيّ. بلد بدأ فكرة مدمرة ثم صار شاهداً على الإيمان، أرض لم تنسَ خيامها وخيولها رغم زحف الدبابات والعمارات. منغوليا اليوم درس في صمود الهوية، أن تعيش بين الدب الروسي والتنين الصيني، محتفظاً بكوب من الشاي المالح وخيمتك البيضاء "الجير"، وأن تبقى مستعداً لاستقبال الضيف بابتسامة صافية، مهما كانت الرياح تعصف بالخارج. 

سياحة الرحّالة في منغوليا

للسائح الباحث عن الأصالة، لابد أن يعلم أن منغوليا ليست وجهة فاخرة بل تجربة خام:

  • في العاصمة "أولان باتور" يجد المرء خليطاً من العمارة السوفييتية والمعابد البوذية.
  • في السهوب اللامتناهية ، يلتقي ببدو يفتحون له أبواب "الجير" (الخيمة البيضاء) بلا موعد، ويقدّمون له شاي الحليب وكأنهم يعرفونه منذ زمن.
  • في صحراء جوبي، يلامس الدروب التي سلكها التجار على طريق الحرير، حيث كانت القوافل تحمل الحرير إلى العرب والغرب وتعود بالتوابل والشاي.

نشاطات كل شهر في منغوليا

بداية فإن الطقس في منغوليا متغيّر جدا.. 

فبين متوسط ​​درجة الحرارة بالصيف من (21°) درجة مئوية، الى الشتاء ونزوله إلى ما دون الصفر ، حيث يصل المتوسط إلى (- 20°) درجة مئوية تحت الصفر، بينما يتراوح متوسط ​​هطول الأمطار بين 200 إلى 220 ملم.

والفعاليات السنوية كالتالي: 

شهر يوليو، هو أفضل وقت لمشاهدة مهرجان نادام منغوليا.

يونيو إلى سبتمبر، هي أفضلموسم لجولة في صحراء غوبي. ويمكن أيضًا القيام بذلك في أكتوبر.

يوليو إلى أغسطس، هو أفضل موسم للسفر إلى شمال منغوليا وجولة في بحيرة خوفسغول، ويمكن ذلك في سبتمبر أيضًا.

أول أكتوبر، هو فرصة لمشاهدة مهرجان النسر الذهبي في ألتاي ، منغوليا الغربية.

شهر فبراير، هو أفضل وقت لتجربة موسم الشتاء في منغوليا.

أجمل المواقع الطبيعية للظواهر البيئية بمنغوليا

وتعتبر حديقة آلتاي تافان بوغد الوطنية من أهم المواقع السياحية التي ستثيرك بجمال الطبيعة والثقافة المنغولية، كما أنها موطن لأعلى الجبال وأكبر الأنهار الجليدية في منغوليا، وكذلك لصيادي النسر الكازاخي.

يُعد وادي البدو المقدس ويسمى نهر توول بدوره مكانًا يضم الجمال الطبيعي والعمق الثقافي، وهو واحد من أطول الأنهار في البلاد، يتدفق من سلسلة جبال خنتيي، ويدعى بالواد المقدس منذ قرون من قبل البدو لأنهم يحترمون الطبيعة وخاصة الأنهار والمياه السطحية.

وللتمتع بأجواء النهر لا يوجد أفضل من قاعدة مخيم جنكيز السياحي، والتي تتواجد على الحافة الشرقية لحديقة غورخي/تيريلج الوطنية والتي تقع على ضفة نهر "تول".

محمية غون-غالوت هي الوجهة السياحية البيئية الأكثر روعةً في منغوليا، وهناك أماكن أخرى أيضًا مثل حديقة غورخي-تيريلج الوطنية التي تقع على بعد 70 كيلومترا إلى الشرق من مدينة أولان باتور العاصمة.

ومن الأماكن الطبيعية أيضا بحيرة أوفس نور، والتي تقع بمقاطعة أوفس وهي أكبر بحيرة في منغوليا ومن أهم مواقع التراث العالمي الطبيعية المصنفة من طرف اليونيسكو.

حديقة خوستان نوروو الوطنية (أو حديقة هوستاي) هي موطن لخيول التاخي البرية والمعروفة باسم حصان برزوالسكي، وهي من الخيول النادرة المهددة بالانقراض، وهي خيول برية حقيقية لا يمكن ترويضها.

هناك أيضًا بحيرة كوفسجول الشاسعة والكبيرة جدا، منطق وادي دارحاد التي تعد الموطن الرئيسي لشعب الرنة، حديقة غوبي غورفان صايخان الوطنية، تالكثبان الرملية في خونغور، وادي يول كانيون العميق، المنحدرات الحمراء الملتهبة في بايانزاغ، وغيرها من المواقع الجميلة التي تستحق الزيارة. 


منظور أنثروبولوجي

المنغول قوم عاشوا على التنقل، فبقيت هويتهم لصيقة بالخيول أكثر من المدن. لم يبنوا حضارة حجرية ضخمة، لكنهم بنوا إمبراطورية على ظهور الخيل. هذه البداوة الدائمة جعلتهم أقرب إلى الترك في روحهم القتالية، وأقرب إلى الصين في قابليتهم لامتصاص العادات والطقوس. الإسلام هنا ليس ديانة الأغلبية، لكنه بقاء الأقلية الصامدة، يذكّر أن العقيدة أحياناً تُختبر بالمسافات والعزلة أكثر مما تُختبر بالمدن والجموع.

رحلتي: 

حينما دخلت منغوليا كانت بوابة السهوب المنشورية هي من دعتني أليها ، إنها تلك البحار الخضراء التي لا يحدها جدار ولا ينتهي لها أفق. هناك أدركت أن البدوي المنغولي لا يختلف كثيراً عن البدوي العربي: كلاهما يأنس بالخيل، ويحتفظ بخيمة بيضاء كقلبه، ويعتبر الضيف رزقاً يباركه الله. في وسط خيمة الجير تسكن العائلة بدفء حول الشعلة أوسطها ، قدموا لي شاي الحليب بالملح، وتذوقته كما يتذوق الرحّال معنى الغربة، مزيجاً من الغرابة والقبول.

ثم اتجهت لصحراء جوبي

اتجهت لصحراء لا تعرف الرحمة. الرمال هنا ليست ذهبية كالربع الخالي، بل رمادية متقلبة، تتحول إلى ثلوج في الشتاء. مررت على قوافل صغيرة من الجِمال، ذكرتني بطريق الحرير الذي كان يصل الصين ببلاد العرب. شعرت أنني أمشي على خطى التجار الذين حملوا الحرير والشاي، وعادوا بالتوابل والعطور، وكأن هذه الصحراء كانت ذات يوم ميداناً للتواصل بين قارات لا تعرف الحدود.

منغوليا ليست مجرد بلد؛ إنها لوحة متناقضة من السهوب والجبال، من الخيمة والمدينة، من البوذية والإسلام، من الماضي الإمبراطوري والحاضر البسيط. في كل محطة، شعرت أني أسافر بين زمنين: زمن جنكيز خان الذي دوّى صليل سيفه في العالم، وزمن الكازاخ المسلمين الذين يرفعون الأذان في مساجد صغيرة بين الثلوج.

منغوليا رحلة تعلّمك أن الهوية قد تضيع بين القوى الكبرى، لكنها لا تنطفئ في قلوب الناس. فمن السهوب إلى جوبي، ومن أولان باتور إلى بايان أولجي، خرجتُ بحكاية واحدة: أن الإنسان – أي إنسان – يمكنه أن يعيش بين العواصف محتفظاً بخيمته، بفرسه، وبإيمانه.

منغوليا بين السهوب والمدينة

وإن كانت السهوب مرآة روح منغوليا البدوية، فإن العاصمة أولان باتور تكشف وجهها المدني الحديث. 

وصولي للمدنية المتأرجحة أولان باتور.

العاصمة اولان باتور نشأت أول الأمر كمعسكر متنقل للرهبان في القرن السابع عشر، ثم استقرّت على ضفاف نهر "تولا"، لتتحول اليوم إلى قلب نابض يضم نصف سكان البلاد تقريباً.


في شوارعها ترى تمازجاً غريباً: 

عمارات إسمنتية سوفييتية باردة، تتجاور مع معابد بوذية مزخرفة، وبينهما مراكز تسوّق حديثة تضج بالزجاج والأنوار. وفي أطراف المدينة تنتشر أحياء من خيام "الجير"، يسكنها الوافدون من الريف الذين لم يتخلّوا عن جذورهم رغم قربهم من المدينة.

الحياة المدنية هنا تسير بخطى متسارعة: مقاهٍ تقدم القهوة الإيطالية بجوار مطاعم تقليدية تبيع "الخورخوق"، جامعات حديثة تُدرّس الطب والهندسة، ومراكز ثقافية تحاول أن تجمع بين الفلكلور المنغولي وموسيقى الروك الغربية.

أما مدن الشمال والغرب، مثل "إركيت" و"بايان-أولجي"، فهي أصغر حجماً لكنها تعكس هذا التناقض نفسه: بين الطرق المعبّدة حديثاً والمواشي التي تعبرها، بين الهواتف الذكية في أيدي الشباب ومهرجان "نادام" الذي يقيمه الشيوخ كل صيف.


جولة الى بحيرة هوفزجول (Lake Khövsgöl أو Khuvsgul Nuur) .

هي بحيرة تقع في الشمال الغربي من منغوليا، وتُعد من أجمل وأهم البحيرات في البلاد من حيث الطبيعة والبيئة. فيما يلي وصف تفصيلي لها:


الموقع والخصائص الجغرافية

  • البحيرة تقع في مقاطعة Khövsgöl، قرب الحدود مع روسيا، عند سفح جبال سايان الشرقية.
  • الارتفاع: حوالي 1,645 مترًا فوق سطح البحر.
  • الطول من الشمال إلى الجنوب حوالي 136 كم، والعرض يصل إلى حوالي 36-40 كم في أوسع قسم منها.
  • العمق الأقصى يقارب 262-267 مترًا، مما يجعلها من الأعمق في منغوليا.
  • المساحة السطحية حوالي 2,760 كم².

القيمة المائية والبيئية

  • تُعد أكبر بحيرة مياه عذبة في منغوليا من حيث الحجم، وتحتوي على نحو 70٪ من المياه العذبة للدولة.
  • البحيرة هي من البحيرات القديمة جدًا، يعتقد أن عمرها يزيد عن مليونين إلى خمسة ملايين سنة.
  • مياهها نقية جداً، وغالبًا ما يُشار إلى أنها صالحة للشرب دون معالجة كبيرة نظرًا لنقاوتها.
  • البيئة الطبيعية والحياة البرية
  • البيئة المحيطة تجمع بين التايغا السيبيري (غابات الصنوبر والليركس) والمروج والجبال، ما يجعل المنطقة غنية من حيث التنوع النباتي والحيواني.
  • من الحيوانات التي تعيش هناك: الأيل، الدب البني، الذئاب، الوولفرين، حيوان الـ ibex وأيضًا أنواع عديدة من الطيور.
  • الأسماك: يوجد أنواع متعددة منها الأسماك المحلية والنادرة؛ من أبرزها سمك الـ Hovsgol grayling الذي لا يوجد إلا في هذه البحيرة.

المناخ والطقس

  • في الشتاء، البحيرة تتجمد بالكامل تقريبًا لعدة أشهر.
  • الطقس بارد جدًا في هذه الفترة، مع درجات حرارة قد تنخفض بشدة.
  • فصول الصيف أخف، ومعتدلة إلى حد ما، مما يجعلها أفضل وقت للزيارة للمشي، التخييم، الاستمتاع بالطبيعة.
  • الأهمية الثقافية والحماية البحيرة تحظى بتقدير كبير من السكان المحليين، ويُطلق عليها أسماء مثل “البحر الأم” أو “الأم الحارسة”.
  • تم إعلان المنطقة المحيطة بها منتزهًا وطنيًا (Hovsgol National Park) لحمايتها، ضمن جهود للحفاظ على التنوع البيولوجي والنظم البيئية.

منغوليا المدنية ليست انفصالاً عن روحها البدوية، بل محاولة للعيش بين عالمين: عالم العشب والريح والخيل، وعالم الإسفلت والزجاج والسرعة. وكأنها تقول: "لن أتخلى عن ماضيّ، لكني أطرق أبواب المستقبل". 


ثم لمدينة بايان أولجي قلب الإسلام في أطراف أرض منغوليا. 

رحلتي قادتني غرباً، إلى ولاية "بايان-أولجي"، حيث الكازاخ المسلمون. هناك رأيت المساجد الصغيرة، وأصوات الأذان ترتفع بين الجبال. الأطفال يحفظون سوراً من القرآن، والنساء يخبزن خبز التنور الطازج. على الرغم من أن البوذية هي الغالبة في قلب منغوليا، إلا أن الإسلام بقي في أطرافها، صامداً كالنجمة التي لا تنطفئ مهما ابتعدت عنك.

احد المنتجعات قرب نهر هوفد في أولجي

بايان أولجي… القلب الإسلامي في أقصى الغرب المنغولي.

حين تتجه غرباً من أولان باتور، عابراً السهوب والصحارى، تصل إلى إقليم بايان أولجي (Bayan-Ölgii)، حيث تختلف الملامح والوجوه عن بقية منغوليا، وكأنك عبرت حدوداً غير مرئية. هنا، يلتقي الشرق والغرب في عقدة جغرافية نادرة، بين جبال شاهقة وأنهار باردة، وبين هوية منغولية عامة وأخرى كازاخية إسلامية راسخة.

 صورة لمدينة أولجي من أحد المرتفعات وتحضن المدينة نهر هوفد Hovd river

الموقع والتضاريس

تقع بايان أولجي في أقصى الزاوية الغربية من منغوليا، محاطة بجبال ألتاي التي تمتد كجدار طبيعي يفصلها عن الصين من الجنوب والغرب، وعن روسيا وكازاخستان من الشمال. هذه التضاريس الوعرة جعلت المنطقة معزولة نسبياً عن بقية مدن منغوليا، لكنها منحتها خصوصية بيئية: قمم مكسوّة بالثلج معظم العام، أنهار جليدية، ووديان خصبة في الصيف.

المسافة بينها وبين العاصمة أولان باتور تتجاوز 1600 كيلومتر، أي أنها أقرب إلى مدن كازاخستان من قربها إلى مركز منغوليا.

عاصمتها الإدارية مدينة أولجي (Ölgii)، وهي مدينة صغيرة لكنها تُعد بوابة الإسلام في البلاد.

المجتمع والثقافة

الغالبية العظمى من سكان الإقليم من الكازاخ المسلمين (أكثر من 90%). يتحدثون الكازاخية كلغة يومية، ويحافظون على العادات الإسلامية في الزواج، الأعياد، وحتى في مدارسهم. المساجد هنا ليست مجرد مبانٍ للصلاة، بل مراكز اجتماعية وتعليمية، يتعلم فيها الصغار القرآن واللغة العربية إلى جانب الكازاخية والمنغولية.

الثقافة الكازاخية في بايان أولجي تظهر في:

الضيافة: يبدأ اللقاء بالشاي بالحليب، لكنه في هذه المنطقة يُقدَّم غالباً مع الحلوى أو الخبز، في مزيج يجمع بين المنغولي والتركي.

الموسيقى: عزف آلة "الدومبرا" شائع، والأغاني تحمل نكهة بدوية تركية أكثر منها منغولية.

الصقور الذهبية: من أشهر عاداتهم مهرجان صيد بالصقور (Eagle Festival)، حيث يتباهى الرجال بعلاقتهم الوثيقة مع الطيور الجارحة، عادة تعود جذورها إلى السهوب الكازاخية.

الحياة المدنية

مدينة أولجي، عاصمة الإقليم، تجمع بين ملامح الحداثة والريف. فيها سوق مركزي صغير، مساجد، مدارس، وعدد من المباني السوفييتية التي ما زالت شاهدة على الماضي. الكهرباء والاتصالات متاحة، لكن الحياة لا تزال بطيئة مقارنة بالعاصمة أولان باتور. سيارات قديمة تعبر طرقاً نصف معبّدة، وأحياء كاملة ما تزال تُبنى حول خيام "الجير".

المدارس تُدرّس بلغتين: المنغولية والكازاخية، وفي السنوات الأخيرة فُتحت برامج تعليمية باللغة الإنجليزية، مما أضاف بُعداً جديداً لشباب الإقليم الذين يتطلعون للعالم الخارجي.

البعد الأنثروبولوجي

الناس هنا أكثر قرباً ثقافياً من الأتراك والكازاخ في آسيا الوسطى، وأقل شبهاً ببقية المنغول. تجد في ملامحهم امتداد العرق التركي – العيون البنية والملابس المطرزة بالزخارف الذهبية. النساء يرتدين ثياباً تقليدية مطوّلة في المناسبات، بينما الشباب يفضلون أزياء حديثة، لكنهم لا يتركون قبعاتهم المطرزة.

الإسلام جزء من هويتهم اليومية: تسمع الأذان في أولجي، وتجد الأعياد الإسلامية أوسع احتفالاً من الأعياد البوذية. ومع ذلك، فهم يعيشون في توازن مع المجتمع المنغولي الأكبر، يحتفظون بلغتهم ودينهم وعاداتهم دون صدام.

بايان أولجي من منظور الرحّال

بايان أولجي ليست مجرد إقليم بعيد، بل هي واحة ثقافية ودينية داخل منغوليا. تضاريسها الجبلية جعلتها حصناً طبيعياً، وثقافتها الكازاخية جعلتها مميزة بين مدن البلاد. منغوليا قد تُعرف بالخيول والبوذية، لكن في بايان أولجي ترى مساجد صغيرة ترتفع بين الثلوج، وأطفالاً يرددون آيات القرآن على وقع موسيقى الدومبرا، وصقوراً تحلّق في السماء كرمز للحرية.

إنها البوابة الإسلامية لبلاد المغول، ونقطة التقاء بين التاريخ والجغرافيا، بين الدين والهوية، بين السهوب المفتوحة والجبال المنيعة.

👌 وهنا سؤال ملح ..!

عن سلامة وسلاسة الطرق في منغوليا ، لأن أهم تحديات السفر في منغوليا ليست الأماكن نفسها، بل الطرق والدروب بين المدن.

وسأعطي المسافر لتلك الديار صورة واقعية لما سيواجهه بين أهم المناطق والمعالم وبين أهم المدن من الينابيع الساخنة في "تستسرليغ" (Tsetserleg) والى "مورون" (Murun) وأخيرا الى "أولغي" (Ölgii) عاصمة المسلمين. 


وصف الطرق من العاصمة اولان باتور الى اول محطة وهي ينابيع تستسرليغ الساخنةTsetserleg. 

المسافة: حوالي 470 كم كما أن الطريق وجزء كبير منه معبد ومُسفلت، لأنه يقع على الطريق الرئيسي باتجاه الغرب (طريق أولانباتور – خوفد) أما وصف الطريق فيكون على الشكل التالي:

الطريق آمن لمعظم السيارات (بما فيها السيدان) لكن الأفضل أختيار سيارة دفع رباعي 4×4.

بعض المقاطع في الجبال متعرجة، خصوصًا عند دخول وادي أرخانغاي Arkhangai.

الوقت المتوقع: 7–9 ساعات بالسيارة. 

أما الطريق من تستسرليغ (Tsetserleg) الى مورون (Murun).

فالمسافة: 400–450 كم تقريبًا.

والطريق في أجزاء كثيرة منه غير ممهدة (ترابية/حصوية) خصوصًا بعد الخروج من تستسرليغ.

وتوجد مقاطع جديدة يجري سفلتتها، لكنها متقطعة.

الوضع للسفر بالسيارة مريح فقط مع جيب أو سيارة دفع رباعي عالية.

وفي الصيف تكون ترابية مليئة بالمطبات والغبار.

أما في موسم الأمطار فتتحول إلى طين صعب المراس.

الوقت المتوقع لقطع المسافة من 9–11 ساعة.

الطريق من مورون (Murun) الى أولغي (Ölgii) (باتجاه الغرب والى جبال ألتاي).


المسافة أكثر من 1200 كم.

معظم الطريق غير معبد، وعبارة عن مسارات صحراوية وجبلية.

بعض المقاطع (قرب المدن الكبيرة مثل خوفد Khovd) فيها سفلتةجزئية.

وضع الطريق يحتاج الى جيب قوي 4×4 وخبرة في القيادة على الطرق الوعرة.

قد تمر عبر ممرات جبلية، أنهار صغيرة بلا جسور، وأحيانًا تختفي العلامات وتضطر للاعتماد على GPS.

الوقت المتوقع: 3–4 أيام بالسيارة مع توقفات.

الطرق المعبدة الرئيسية: تربط أولانباتار بالمدن الكبرى مثل دارخان، إردينت، تسيتسرليغ، دوندغوبي، وخوفد.خارج الطرق الرئيسية وتتحول إلى مسارات ترابية (dirt tracks) تشقها السيارات عبر السهول.

السرعة: عادة لا تتجاوز 60–70 كم/س خارج العاصمة.

ونصيحتي في الأنسب للسفر اختيار سيارات Toyota Land Cruiser / Lexus 470 / أو عوز UAZ الروسية (وهي الأكثر شيوعًا عند السكان).

الخدمات: محطات الوقود قليلة في المسافات الطويلة، لازم تعبي قبل الانطلاق وتحمل جالون إضافي.

ونتيجة ماذكرته من ملاحظات للطرق     فمن أولانباتار إلى تسيتسرليغ: الطريق جيد نسبيًا.

ومن تسيتسرليغ إلى مورون: مقاطع صعبة وتحتاج جيب.

من مورون إلى أولغي: طريق مغامرة بامتياز، غير ممهد، يستهلك وقت طويل، والأفضل الطيران بدل القيادة.


تأملات ترحّالية

منغوليا في نظر رحّال مثلي ليست مجرد بلد على الخريطة، بل رحلة إلى زمن غابر حيث تعدو العاديات ضَّبْحاً مع هدير الريح عصفاً في سهوب منشوريا الأوراسية . 

هناك تذكّرنا أن الإسلام وصل إلى أقاصي الأرض، وأن الروح الإنسانية قادرة على التكيّف حتى في أقسى البقاع.

 إن كانت مكة والمدينة قِبلة للروح، فإن منغوليا مرآة تعكس قدرة الإنسان على أن يبقى نفسه رغم رياح التاريخ لم يقدر عليها أحدا بل هزمت العالم لتجد سهماً غرز في صدرها حمل قوة الإيمان والإسلام ليكون الوحيد والأول والآخر في اختراقها وبقائه في عمقها الى اليوم..  .


🗺 أعددت خطة لمدة 6 أيام في ربوع منغوليا (متضمنة بحيرة خوفسغول وصحراء غوبي  ✈️)

1- اليوم الأول: أولان باتار العاصمة

الصباح: جولة في ساحة سوخباتار Sukhbaatar Square.

زيارة متحف تشينغيس خان الوطني.

بعد الظهر: زيارة قصر الشتاء لبوغد خان.

استراحة في مقهى وتجربة الشاي بالحليب.

المساء: عرض موسيقي تقليدي (غناء الحلق).

مبيت في فندق بالعاصمة. 

2- اليوم الثاني: متنزه غورخي-تيريلج (Gorkhi-Terelj)

الصباح: الانطلاق ساعة ونصف.

زيارة صخرة السلحفاة Turtle Rock.

بعد الظهر: صعود إلى معبد أريادبال Aryabal.

تجربة ركوب الخيل مع البدو.

المساء: مبيت في خيمة (جير Camp) بين الجبال.

3- اليوم الثالث: غوبي المصغرة + كاراكورم

الصباح:التوجه إلى Elsen Tasarkhai Dunes (الكثبان الصغيرة).

ركوب الجمال + جولة في الرمال.

بعد الظهر: التوجه إلى كاراكورم.

زيارة دير إردين زو Erdene Zuu Monastery وأطلال العاصمة القديمة.

المساء: مبيت في خيمة (جير) قرب كاركورم. 

4- اليوم الرابع: ✈️ بحيرة خوفسغول (Khuvsgul Lake)

الصباح: رحلة طيران داخلية من أولانباتار إلى Murun (ساعة تقريبًا).

انتقال بالسيارة إلى البحيرة (2 ساعة).

بعد الظهر: أخذ قارب في البحيرة أو التنزه على شاطئها.

زيارة القرى المحلية والتعرف على حياة الرعاة ، وبحيرة خوفسغول تعطي الرحلة طابع بارد وجبلي، مع تجربة مختلفة تمامًا عن الصحراء، خصوصًا أن البحيرة تسمى أحيانًا “شقيقة بحيرة بايكال” لجمالها ونقائها..

المساء: مبيت في لودج خشبي أو خيمة (جير) قرب البحيرة.

5- اليوم الخامس: العودة + ينابيع تسينخر (Tsenkher Hot Springs)

الصباح: العودة بالطائرة من Murun إلى أولانباتار.

التوجه بالسيارة إلى الينابيع الساخنة  في تسنخير Tsenkher والتي نبعد 6 ساعات بالسيارة والعودة مساء لأولان باتور. 

6- اليوم السادس:الوجهة الجوية(اختيارية) ✈️

رحلة طيران إلى صحراء غوبي الكبرى (South Gobi)

الطيران من أولانباتار إلى Dalanzadgad (ساعة ونصف).

زيارة: Khongoryn Els (الكثبان الرملية الضخمة).

Yolyn Am (الوادي الجليدي).

Flaming Cliffs (منحدرات الديناصورات).

مبيت في معسكر خيم صحراوية (جير).

ثم العودة إلى أولانباتار، وفيها تسوق في سوق الحرف اليدوية.

مع عشاء وداع تقليدي واستعداد للسفر.


الطيران الداخلي في منغوليا يوفر وقت طويل (بدون طيران تحتاج أيام للوصول).

ويفضل حجز الطيران الداخلي مبكرًا (غالبًا بطائرات صغيرة).

تحياتي رحال الخبر وائل الدغفق1440هـ