الخميس، 7 أغسطس 2025

بحيرة الاصفر مصدر مياه موغل بالتاريخ وليست حديثة.. د.وائل عبدالعزيز الدغفق1447هـ

واحة وبحيرة الاصفر ومبحث تأكيد قدمها وليست حادثة او محدثة بعد مشروع الري والصرف في واحة الاحساء.
قام بالبحث في مضان الكتب والمراجع الدكتور وائل عبدالعزيز الدغفق لاهتمامه بتاريخ الساحل الشرقي للجزيرة العربية والمحاذي للخليج العربي.. 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة: 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 

ثم أما بعد… 

تتمتع واحة الأحساء، المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، بإرثٍ تاريخي وجغرافي فريد، شكلت فيه مصادر المياه العذبة شريان الحياة وعماد الحضارة منذ آلاف السنين. وفي قلب هذا المشهد الطبيعي الغني، تبرز مسطحات مائية ذات أهمية بالغة، لم تنل حقها الكامل من الدراسة والتوثيق التاريخي المتعمق، وهي بحيرة الأصفر وبحيرة الحبيل شرق واحة الاحساء حاليا.

وارتبط اسم "البحرين" تاريخيًا بإقليم شرق الجزيرة العربية بأكمله، وهي تسمية اختلف المؤرخون في أصلها؛ فمنهم من أرجعها إلى وجود عدد إثنان من البحار او البحيرات بأسم "بحرين" بالفعل ، وأحد تلك البحار مالح وهو الخليج العربي، والآخر عذب ومتمثل في بحيرات وينابيع المنطقة الداخلية " بحيرة الأصفر" .

 وقد أشار مؤرخون قدامى مثل ياقوت الحموي والقلقشندي إلى أن بحيرة هجر (الأصفر حاليًا) كانت أحد هذين البحرين، مما يمنحها بُعدًا تاريخيًا وجغرافيًا استثنائيًا.

ومع ذلك، ساد في العقود الأخيرة تصور شائع يربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة، مما يختزل تاريخها الطبيعي العريق ويطمس هويتها الأصلية كتجمع مائي طبيعي ، وكان قائمًا قبل هذه المشاريع.

ومن هنا، تنطلق هذه الدراسة لتصحيح هذا المفهوم وتقديم رؤية تاريخية موثقة، تطرح إشكالية رئيسية تتمثل في إثبات الأصل الطبيعي لبحيرتي الأصفر والحبيل، ودورهما المحوري في تشكيل جغرافية وهوية إقليم هجر التاريخي.

ولتحقيق هذا الهدف، نسعى في بحثنا هذا إلى تتبع الإشارات التاريخية والجغرافية للبحيرتين في كتابات المؤرخين والرحالة، والمصادر الأرشيفية العربية والأجنبية. 

وتحليل السياق الجغرافي الذي أدى إلى ظهور التسمية التاريخية "البحرين"، وربطها بوجود هذين المسطحين المائيين كبحيرتين عذبتين في وسط الإقليم.

كما نسعى لدحض النظرية القائلة بأن بحيرة الأصفر هي نتاج صناعي لمياه الصرف الزراعي، وذلك من خلال استعراض الأدلة التي تشير إلى وجودها كمعلم طبيعي قديم.

ولاشك ان استدلالاتنا أتى بعد جمع وتوثيق ما ورد عن بحيرتي الاصفر والحبيل، والتي غالبًا ما تكون الاخيرة أقل حضورًا في الدراسات، وربط تاريخها بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء من نظام مائي متكامل في المنطقة.

إن هذا البحث لا يقتصر على كونه استعراضًا تاريخيًا، بل هو محاولة لإعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية والجغرافية ، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق.

فيما يلي تفصيل للنقاط الرئيسية التي يمكن بسطها في هذا المبحث:

تفنيد فرضية "البحرين": تحليل جغرافي وتاريخي

تقسيم المبحث إلى عدة محاور رئيسية:

المحور الأول: 

المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"

1- الأصل اللغوي:

    كلمة "البحرين" هي مثنى "بحر". في اللغة العربية، لا يقتصر معنى "البحر" على المياه المالحة الشاسعة فقط، بل يُطلق أيضًا على أي تجمع كبير للمياه، بما في ذلك الأنهار العظيمة والبحيرات العذبة الواسعة.

  كما يذكر كتاب "لسان العرب" لابن منظور والذي يشير إلى أن "البحر" هو "الماء الكثير، مِلحًا كان أو عذبًا". وهو دليل وحجر الزاوية في حجتنا هذه.

2- التفسير الجغرافي السائد:

    النظرية الأكثر شيوعًا لتسمية إقليم البحرين التاريخي (الذي يمتد من البصرة شمالًا إلى عُمان جنوبًا) هي وجود "بحرين":

    البحر المالح: متمثل في مياه الخليج العربي التي تحد الإقليم من الشرق.

    البحر العذب: متمثل في المياه الجوفية الهائلة والعيون والينابيع التي اشتهرت بها المنطقة، وخصوصًا واحة الأحساء والقطيف. كانت هذه المياه تتدفق بغزارة على سطح الأرض مكونةً ما يشبه "بحرًا" من المياه العذبة.

المحور الثاني:

تحديد موقع "البحر العذب" - من المفهوم العام إلى الموقع المحدد

هنا نبدأ في الانتقال من الفكرة العامة للمياه الجوفية إلى فرضية البحيرات المحددة.


ومنها شهادات المؤرخين والجغرافيين القدامى كالحموي والقلقشندي .

    فياقوت الحموي وماذكره في كتابه (معجم البلدان) ، أشار إلى "بُحيرة هجر" ووصفها بأنها معروفة. 

وذكره لبحيرة محددة بالاسم في "هجر" وهو (الاسم القديم للأحساء) هذا دليل مباشر على وجود مسطح مائي كبير ومعروف في قلب الواحة.

(وهنا نفهم ان شهادة ياقوت الحموي هي دليل تاريخي على وجود بحيرة هجر ، وهي (بحيرة الأصفر) المعنية في دراستنا)  .

ففي سياق البحث عن الجذور التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، كثيرا ما تبرز قضية أصل "بحيرة الأصفر" وهي أهم الإشكاليات البحثية المتنازع عليها . 

ففي حين يميل التصور الحديث إلى اعتبارها نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي، تقدم لنا المصادر التاريخية أدلة قاطعة على وجودها كمعلم جغرافي راسخ منذ قرون

 وتُعد شهادة الإمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (المتوفى سنة 626هـ/1229م) في موسوعته الجغرافية الخالدة "معجم البلدان"، الدليل الأبرز والأكثر حسمًا في هذا الشأن.

ونص ياقوت الحموي يعتبر هو الحجة الدامغة

فعند تناوله لأصل تسمية إقليم "البحرين" الكبير، استعرض ياقوت الحموي عدة آراء لغوية، لكنه رفضها واصفًا إياها بـ"التعسف". ثم قدم التفسير الذي اعتمده واعتبره الحقيقة الراجحة، ناقلاً إياه عن اللغوي الكبير أبي منصور الأزهري، حيث قال:

"والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: إنما سُمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال: وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق."

(ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: البحرين)

تحليل النص وأبعاده في إثبات أصالة البحيرة:

إن هذا النص الموجز والمكثف لا يمثل مجرد إشارة عابرة، بل هو وثيقة تاريخية وجغرافية متكاملة، يمكن تفكيك أبعادها على النحو التالي:

المصداقية والقناعة-وهو الصحيح عندنا- :

 فلم يورد ياقوت هذا القول كأحد الآراء المطروحة، بل تبناه بشكل كامل وقدمه على أنه الرأي الصحيح. هذا التبني من قِبَل جغرافي ومؤرخ بحجم ياقوت الحموي، يمنح وجود البحيرة في القرن السابع الهجري مصداقية تاريخية لا تقبل الشك، وينفي بشكل قاطع أي ادعاء بحداثة نشأتها.

ثم دقة تحديد ياقوت لموقع البحيرة بقوله:

 "على باب الأحساء"

فالنص يدل على موقع البحيرة وأنها "على باب الأحساء".

 وفي ذلك العصر، كانت "الأحساء" تشير إلى مناطق تجمع المياه والعيون الغزيرة. وعليه، فإن وصفها بأنها كانت " على بابها " يتطابق جغرافيًا مع موقع بحيرة الأصفر الحالية، التي تمثل الحافة الشرقية للواحة ونقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة منها.

ثم وصفه الأبعاد الشاسعة للبحيرة(ثلاثة أميال في مثلها)

 تقدير مساحة البحيرة ، فكل ميل يساوي 1.8كلم تقريبا اي المساحة حوالي 5.4 كم × 5.4 كم تقريبا ، وهو دليل على أنها كانت معلمًا جغرافيًا هائلاً وبارزًا للعيان، لا مجرد مستنقع موسمي. هذه المساحة الشاسعة هي التي أهّلتها لتكون "بحرًا" في نظر الأقدمين، وأحد طرفي المعادلة في تسمية "البحرين".

ثم الوصف الهيدروجيولوجي الدقيق (لا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق)

 يقدم ياقوت وصفًا علميًا دقيقًا لطبيعة البحيرة. فقوله "لا يفيض ماؤها" يؤكد أنها حوض تصريف داخلي مغلق (Endorheic basin)، لا منفذ له إلى البحر. وقوله "ماؤها راكد زعاق" (مالح) هو النتيجة الطبيعية لتبخر المياه في حوض مغلق بمنطقة صحراوية، مما يؤدي إلى تركيز الأملاح. هذا الوصف يطابق تمامًا الطبيعة الجيولوجية والبيئية لبحيرة الأصفر، ويدحض أي تصور بأنها كانت بحيرة عذبة.

خاتمة مانقل عن ياقوت الحموي واستنتاج. 

إن شهادة ياقوت الحموي لا تقتصر على إثبات وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) قبل أكثر من ثمانية قرون، بل هي تؤسس لأهميتها المحورية في هوية الإقليم الجغرافية. وبإثبات وجود "البحر العذب" الأول بشكل قاطع من خلال هذا النص التاريخي. 

ويُفتح الباب منطقيًا للبحث عن شريكه الثاني الذي تكتمل به صيغة المثنى في تسميته بـ "البحرين". وهنا، يبرز دور "بحيرة الحبيل" كمرشح طبيعي ومنطقي لتكون "البحر الثاني"، المكمل للنظام المائي المتكامل الذي شكل هوية واحة الأحساء عبر العصور.

وعليه، فإن نص ياقوت الحموي لا يمثل مجرد دليل، بل هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه حجة الأصل الطبيعي للبحيرتين، وتُدحض به نظرية النشأة الصناعية الحديثة.

    وضمن الأدلة المنقولة ومزيد من النقولات التازيخية ، نضيف ماذكره القلقشندي (صبح الأعشى)

وماذكره عن أن تسمية البحرين تعود لوجود بحيرة في طرف هجر يصب فيها "نهر محلّم"، طولها ثلاثة أميال. وهذا الوصف، على الرغم من أنه قد لا يكون دقيقًا بالكامل، الا انه يؤكد فكرة وجود بحيرة فعلية كانت معلمًا جغرافيًا بارزًا.

 شهادة القلقشندي في "صبح الأعشى" كدليل مساند على ماقاله ياقوت الحموي في أصالة بحيرة هجر. 

فإلى جانب الدليل القاطع الذي قدمه ياقوت الحموي، تأتي شهادة مؤرخ ودبلوماسي آخر من العصر المملوكي، وهو شهاب الدين أبو العباس القلقشندي (المتوفى سنة 821هـ/1418م)، وهو قد اتى بعد ياقوت بـ 300 عام ولتعزز ادلته من الحقيقة التاريخية لوجود بحيرة كبرى في هجر. في موسوعته الإدارية والجغرافية الضخمة "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وفي سياق حديثه عن إقليم البحرين، يقدم القلقشندي وصفًا يؤكد وجود هذا المعلم الجغرافي، مضيفًا تفاصيل جديدة تدعم فرضية البحث.

ففي أثناء تحديده لإقليم البحرين وأسباب تسميته، يورد القلقشندي تفسيرًا جغرافيًا واضحًا، حيث يقول:

"وسُمي الإقليم جميعه بالبحرين، تثنية بحر، لوجود بحرين به في طرفيه الشرقي والغربي: فالشرقي منهما هو البحر المعروف ببحر فارس، وهو بحر الهند... والغربي منهما بحيرة في طرف بلاد هجر من جهة الشمال، يصب فيها نهر محلِّم المشهور عندهم، وطول هذه البحيرة ثلاثة أميال وعرضها دون ذلك."

النصدر : (القلقشندي، "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الجزء الخامس)

تحليل النص وأبعاده في دعم فرضية البحث:

اولا هو تأكيد مباشر لنظرية "البحرين"

فالقلقشندي يقدم تفسيرًا صريحًا ومباشرًا للتسمية، رابطًا إياها بوجود "بحرين" حقيقيين: بحر مالح (الخليج العربي)، وبحر عذب (البحيرة)، هذا التأكيد من مؤرخ موسوعي مثل القلقشندي يمنح الفرضية وزنًا تاريخيًا كبيرًا، ويؤكد أن هذا التفسير الجغرافي كان شائعًا ومعتمدًا في دوائر العلم والإدارة في القرن التاسع الهجري.

ثانيا تحديده للموقع بقوله: "في طرف بلاد هجر"

 يتفق القلقشندي مع ياقوت في تحديد الموقع العام للبحيرة بأنها "في طرف بلاد هجر". هذا الوصف يعزز التطابق الجغرافي مع موقع بحيرة الأصفر على الحافة الشرقية لواحة الأحساء.

ثالثا وصف الأبعاد (طولها ثلاثة أميال وعرضها اقل)

يتوافق تقدير القلقشندي لطول البحيرة (ثلاثة أميال) مع ما ذكره ياقوت الحموي، مما يشير إلى أن حجمها كان معروفًا ومستقرًا نسبيًا في الذاكرة التاريخية والجغرافية. هذا التوافق بين مصدرين يفصل بينهما قرنان من الزمان يعطي مصداقية عالية لوجود معلم جغرافي ثابت وراسخ.

رابعا إضاف معلومة هيدرولوجيةبقوله:  "يصب فيها نهر محلِّم"

 يضيف القلقشندي تفصيلاً فريدًا وهو أن "نهر محلِّم" يصب في هذه البحيرة. "نهر محلِّم" هو أحد الأنهار أو القنوات المائية الرئيسية القديمة في واحة الأحساء. هذه الإشارة بالغة الأهمية لسببين:

- تأكيد الأصل الطبيعي لان ذكر اتصال البحيرة بنهر رئيسي في الواحة هو دليل مباشر على أنها كانت جزءًا من النظام المائي الطبيعي لهجر، حيث كانت تمثل نقطة التصريف النهائية للمياه الفائضة من الأنهار والعيون.

-دحض نظرية الصرف الزراعي فهذه الشهادة، تعود إلى ما قبل 600 عام، وتثبت أن البحيرة كانت تستقبل مياه الواحة عبر قنوات طبيعية أو قديمة (مثل نهر محلِّم) قبل إنشاء شبكات الصرف الحديثة بقرون طويلة، مما ينسف الادعاء بأنها نتاج لهذه الشبكات.

خاتمة واستنتاج:

تأتي شهادة القلقشندي لتكمل شهادة ياقوت الحموي وتؤكدها. فإذا كان ياقوت قد أثبت وجود البحيرة وحجمها وطبيعتها المغلقة، فإن القلقشندي يؤكد كل ذلك ويضيف بعدًا جديدًا عبر ربطها بشكل صريح بأحد أنهار الواحة الرئيسية. إن اجتماع هاتين الشهادتين من مصدرين تاريخيين موثوقين يفصل بينهما زمن طويل، لا يترك مجالاً للشك في أن "بحيرة هجر" (الأصفر) كانت معلمًا جغرافيًا أصيلاً، وكيانًا مائيًا بارزًا، وجزءًا لا يتجزأ من النظام الهيدرولوجي لواحة الأحساء، وأحد السببين الرئيسيين وراء تسمية الإقليم بـ"البحرين".

ادلة اخرى تضاف لما ذكرنا انفا. 

    وختام الادلة القديمة عن البحيرتين سندرس في آخر ماتم ذكره لكلا من الذين كتبو عن تلك المنطقة كالإدريسي وغيره ، وعن أي إشارات في الخرائط أو الكتابات التي وثقوها للمسطحات المائية الداخلية في شرق الجزيرة العربية.

خاصة بعد إرساء الأدلة النصية القوية من ياقوت الحموي والقلقشندي، فهنا يأتي دور الأدلة الخرائطية والجغرافية من شخصيات بارزة مثل الشريف الإدريسي، الذي يشتهر بعمله الخرائطي الدقيق.

وسأقوم الآن بالبحث والتحليل لأعمال الإدريسي وغيره من الجغرافيين الذين سبقوه أو عاصروه، وصياغة النتائج في مقال مُحكَّم بنفس المنهجية.

فبعد أن أرست المصادر النصية لياقوت الحموي والقلقشندي أساسًا متينًا لوجود بحيرة كبرى في هجر، يتجه البحث إلى نوع آخر من الأدلة لا يقل أهمية، وهو الدليل الخرائطي (الكارتوغرافي). وتبرز في هذا المجال أعمال الشريف الإدريسي (المتوفى سنة 560هـ/1165م)، أحد أعظم الجغرافيين وصانعي الخرائط في العصور الوسطى. 

إن فحص خرائطه وكتاباته في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، يوفر بعدًا بصريًا وجغرافيًا يعزز الأدلة النصية ويدعم فرضية الأصل الطبيعي للبحيرات في واحة الأحساء.


تحليل خريطة الإدريسي وكتاباته

على الرغم من أن الإدريسي لم يذكر "بحيرة هجر" بالاسم الصريح كما فعل ياقوت الحموي، إلا أن تحليلاً دقيقًا لخريطته الخاصة بالجزيرة العربية وكتاباته يكشف عن أدلة مهمة:

 تصوير المياه الداخلية في إقليم البحرين

  في خريطته الشهيرة، التي تُعد من أدق خرائط عصرها، يصور الإدريسي إقليم البحرين (هجر) كمنطقة غنية بالمياه بشكل لافت. الأهم من ذلك، أنه يرسم ما يمكن تفسيره بوضوح على أنه تجمعات مائية داخلية (Inland water bodies) منفصلة عن ساحل الخليج العربي.

  تظهر هذه التجمعات المائية في الموقع التقريبي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشرق من المناطق الحضرية التي يصورها. هذا التمثيل البصري، القادم من جغرافي دقيق مثل الإدريسي، هو دليل قوي على وجود مسطحات مائية كانت من الأهمية والشهرة بحيث تستحق أن تُرسم على خريطة العالم المعروف آنذاك.

ثم وصف الأنهار التي تصب في الداخل

  في كتابه "نزهة المشتاق"، يصف الإدريسي الأنهار والعيون في منطقة هجر، ويذكر أن بعضها يجري لمسافات ثم "يغور في الأرض" أو ينتهي في مناطق داخلية. هذا الوصف يتوافق تمامًا مع نظام هيدرولوجي ينتهي في أحواض تصريف مغلقة، مثل منخفضي الأصفر والحبيل، بدلاً من أن يصب في البحر.

  إن رسمه لمجاري مياه لا تصل إلى الخليج، بل تنتهي في الداخل، هو تأكيد جغرافي على وجود نقطة تجميع نهائية لهذه المياه، وهي البحيرات التي نبحث عنها.

أهمية شهادة الإدريسي

تكمن أهمية دليل الإدريسي في كونه دليلاً بصريًا فالخريطة تقدم دليلاً مرئيًا ومكانيًا يكمل الوصف النصي عند ياقوت والقلقشندي، رؤية مسطح مائي مرسوم على خريطة من القرن السادس الهجري هو حجة بصرية قوية.

ومن المعروف ان الإدريسي عاش وألف كتابه قبل ياقوت الحموي، مما يعني أن وجود هذه البحيرة كمعلم جغرافي بارز كان حقيقة مسلمًا بها قبل القرن السابع الهجري.

 هذا التسلسل الزمني (الإدريسي ثم ياقوت ثم القلقشندي) يخلق سلسلة متصلة من الأدلة التاريخية تمتد لقرون.

الجغرافيون الآخرون (بطليموس والمسعودي):

ولتعزيز الحجة، يمكن الإشارة إلى جغرافيين آخرين:

كلوديوس بطليموس (القرن الثاني الميلادي):

 في خرائطه القديمة للجزيرة العربية (Geographia)، ورغم صعوبة مطابقة الأسماء القديمة بالحديثة، فإنه يصور وجود بحيرات داخلية (Paludes) في شرق الجزيرة العربية. هذه الإشارة، وإن كانت عامة، تدل على أن فكرة وجود بحيرات في هذه المنطقة تعود إلى العصور الكلاسيكية القديمة وسنكتب عن بحيرة الربع الخالي في بحث قادم وهي بحيرة قديمة تفصل عمان عن جزيرة العرب حسب الرسم الطبوغرافي لارض الربع الخالي .

وكذلك المسعودي عاش بالقرن الرابع الهجري وفي كتبه مثل "مروج الذهب"، وصف المسعودي غنى منطقة هجر بالعيون والمياه الجارية، واصفًا إياها بأنها "أرض العيون والأنهار". هذا الوصف لغزارة المياه يجعل من وجود بحيرات لتصريف هذا الفائض أمرًا منطقيًا ومتوقعًا من الناحية الجغرافية.

خاتمة واستنتاج:

إن المصوّرات الجغرافية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، تقدم دليلاً من نوع مختلف، فهو دليل بصري ومكاني يؤكد ما جاء في النصوص. إن رسم مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض مغلقة، يتضافر مع شهادات ياقوت والقلقشندي ليشكل حجة متكاملة متعددة المصادر. هذه الأدلة مجتمعةً ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه، وشاهدتين على تاريخ طويل من وفرة المياه التي منحت الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".


       من خرائط الادريسي للجزيرة العربية 

المحور الثالث:

 فرضية البحيرتين (الأصفر والحبيل) كأساس للتسمية

وناتي الآن لمحبث الربط بين "بحيرة هجر" و"بحيرة الأصفر" ، فبحيرة الأصفر هي المسطح المائي الأكبر والدائم تاريخيًا في واحة الأحساء. موقعها يتوافق مع الأوصاف العامة لـ "بحيرة هجر" ، ويمكن القول بأن "بحيرة هجر" المذكورة في المصادر التاريخية هي التسمية القديمة لما يُعرف اليوم بـ "بحيرة الأصفر".

وربما يكون هذا هو جوهر مبحثنا الذي نتميز فيه ، لماذا بحيرتان وليس بحيرة واحدة؟

 فإذا كانت التسمية هي "البحرين" (بصيغة المثنى)، فمن المنطقي جغرافيًا البحث عن "بحرين" عذبين وليس بحرًا واحدًا.

    هنا تقدم بحيرة الحبيل كمرشح ثانٍ لتكون "البحر العذب الثاني". على الرغم من أنها قد تكون أصغر أو أقل شهرة اليوم، إلا أن وجودها التاريخي إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم تفسيرًا جغرافيًا مباشرًا ومقنعًا لصيغة المثنى.

ولعلنا نطلق على هذه المرحلة بناء الحجة

فالفرضية تسمية "البحرين" لا تشير فقط إلى (الخليج + المياه الجوفية) بشكل عام، بل يمكن أن تشير بشكل أكثر تحديدًا ودقة إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل.

هذا التفسير يحل إشكالية لماذا لم تُسمَّ مناطق أخرى غنية بالمياه الجوفية (مثل بعض مناطق العراق أو الشام) بـ "البحرين". التميز الجغرافي لهجر لم يكن فقط في غزارة مياهها، بل في وجود بحيرات سطحية واضحة المعالم يمكن الإشارة إليها كـ "بحر".

المحور الرابع 

دحض النظريات المضادة وتعزيز الفرضية. 

لنأخذ بداية تفنيد نظرية "البحيرة الصناعية" ولدحض فكرة أن بحيرة الأصفر هي مجرد حوض لتجميع مياه الصرف الزراعي او حوض اصطناعي وليس اصيل ماجمعناه من ادلة كالتالي:

اولا:  الشهادات التاريخية لكلا من  (ياقوت الحموي، والقلقشندي وخرائط ووصف الادريسي والمسعودي) والتي سبقت إنشاء مشاريع الري والصرف الحديثة بمئات السنين.

ثانيا: الطبيعة الجيولوجية للمنطقة، فبحيرة الأصفر تقع في منطقة منخفضة (سبخة)، وهي نقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة من عيون الواحة والسيول القادمة من الأودية الغربية (مثل وادي المياه).

ثالثا: مشاريع الصرف الحديثة لم تخلق البحيرة، بل استخدمت المنخفض الطبيعي الموجود أصلًا كوجهة نهائية لمياهها، مما زاد من مساحتها وعمقها، لكنها لم تؤسسها من العدم.

رابعا : واخيرا فربما وجود وادي محلم يعزز ويتوّج الادلة كونه يخترق البحيرتين في مجراه من واحة الاحساء  وباتجاه الخليج العربي وهو ما ايده المسعودي في خرائطه والمسعودي والحموي والقلقشندي ايضا. 

خلاصة المبحث:

لخصت حجة مبحثنا بأن التفسير التاريخي والجغرافي الأكثر اتساقًا لتسمية "البحرين" هو الذي يقر بوجود بحر مالح (الخليج) وبحرين عذبين (بحيرتا الأصفر والحبيل).

وهذا التفسير لا يلغي نظرية المياه الجوفية، بل يكملها ويحددها، ويقدم دليلًا ماديًا ملموسًا (البحيرات) على سبب فرادة هذا الإقليم وتسميته.

ومرور "نهر محلم" لتلك البحيرتين اتياً من واحة الاحساء ليصب في الخليج العربي انما يعزز الفكرة من جهتين جيلوجياً وجغرافياً .

ومن هنا ننتهي من بسط قضية اولية لمبحثنا تبدأ باللغة، ثم تنتقل إلى التاريخ، وتستخدم الجغرافيا والحيلوجيا، لتقديم تفسير جديد ومحدد، لنختمه بدحض أفكار شائعة وخاطئة عن صناعية البحيرتين وحداثتهما.


_________________________________

بحيرة الحبيل الشريك المنسي في النظام المائي لواحة الأحساء شمال بحيرة الاصفر. 

الكشف عن النصف الآخر من الحقيقة. 

في الوقت الذي حظيت فيه "بحيرة الأصفر" بالاهتمام الأكبر في الدراسات التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، بقيت جارتها الشمالية، "بحيرة الحبيل"، في الظل، كشريك منسي في النظام المائي العريق للواحة. إن إغفال دور بحيرة الحبيل لا يترك صورة تاريخ الواحة المائي منقوصة فحسب، بل يفقدنا الدليل الجغرافي الأكثر إقناعًا لتفسير تسمية "البحرين" بصيغة المثنى. يهدف هذا المبحث إلى إعادة اكتشاف هذا المعلم الجغرافي الأصيل، وإثبات أصله الطبيعي، وربطه بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء لا يتجزأ من نظام بيئي متكامل.

فموقع بحيرة الحبيل في الطرف الشمالي الشرقي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشمال الشرقي من مدينة العيون التاريخية. وكما هو حال بحيرة الأصفر، تقع الحبيل في منخفض طبوغرافي طبيعي (سبخة)، مما يجعلها حوضًا مثاليًا لتجمع المياه السطحية. أما عن تسميتها، فكلمة "الحبيل" في لهجة المنطقة قد تشير إلى قطعة الأرض الزراعية المحددة، مما قد يدل على قربها من النشاط الزراعي القديم، أو قد تحمل جذورًا تاريخية أعمق تستدعي مزيدًا من البحث.

إن سبب شهرتها الأقل مقارنة بالأصفر يعود إلى عاملين رئيسيين الحجم والموسمية ، وكانت بحيرة الحبيل أصغر حجمًا وأكثر تأثرًا بالمواسم. فبينما حافظت الأصفر على وجود شبه دائم للمياه بفضل استقبالها فائض مياه الواحة بأكملها، كانت الحبيل تعتمد بشكل أكبر على فيض العيون الشمالية القريبة (كعين الحبيل) ومياه السيول، مما جعلها أكثر عرضة للتقلص أو الجفاف، كما وجهت مشاريع الري والصرف الحديثة اهتمامها نحو بحيرة الأصفر كنقطة تصريف رئيسية، مما كرسها في الدراسات الحديثة وأبقى بحيرة الحبيل على الهامش.

من الأدلة على الأصل الطبيعي والتاريخي لبحيرة الحبيل هو:  الأدلة الجيولوجية والطبوغرافية ، لأن منخفض الحبيل هو تكوين جيولوجي طبيعي، شأنه شأن منخفض الأصفر. كلاهما يمثلان نقاط النهاية الطبيعية (أحواض مغلقة) لنظام التصريف المائي القديم في المنطقة. ففي العصور المطيرة، كانت هذه المنخفضات هي الوجهة النهائية لمياه الأودية والسيول، وربما كانت وجهة لأحد الأنهار القديمة التي ذكرها المؤرخون كنهر "محلِّم".

المصادر المحلية والروايات الشفهية:

 تشير كتابات بعض الباحثين المحليين في الأحساء، مثل عبد الخالق ، إلى تاريخ هذه المناطق كسبخات وأراضٍ رطبة. كما أن الذاكرة الشفهية لكبار السن في مدينة العيون والقرى المجاورة تحمل إشارات ثمينة إلى امتلاء "سبخة الحبيل" بالمياه في مواسم الأمطار الغزيرة، قبل وقت طويل من المشاريع الحديثة.

ومن الادلة المؤشرات الأثرية

 إن وجود مواقع أثرية قديمة بالقرب من حوض بحيرة الحبيل (وهو أمر يستدعي مسحًا أثريًا متخصصًا) من شأنه أن يقدم دليلاً قاطعًا على أنها كانت تشكل بيئة جاذبة للاستيطان البشري، كمصدر للمياه أو الموارد الغذائية والرعوية.

نظرية الحوضين المتكاملين "الأصفر والحبيل"

إن النظرة الشاملة للنظام المائي في واحة الأحساء تقودنا إلى فرضية "الحوضين المتجاورين"، التي تقدم تفسيرًا متكاملاً لتاريخ المنطقة وجغرافيتها:

فالحوض الجنوبي (الأصفر) كان يستقبل فائض المياه من عيون وسط وجنوب الواحة، بالإضافة إلى السيول الكبرى القادمة من الغرب عبر وادي المياه.

اما الحوض الشمالي (الحبيل) فقد كان يستقبل فائض المياه من عيون شمال الواحة (مجموعة عيون مدينة العيون)، بالإضافة إلى السيول المحلية.

هذا النموذج لا يعني بالضرورة عزلة الحوضين، بل تكاملهما. ففي سنوات الفيضان والأمطار الغزيرة، كان منسوب المياه يرتفع في البحيرتين لدرجة قد تؤدي إلى اتصالهما، أو على الأقل ظهورهما كمسطحين مائيين عظيمين متجاورين. هذا المشهد البصري المهيب هو التفسير الجغرافي الأكثر منطقية للتسمية التاريخية "البحرين": بحر مالح في الشرق (الخليج)، وبحران عذبان في الداخل (الأصفر والحبيل).

وندخل الآن في الأهمية البيئية المشتركة

كانت كلتا البحيرتين تشكلان نظامًا بيئيًا حيويًا واحدًا، حيث كانتا محطات رئيسية للطيور المهاجرة، ومصدرًا للملح ومراعي للماشية في فترات الجفاف، وعاملاً مؤثرًا في تلطيف المناخ المحلي للواحة.

وخلاصة القول: 

إن دراسة تاريخ واحة الأحساء المائي لا تكتمل بالنظر إلى بحيرة الأصفر وحدها. فبحيرة الحبيل ليست مجرد ظاهرة ثانوية، بل هي معلم جغرافي وتاريخي أصيل، وشريك أساسي في تشكيل هوية الواحة. إن وجودها إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم الدليل المادي المفقود لتفسير تسمية "البحرين" بصيغة المثنى تفسيرًا جغرافيًا دقيقًا. لذا، يدعو هذا البحث إلى إعادة الاعتبار لبحيرة الحبيل في الدراسات التاريخية والبيئية، كجزء لا يتجزأ من التراث الطبيعي العريق لواحة الأحساء.



 تحول التسمية من "بحيرة هجر" إلى "بحيرة الأصفر"
لم تكن "بحيرة الأصفر" تُعرف دائمًا بهذا الاسم. فكما أثبتت المصادر التاريخية والجغرافية القديمة، كان مسماها الأصلي والأقدم هو "بحيرة هجر"، نسبة إلى الاسم التاريخي العريق للمنطقة بأكملها. إن عملية تغير الاسم من "هجر" إلى "الأصفر" لم تكن عشوائية، بل ارتبطت بحدث تاريخي مهم وشخصية سياسية برزت في تاريخ المنطقة، مما يضيف بعدًا إنسانيًا وسياسيًا إلى جغرافية المكان.
وتتفق العديد من المصادر التاريخية والروايات المحلية على أن التسمية الحديثة "بحيرة الأصفر" تعود إلى شخصية الأصفر الثعلبي، الذي كان حاكمًا أو ذا نفوذ في المنطقة في فترة من فترات العصر العباسي.
 "الأصفر الثعلبي" هو لقب لشخصية تاريخية، وتشير نسبة "الثعلبي" إلى انتمائه إلى قبيلة "بني ثعلبة"، أحد بطون قبيلة طيء التي كانت لها فروع ومنازل في شمال وشرق الجزيرة العربية.
ويُعتقد أن نفوذه كان في فترة من فترات العصر العباسي، وهي فترة شهدت ظهور العديد من القوى والإمارات المحلية في أطراف الدولة العباسية.
والرواية الأكثر شيوعًا هي أن هذا الحاكم، الأصفر الثعلبي، اتخذ من منطقة البحيرة أو المناطق المحيطة بها مركزًا لنفوذه أو مقرًا لإقامته وقواته. وبمرور الزمن، ارتبط اسم هذا الحاكم بالبحيرة بشكل وثيق، فطغى لقبه "الأصفر" على اسمها القديم "هجر"، وأصبحت تُعرف بين الناس بـ "بحيرة الأصفر".
التحول التدريجي للاسم
من المهم أن نفهم أن هذا التغيير لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل كان تحولاً تدريجيًا.
 المرحلة الأولى (الاسم الأصلي"بحيرة هجر").
 كانت البحيرة تُعرف باسمها الجغرافي العام "بحيرة هجر"، كما وثقها المؤرخون الأوائل مثل ياقوت الحموي والقلقشندي.
المرحلة الثانية (الارتباط بشخصية الاصفر)
 مع بروز نفوذ الأصفر الثعلبي في المنطقة، بدأت البحيرة تُنسب إليه في الأوساط المحلية، ربما كعلامة لتحديد منطقة سيطرته.
المرحلة الثالثة (ترسخ اسم الجديد الاصفر)
 مع مرور الزمن وتداول الأجيال، تلاشى الاسم القديم "هجر" من الذاكرة الشعبية اليومية (خاصة مع تقلص استخدام اسم هجر للإشارة للمنطقة)، بينما ترسخ الاسم الجديد "الأصفر" لأنه مرتبط بشخصية وأحداث محلية أكثر قربًا للذاكرة المتأخرة.

خاتمة واستنتاج:
إن قصة تغير اسم البحيرة هي مثال حي على كيفية تفاعل التاريخ البشري مع الجغرافيا. فالمعلم الجغرافي الطبيعي (البحيرة) اكتسب هوية جديدة من خلال الأحداث السياسية التي دارت حوله. وهذا التحول لا يقلل من أصالة البحيرة الطبيعية، بل يضيف طبقة أخرى إلى تاريخها الغني. فاسم "هجر" يمثل عمقها التاريخي والجغرافي القديم، واسم "الأصفر" يمثل حقبة تاريخية محددة شهدت نفوذًا محليًا ترك بصمته على المكان حتى يومنا هذا.

التطور التاريخي لبحيرة هجر"الاصفر"
كانت البحيرة محطة وقوف للقوافل القادمة من ميناء العقير، عندما كانت مياهها ذات أهمية استراتيجية كمصدر مياه عذبة ­– “البحر العذب” مقابل “بحر العقير” المالح – ما يدعم التسمية التاريخية لإقليم البحرين .

التكوّن الجيولوجي والزمني
على الرغم من الاعتقاد بأنّ إنشاء بحيرة الأصفر جاء نتيجة لمشروع الري والصرف في السبعينيات الهجرية (حوالي 1970م)، إلا أن الجغرافي منصور العامر أكّد أن البحيرة نشأت طبيعيًا منذ آلاف السنين، وكانت موجودة قبل البنية الحديثة للصرف والري، حيث كانت تعمل ضمن شبكات المياه التقليدية في هجر/Ahsa منذ قرون .
أثناء الجفاف، تكون البحيرة مكونة من سبع تجمعات مائية تتصل مع هطول الأمطار الغزيرة، وتنفصل عند الجفاف .
الجيولوجيا والبيئة:
تغذّت البحيرة طبيعيًا بمياه الأمطار ومصادر المياه الجوفية القديمة (أعمدة عين/نبع)، ثم أصبحت تتغذى بشكل رئيسي مؤخرًا على مياه الصرف الزراعي ومياه الصرف الصحي المعالجة من العمران والهفوف .
مساحة البحيرة تتراوح بين 240,000 م² في الجفاف وقد تصل إلى 48 كم² في الشتاء، مع حجم مائي تصل إلى 282 مليون م³ .
وأُعلنت كمحمية طبيعية رسمية عام 2019، وتُعدّ أكبر تجمع مائي وسط كثبان رملية في الخليج العربي .
وهي ضمن مواقع تراث واحة الأحساء المعتمدة من اليونسكو، وتعتبر مقصدًا بيئيًا وسياحيًا هامًا .

بحيرة "الحبيل" المفترَضة

  • المصادر الحديثة لا تذكر بحيرة باسم "بحيرة الحبيل" بشكل مباشر. إلّا أن المحاضرة التي أشار إليها الجغرافي منصور العامر تحدثت عن بحيرة الحبيل التي تخدم المناطق الشمالية داخل الإقليم ذاته ضمن شبكة البحيرات الطبيعية القديمة في الاحساء/هجر .
  • يُحتمل أن تكون هذه البحيرة من أجسام مائية موسمية أو منخفضات أرضية وجيولوجية كانت موجودة سابقًا، وربما تُستخدم محليًا تحت مسمى "الحبيل". لكن لا توجد تفاصيل منشورة عنها في المصادر العالمية الكبرى مثل الكونغرس أو المكتبات الأوروبية.

الخلاصة والربط التاريخي

  • بحيرة الأصفر هي البحيرة الرئيسية التاريخية في أرض هجر/البحرين، وكانت تسمى بحيرة هجر، وهي من البحيرات العذبة التي ميزت المنطقة عن البحر المالح (الخليج).
  • بحيرة الحبيل قد تكون إحدى البحيرات الثانوية أو التجمعات المائية الموسمية شمال منطقة الهجر، حسب إشارات الجغرافيين المحليين، لكنها غير موثقة في المصادر الكبيرة.
  • تسمية البحرين قديماً يعزز فكرة وجود بحيرتين أساسيتين ضمن الإقليم: البحر المالح (الخليج) وبحيرة الأصفر (والربما أخرى مثل الحبيل)، وهما "البحران" اللذان أعطاها الاسم.
  • توجد مراجع في مكتبات مثل مكتبة الكونغرس وبعض الجامعات الأوروبية التي درسّت إقليم البحرين التاريخي، الأنهار القديمة مثل وادي المحلم، واعتماد GIS في بحوث واحة الأحساء، ومعظم التراث يُرجع إلى كتب الجغرافيا ومؤرخين مثل Hamawi وQalqashandi وZamakhshari الذين ذكروا البحيرة تاريخيًا .
وهذا البحث ليس مجرد تصحيح لمعلومة تاريخية، بل هو دعوة لإعادة تقدير القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية الفريدة، التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الإرث العالمي لواحة الأحساء.
==============================
قائمة المصادر والمراجع. 

1-  الحموي، ياقوت بن عبد الله. معجم البلدان. دار صادر، بيروت
2-  القلقشندي، أحمد بن علي. صبح الأعشى في صناعة الإنشا. المطبعة الأميرية، القاهرة.
3- الإدريسي، محمد بن محمد. نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
4-  العامر، منصور. (إشارة إلى محاضراته وأبحاثه حول جغرافية الأحساء).
5-  دراسات جيولوجية وأثرية حديثة حول واحة الأحساء .
6-  مصادر ومراجع حول تاريخ قبائل شرق الجزيرة العربية والعصر العباسي.
7- فهارس مكتبة الكونغرس عن مصطلحات: HajarBahrayn provinceAl‑Asfar LakeWadi al‑MuhallamHijr Oasis.
8- 
الفهرس (مبدئي)

  مقدمة .................................................................... (رقم الصفحة)
  • *   منهج البحث وأهدافه ................................................. (رقم الصفحة)
  •  الفصل الأول: بحيرة هجر (الأصفر).. شاهد التاريخ
  •  المبحث الأول: شهادات المؤرخين والجغرافيين ............ (رقم الصفحة)
  •   المبحث الثاني: من "هجر" إلى "الأصفر" .................... (رقم الصفحة)
  •  الفصل الثاني: بحيرة الحبيل.. الشريك المنسي
  •  المبحث الأول: التعريف ببحيرة الحبيل وأدلة وجودها ..... (رقم الصفحة)
  •  المبحث الثاني: نظرية الحوضين المتكاملين ................. (رقم الصفحة)
  •  الفصل الثالث: تفنيد نظرية النشأة الصناعية ................... (رقم الصفحة)
  •  خاتمة ..................................................................... (رقم الصفحة)
  •  قائمة المصادر والمراجع ............................................... (رقم الصفحة)

الأحد، 3 أغسطس 2025

الجزيرة التي نسيت انها عربية "مالطا" وجولة رحال الخبر عام 2015 الموافق 1436هـ



خراب مالطا... جزيرةٌ نسيتْ أنها عربية

المقدمة:

لم يكن صيف عام 2015 مجرد عبورٍ في مرافئ الذكريات، بل كان انغماسًا في جوهرةٍ نُسيت بين أمواج المتوسط، تُدعى مالطا.
صخرةٌ ضالة بين العروبة واللاتينية، تلوح لك بأسماءٍ عربيةٍ تترقرق بين جدرانها القديمة، وتهمس بلغاتٍ مكسّرة، كأن الزمن خانها ونسيَ أن يُخبر أهلها بأنهم أحفادٌ للغةٍ وأمةٍ مرت من هنا.

دخلتُ فاليتا... وتأملتُ أرصفتها التي لا تزال تحمل ظلال الفرسان والبحارة، ثم اتجهتُ إلى جزيرة غودش، حيثُ برك الملح وقصر Qolla l-Bajda، وهناك شعرتُ أن الريح تتكلم عربيًا منسيًّا.

خريطة تفصيلية لجزيرتي مالطا وغودش

من فوهة البحر الزرقاء إلى جروف Ras id-Dawwara، ومن الكهف الأزرق إلى غار الريح، من بئر زيوجة إلى رأس الفنّك، كنتُ أتتبع خيوط الهوية المختلطة، في لهجةٍ تشبه اللهجة التونسيةً مع خلطة لبنانيةً وسلطة أوروبيةً ممسوخة، وفي ملامحَ تحفظ من الأندلس نكهةً، ومن الجزيرة العربية صدى.

من ازقة مدينة "لا مدينة" غرب مالطا 

دخلتُ مدينة، "المدينة" والصامتة، وشهدتُ المسجد الكبير الذي بناه معمّر القذافي واقفًا كأنما يقول: "نحن هنا… ولو بصمت".
وفي الأزقة، راقصتُ الكلمات بين العربية والإيطالية، بين الميراث والحداثة، بين الفقد والاستذكار…

تلك كانت رحلتي، ومنها كانت البداية…

فقد نسجتَ بخطواتي في جزيرتي مالطا وغودش خريطةً من الجمال المتداخل بين العروبة الغائبة الحاضرة، والأوروبية المتحضّرة المتأرّبة. وها أنا أقدّم لكم روايةً أدبية ترحالية بأسلوب سلس، تنبض بما رأيته، وتُظهر ذوق رحال الخبر المتفنن والذي يجمع بين التأمل العميق والدهشة والذائقة الترحالية.


 "في جزيرةٍ نسيت أنها عربية"

لم يكن صيف عام 2015 عاديًّا، فقد حملتني الرياح إلى صخرةٍ تطفو بين الأمس العربي والغد الأوروبي، اسمها مالطا. لا تُشبه شيئًا، ولا يشبهها شيء، تتداخل في شوارعها اللغة كما تتداخلُ الصخور في جسدها الجبليّ، وتتمازج الأرواح كما تمتزجُ مياهُ المتوسط عند جروفها العجيبة.

جزء من خليج مالطا الداخلي وقلاع فاليتا العاصمة

دخلتُ فاليتا، تلك العاصمة التي تحنّ إلى العثمانيين من زاوية، وتشمخ برأس فرسانها من زاويةٍ أخرى. وعلى رصيفها البحري، تأملتُ وجوه المارة، أبحث في ملامحهم عن شيء من هلال بن أبي بقال، أو لعله طيفٌ من أبي نواس قد تاه في الأزقة.

من المطل على خليج فاليتا لمالطا وخليجها 

ثم انطلقتُ إلى جزيرة غودش، حيثُ قصر الملح القديم، Qolla l-Bajda Battery، يقف كبقايا حضارةٍ عربية هجرتها الرمال وتركها البحر في عهدة الذكرى. وعلى مقربةٍ منه، كانت برك الملح تصطفّ كأصابع الزمن، تنقشُ على وجه الأرض حكايات العمل والشمس والعرق.

خلفي برك وممالح استخراج الملح في غودش

وفي الغرب، هناك حيث فوهة البحر الزرقاءBlue Hole Viewpoint – تلك التي لو أُلقي فيها الحنين لعاد إلينا مرسومًا بلون البحر. إنها واحدة من عجائب الطبيعة، تفتح فمها لجوف البحر وتدعوك إلى الغوص في سرٍّ لا يُقال.


واصلت الطريق إلى Ras id-Dawwara، رأسٌ تدور فيه الأرض إن وقفت على حافته، كأنما هو حارسٌ صامت يطل على البحر من أعاليه.

أما الكهف الأزرق، فهو أغنيةُ الحنين الحزينة... هناك في الجنوب الشرقي من الجزيرة الأم، يغني البحر لحناً بلون اللازورد، وتتنفس الكهوف بعمق التاريخ العربي الذي ما زال يُهمس في الصخور.


غار الريح... يا له من اسمٍ! كم حمل من قصص المسافرين والعشاق والغرباء، سكنته الرياح فصارت له أنفاسٌ، كل زائرٍ يخرج منه محمّلاً بعبقٍ لا يُوصف.

وزرتُ قرية بئر زيوجة، التي تحتفظ باسمها العربي في عنادٍ جميل، كأنها تأبى الترجمة، وتكتفي بأن تكون شهقةً من ماضٍ عربيّ لا يموت.

وهناك، عند رأس الفنّك ومرتفعات زبار، رأيتُ كيف تسكن العربيةُ في الحجارة، وتتسللُ إلى أعمدة الكنائس، وتتوارى خلف نوافذ البيوت، وتتنفس في أسماء القرى والشوارع، وكأنّ الأغالبةَ ما زالوا بيننا.

ولأنني أهوى تتبّع الأرواح القديمة، دخلتُ المدينة القديمة (لا مدينة)، وهي أشبه بكتاب مفتوح، صفحاته من الحجر، وكلماته من عبق التاريخ.

      مع امام مسجد مريم البتول وسط مالطا 

وفي إحدى الزوايا، وجدتُ المسجد الكبير الذي بناه معمّر القذافي، يقف شامخًا كغريبٍ وجد في الجزيرة غربةً تشبهه، واحتضن المصلّين كأمٍّ حنونة تعيد أبناءها إلى حضنها.


 قصة بناء مسجد جامع مريم البتول بمالطا

عند استقلال مالطا عن بريطانيا 1964 ، كانت ليبيا كانت أول دولة تعلن الاعتراف بها.

وبعد استقلال مالطا منح رئيس وزراءها "دوم منتوف" في السبعينات القذافي قطعة أرض مساحتها 6500 هدية، وعرفانا منه على مواقفه ودعمه المتواصل لمالطا و كفاحها من اجل نيل استقلالها الكامل من بريطانيا.

القذافي امر ببناء أول مركز إسلامي كامل في الجزيرة، حيث ضم مسجد ومدرسة مريم البتول و المقبرة الإسلامية.

والمسجد الذي يتسع لاكثر من 500 مصلٍ كان أول مسجد يبنى في الجزيرة بعد خروج الاسلام منها عام 1492م.

وخلال زيارة القذافي لمالطا عام 1984 قام بافتتاح هذا المسجد ورفع الاذان فيه لاول مرة بنفسه. 

الألسنة هنا في مالطا ، كانت سيمفونية عجيبة... مزيجٌ من التونسية المنسية، واللبنانية المحوّرة، والإنجليزية المتعجرفة، والإيطالية الغنائية. فإذا ناداك طفل في السوق بلغةٍ هجينة، فاعلم أن اللغة العربية ما زالت تعيش، لكن في ثوبٍ آخر، أو على هيئة ظلّ.

                 قرية بوباي الشهيرة 

كل زاويةٍ زرتها، من قرية بوباي السينمائية إلى جزر كمونة بتجاويفها وخلجانها المتراقصة، كانت تشهد بأن هذه الأرض لم تكن يومًا مجرّد جزيرةٍ أوروبية، بل كانت قلبًا عربيًا تنكّر للعروبة حينًا، وأحبّها في السرّ دومًا.

 خلفي حصن فاليتا والذي لم يمنع من خرابها

مسجد القذافي وسط الجزيرة من ابرز معالم الاسلام هناك 


خراب مالطا:

 سرد لتاريخ سبعة خرابات وليس واحدة. 

لم تكن جزيرة مالطا مرتعًا للسلام يومًا، بل كانت جبهةً متقدمة في صراع حضارات. وكل من مرّ بها، ترك فيها أثراً... وخراباً. فكان تاريخها متسلسلًا على سبعة فصول من الانهيار:ا

الخراب الأول – 868م

فتحها الأغالبة بقيادة هلال بن أبي بقال، وبدلاً من إعمارها، هُجّر سكانها، وقَلَّ العمران، وسادت الوحشة، فبدأ يُشار إليها بـ"خراب مالطا".ا

الخراب الثاني – 1091م

استولى عليها النورمانديون المسيحيون بقيادة روجر الأول، فانهار ما تبقّى من الوجود الإسلامي، وتم استغلال الجزيرة كقاعدة لحروب صقلية، دون تنمية حقيقية.

الخراب الثالث – 1530م

سلّمها الإمبراطور شارل الخامس إلى فرسان القديس يوحنا، الذين أقاموا نظامًا عسكريًا قاسيًا، فُرضت فيه الضرائب، وتم تهميش السكان، وانقطعت مسارات التنمية.

الخراب الرابع – 1565م

الحصار العثماني الكبير بقيادة سنان باشا وطرغود باشا، لم ينجح في السيطرة، لكنه خلّف دمارًا هائلًا اقتصاديًا وبشريًا، دفع مالطا ثمنه طويلًا.

الخراب الخامس – بعد 1600م

دخلت الجزيرة في عهد الاستبداد الداخلي من فرسان مالطا أنفسهم، تفاقم فيه الفقر، وتراجعت الزراعة، وساد الإهمال والتفكك الإداري.

الخراب السادس – 1798م

دخل نابليون بونابرت الجزيرة في طريقه إلى مصر، وطرد الفرسان، ونهب الكنوز، وفرض العلمانية بقوة السلاح. ثار المالطيون، لكن الثورة زادت الانهيار الداخلي، وطلبوا النجدة من بريطانيا.

الخراب السابع – 1800م إلى 1964م

دخل البريطانيون واحتلوا مالطا حتى الاستقلال. لم يُعمروها، بل جعلوها قاعدة عسكرية، واستُنزفت مواردها لمصلحة الإمبراطورية، ولم تشهد الجزيرة تنمية تليق بتاريخها حتى مغادرتهم.

هكذا، على مدى ألف عام، تعاقبت ستّ حضاراتٍ وسبع خراباتٍ على مالطا، وكل قوةٍ كانت تعدُ بالخلاص، فتترك وراءها رمادًا جديدًا... ولهذا اشتهرت باسم "خراب مالطا".

رحلتي إلى مالطا:

ربما سمعتم المثل الشهير 

كالذي يؤذن في مالطا "

فهو مثل ذهبت به الركبان ويعني مالاطائل من ورائه، فكما هو الشيء الذي لا فائدة منه فكذلك المؤذن في مالطا لن يجد له مستجيبا، ولاملبيا .

وهو اشارة في ان الاثر العربي الإسلامي في مالطا قد ذهب ولن يعود… 

لكننا سنبشركم وفي سياق روايتنا لهذه الرحلة فإنكم ستسعدون بسماع بشرى دخول الناس افواجا في هذه الجزيرة المتوسطية للإسلام .. 

 موقع جزيرة مالطا بين ايطاليا وتونس 

نحن هنا في جزيرة مالطا حيث تحيط بها امواج البحر المتوسط ، هنا حيث تتراقص أمواج التاريخ على شواطئ الجزر، تكمن مالطا، لؤلؤةٌ صقلتها أيادي الزمن وحفرت فيها قصصاً لا تُنسى. لقد كانت رحلتي إليها أكثر من مجرد استكشاف جغرافي؛ كانت غوصاً في أعماق الذاكرة، محاولةً لاستجلاء سرّ مثلٍ قديمٍ ظلّ يتردد على الألسن: "كمن يؤذن في مالطا". مثلٌ يُضرب للدلالة على العبث، على الفعل الذي لا طائل من ورائه، فكيف لأذانٍ أن يُرفع في أرضٍ غابت عنها أصداء التوحيد لقرون؟

زيارتي للمركز الاسلامي في مالطا وجامع مريم البتول. 

هذا التساؤل، الذي طالما راودني، وجد إجابته في رحاب المركز الإسلامي بمالطا، حيث التقيت بفضيلة الإمام والشيخ محمد السعدي

رجلٌ يحمل في عينيه نور الإيمان، وفي حديثه عبق التاريخ. لقد أكرمني ببحثٍ قيّمٍ خطّه بيمينه، كاشفاً عن فصولٍ منسيةٍ من تاريخ هذه الجزيرة. ففي عام 870 للميلاد، وطأت أقدام العرب الأغالبة، الذين بسطوا نفوذهم على تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا وصقلية وسردينيا، أرض مالطا، حاملين معهم راية الإسلام. وما هي إلا سنواتٌ حتى اعتنق المالطيون جميعاً هذا الدين الحنيف، وظلّوا على إسلامهم قرابة 380 عاماً.لكنّ أقدار الله شاءت أن تنقطع هذه الصلة الغامضة بالمسلمين في عام 1250م، تحت وطأة سيطرة النورمانديين، ثم فرسان القديس يوحنا، الذين بذلوا قصارى جهدهم لمحو كل أثرٍ إسلاميٍ من الجزيرة. وهكذا، خيّم الصمت على مآذن مالطا، وتوقف الأذان، وغاب ذكر الله عن أرجائها، وكأنّ الإسلام لم يطأ أرضها يوماً.ظلّ هذا الحال قائماً لقرونٍ ثمانية، حتى السبعينيات من القرن الماضي، حين امتدّت أيادي التعاون من ليبيا، عبر الزعيم الليبي القذافي، لمدّ جسور التواصل مع الجالية المسلمة. وبفضل الله ثم جهود جمعية الدعوة الإسلامية العالمية الليبية، تأسس أول مسجدٍ ونواةٍ إسلاميةٍ في مالطا عام 1982م. حينها، ارتفع الأذان من فوق مئذنة جامع مالطا المركزي، معلناً عودة الروح إلى جسدٍ طالما ظنّوه ميتاً.

 وكما قال الشيخ محمد السعدي، بكلماتٍ تفيض حكمةً: "لقد أصبح المثل المشهور 'كمن يؤذن بمالطا' في ذمة التاريخ!".مالطا، هذه الجزيرة الصغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها 470 ألف نسمة. منهم 38 ألف مسلم، غالبيتهم من الجاليات الأفريقية والشامية. أما المالطيون الأصليون، فقد بدأ الإسلام يدخل قلوبهم من جديد، فبعد أن كان عددهم 500 مسلم، وصل اليوم إلى حوالي 5000 مسلم مالطي، والحمد لله. ورغم هذا النمو، تواجه الجالية المسلمة تحديات جمة، فالمصليات الست الموجودة غير مرخصة، نظراً لصعوبة الحصول على التراخيص هنا. والحاجة ماسة لمسجد كبير يجمع شملهم ويسعهم. يسعى المركز الإسلامي، بصلاته الوثيقة مع الإدارة السياسية في البلاد، لتوسيع مطالبهم عبر استغلال أصواتهم الانتخابية، وقد نالوا شيئاً يسيراً بعد انقطاع الدعم المباشر من ليبيا بعد الثورة. ومؤخراً، حصلوا على مقبرة خاصة بهم، بعد أن كانوا يضطرون لدفن موتاهم في مقابر النصارى لفترة طويلة، وهو ما كان يثقل كاهلهم.وفي عام 1997م، تأسست مدرسة خيرية تضم الروضة والابتدائية وحتى الثانوية، لكن الظروف المالية القاسية أجبرتهم على إلغاء القسم الثانوي في عام 2017م، وهو ما ذكره إمام المركز الإسلامي بحسرةٍ وألم. وما زالت الخطى حثيثة لطلب أي معونة، سواء كانت معنوية أو عينية، لاستدامة العمل الخيري في هذه المنطقة التي كانت يوماً ما إسلامية بالكامل. إنها قصة صمودٍ وكفاح، تجسد إصراراً على إحياء جذوة الإيمان في أرضٍ شهدت فصولاً من النسيان.

حدثني الشيخ محمد السعدي عن المصاعب التي واجهتهم مع الانفراجات والبركات التي نالوها بنيتهم الصادقة، لتفتح لهم قلوب الساسة بالجزيرة ليأخذوا العون والتمويل بعد أن توقفت ليبيا عن المساندة نظراً للظروف التي ألمت بهم. وإحدى تلك الانفراجات حصولهم على أرض كبيرة لإنشاء مقبرة لهم بعد أن عانوا من دفن المسلمين في مقابر النصارى، والحمد لله.

ويتابع الأخ الفاضل الشيخ محمد السعدي بحديث شيق حول المركز، ببداية أيامه الذهبية، ومروراً بتوقف المعونات الليبية لتبدأ مراحل العناء والضنك بسبب الصعوبات المالية وتراكم الديون نتيجة عدم وجود دعم، وكاد المركز أن يغلق أبوابه في ظل تراكمات الديون وغلق صمام العطاء. فبدأت الصلة بين المركز ورجاله تخاطب ود رئاسة الوزراء، وخاصة أن النظام الديمقراطي يكفل لهم للحكومة والمركز التبادل المنفعي بحنكة وسياسة. 

وبعد حصول المركز على ولاء أكثر من أربعة آلاف مسلم مالطي الجنسية، خلاف الآلاف غير الحاصلة للجنسية الذين يقدرون بـ 38 ألف مسلم بالجزيرة، فقد كانت تلك الأربعة آلاف نفساً تحمل أربعة آلاف صوتاً مؤثراً في الانتخابات. وقد لعبها المركز صح، إن صح التعبير، وأخذ يلوح بها حينما زار رئاسة الوزراء قبل خمس سنوات، وحصل على تمويل بقرض لملم من خلاله بعض مصاعب ما يجد، وأكمل مسيرته رغم أنه تنازل بكون مديرة المدرسة (مدرسة البتول مريم العذراء) وهي برلمانية، استطاع من خلالها تأييد بقاء المركز كوجهة مالطية الإدارة، وكونها مديرة برلمانية تضمن إطار الإدارة الأمينة للمدرسة. ولكن تتراكم مرة أخرى الديون، ويأتي موسم آخر لتبدأ المساومة مع مرشح معارض مرشح للرئاسة، وجُلب كضيف، وتفاجأ بالأربعة آلاف صوت يقفون ملوحين تحت تصرف إدارة المركز، ليبدأ المركز بإدارة التعاون باحترافية، وأخذ وعوداً بقروض بلا ربا وإسقاط الديون الماضية. وهذا لم يكن صعباً للمعارض الذي كان نهماً لكل صوت، فوافق على الفور وتم والحمد لله فوزه، وقد أوفى بوعده وتوالت العطايا الربانية بفضله وإخلاص العاملين بالمركز، ليسهل الله لهم كل صعب ويفتح لهم كل باب موصود، فتأتي انفراجات متتالية . 

وأخذنا جولة بالمركز الذي يقع على شارع رئيسي في العاصمة فاليتا، وقد ضم للمركز المدرسة التي ذكرت بدورين، وقرب المركز مقبرة حديثة فرح المسلمون بها، مع مطعم ومكتبة قد حوت أفضل كتاب دعم للإسلام وأهله في ترجمة للقرآن باللغة المالطية ولأول مرة، وقد أشرف على التأليف رئيس كلية اللغات بجامعة مالطا وفضيلة إمام المركز الإسلامي الشيخ محمد السعدي، بعد أن ألف سابقاً ترجمة ليست مدققة ولم تكن بالمعنى الحقيقي لترجمة القرآن، إنما كانت لقسيس أراد تراجم توافق دينه في بعض ما جاء به القرآن وحوت أخطاء جسيمة. أما هذا فهو محقق وبإشراف شيخ وإمام المركز العربي الذي كان له بعد الله الفضل في التحقق منه وإيداعه وطباعته على نفقة المركز ليكون داعماً ومرجعاً للمسلمين في مالطا. كما بني المسجد الجامع بمبناه النموذجي من مسجد ومئذنة وساحة وبوابات ليكون نموذجاً بيناً لكل مسلم ومعلماً واضحاً بأن الإسلام هنا وهو باق. 

وقد بني المسجد مقابل الطريق العام فالكل يراه مع مئذنته الشامخة الوحيدة بالجزيرة والتي تعطي إشارة لوجود الإسلام وأهله بعد أن قضي عليه في فترة ليست بالقليلة وكأنهم لم يكونوا هنا ولم يكن أذان ومؤذن ولا مئذنة وجامع، فبعد انقطاع ألف عام هاهو يعود كما كان بفضل الله ورحمته، وجزى الله أهل الخير في ما هو قائم مع حاجتهم المعنوية والحسية في دعمهم وبقاء جذوة الإسلام الفتية لتبقى وهي أمانة فمن يشمّر ساعديه لها ويقول ها أنا ذا.

 فالباب مفتوحاً والعطاء سهلاً وميسراً فلا يتبقى إلا عزم الرجال وإرادتهم ليمدوا يد العون لإخوانهم الذين سيخدمون الدين بمقل أعينهم وبمهج قلوبهم وأولئك قد كفونا العناء في الإدارة والمكوث والجلوس بالجزيرة لتكون لهم مقراً وموئلاً، فمن لهم في الدعم والعطاء. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.


جولة استطلاعية لجزر مالطا: 

عين الرحّال لا عين السائح وبصفتي رحّالاً متجولا، يسعدني أن أبسط لكم مشاهداتي وملاحظاتي حول هذه الجزر المالطية الأربع، التي زرتها في صيف عام 1439هـ، الموافق يوليو 2018م. كانت الزيارة في أوج حرّها وشمسها الساطعة، فلم يكن التوقيت موفقاً البتة لمن يبحث عن الاستجمام والراحة. لكنني لست من هؤلاء؛ فهمّي الأول في ترحالي هو الاطلاع على التاريخ، وطبيعة الأرض، وحياة الناس الاجتماعية، وأنقل ما أراه بعين الرحّال، لا بعين السائح العادي. ولعلي أوفق في نقلٍ جميلٍ نافعٍ لكل من يقرأ ويتابع. وبسم الله وعلى بركة الله نبدأ رحلتنا المتوسطية الطراز.

بداية الرحلة: 

واستعدادٌ للمشي عبر تاريخٌ عريق تتبعت اثاره عبر الارض ومن خلال جدران ابنية الجزيرة .

كما ولكل رحلة بداية، فلكل بداية استعداد وتحضير جيد، لنستغل الوقت ونغطي ما نستطيعه من جولة سريعة عبر تخطيط يشمل الحزيرة واهم مافيها. 

كانت أربعة أيام، وأعتبرها طويلة لجزيرة لا يتعدى طولها 25 كيلومتراً. وبهذا الطول، تعتبر مالطا أصغر دولة مستقلة ومعترف بها عالمياً. وعلى الرغم من صغرها، إلا أنها تحوي تاريخاً كبيراً بتنوع الحضارات التي تناوبت عليها، من بداية الرومان المسيحيين في القرن الأول الميلادي وحتى القرن السادس الميلادي، حينما فتحها الأغالبة العرب ومكثوا بها 380 عاماً. ومن بعدهم أتى النورمانديون، ثم فرسان القديس يوحنا، وحتى حصار العثمانيين لهم عام 1565م، بقيادة مصطفى باشا وبيالي باشا ، ولم يدخلوها. ثم كان أول تدمير لها على يد نابليون الفرنسي، الذي مكث عامين من عام 1798م، وخربها، وهو المقصود بالمثل الشهير "خراب مالطا". ثم أتى الإنجليز وطردوا الفرنسيين عام 1800م، ومكثوا 166 عاماً، وكان لهم أيضاً جزء لا يخفى من التدمير والخراب، وأيضاً من التطوير والاستغلال للجزيرة ومواردها الاستراتيجية كموانئ تتحكم بوسط البحر المتوسط، .

وصلت للجزيرة عبر مطارها الدولي الوحيد الصغير، والذي يقع في منطقة (لوكا)، ويبعد عن العاصمة (فاليتا) مسافة مشي بالأقدام فقط، إذا عرفنا أن عرضها فقط 10 كيلومترات بالإضافة لطولها الصغير وهو 25 كيلومتراً. والمطار يقع وسط الجزيرة. استأجرت سيارة صغيرة للتنقل فيها وأخذ راحتي بالتوقف في كل مكان والدخول لكل مكان.

 وقد وصلت مساءً لأصل إلى سكني المحجوز مسبقاً في مدينة صغيرة ملاصقة للعاصمة فاليتا، وهي مدينة (سليمة). جلست هناك ليلتي الاولى في خليج سليمة والمطل على البحر، بسعر ليس رخيصاً لفندق من الدرجة الثانية، فالأسعار هنا نار.

 خلدت للنوم استعداداً ليوم ممتلئ بالاكتشافات الترحالية بإذن الله.

لغة مالطا: 

ان السامع للغات سكان جزيرة مالطا فهو حتما سيعرف ان تلك اللغة شاهدٌ حيٌّ على التاريخ العربي ، وإذا كنتم تلاحظون اسم المدينة التي سكنتها اسمها (سليمة) ، وهي واحدة من مدن عديدة ذات أسماء عربية، فأسماء المدن في الجزيرة غالبيتها عربية كاملة، كما هي لغتهم التي تحوي نحو 80% من مصطلحات اللغة العربية. ولا عجب حينما نعرف أن هذا الأمر حصل نتيجة الوجود العربي المكثف وتأسيس حضارة في تلك الجزيرة من كل شيء، ولمدة 380 عاماً، لتكون هي الأصل، رغم ما مر بها من تغيير الهوية وقلب الدين للنصرانية، كما حدث في الأندلس وأهلها. لكن هنا في مالطا اختلف الوضع، فبقيت اللغة وذهب الدين. والعجب أن المساجد لم يُرَ لها أثر، فقد اجتهدت على البحث عنها لكن لم أوفق بشيء، عدا أسماء (طريق المسجد) في مدينة "المدينة" العتيقة. فكنا نشاهد في الأندلس بقايا مساجد حُوّلت لكنائس، لكن هنا لا شيء البتة. ويحتاج الأمر بحثاً أكبر لنقف على هذا المسخ الذي لم يُبقِ رغم التاريخ الذي عاشه المسلمون ولثلاثمائة وثمانين عاماً من الإسلام لجميع أهل الجزيرة، وبهذا الغموض انتهى كل شيء.

نرجع للغة التي بقيت شاهداً وحيداً حياً للتواجد العربي الإسلامي عبر الأغالبة، والذين امتد حكمهم أبعد من مالطا، فوصلوا صقلية وأسسوا حضارة هناك رأيت بعضها بزيارتي الأخيرة، كما حكموا كريت اليونانية أيضاً، بالإضافة لوجودهم الأصلي في تونس وغرب ليبيا وشرق الجزائر. فنجد أن بقاء اللغة في أسماء المدن الكثيرة، ولنأخذ مثلاً أكبر وأقدم مدينة والتي سميت (مدينة)، وكانت العاصمة للحكم في قديم الزمان، وبقيت حصونها وأزقتها، وفيها وجدت طريق المسجد بدون مسجد. كما توجد هناك مدن عربية الاسم مثل (مليحة، ومرسى، وزيتونة، والرباط، والناظور، وعين سالم، وغيرها العشرات). كما أن أسماء العوائل فيها أيضاً بقيت كما هي عليه مثل الأسر (عبدالله، وأبوحجر، وكسّار، وأبودجيج... إلخ)

وأهم مصطلحات الكنيسة لديهم فيها عربية مثل (الكنيسة، الله، الشيطان، قسيس، راهب، ذنوب، ومغفرة، وصوم، ورمضان... إلخ).

 وأما الأعداد فبقيت كاملة عربية من الواحد إلى المليون، لكن بلكنة تشبه اللبنانية مع تحريف مغاربي للغة أو نحت الكلام وأكل بعضه، فكلمات مثل (اليوم ، عشية ، نراكم ، انزل ، اصعد ، تريد ، تشرب ، تاكل)  كلها من لغتهم، لكن يحتاج السامع العربي الزائر ولكي يعرف الكلمة من ان يدقق بين الحروف ليفهم المعنى.

زيارة الجزء الشمالي من الجزيرة:

 من "سليمة" إلى "غودش" ، وبدأت جولتي من سليمة، لأتجه غرباً عبر طرقٍ ضيقةٍ جداً، بعضها لا يكفي لسيارتين، ويحتاج المسافر – إن كانت طرقهم تحمل اسم الطرق ، لأن المسافات هنا تُقدر بالأمتار لا بالكيلومترات – إلى حذرٍ شديد. 

مررت على مدنٍ صغيرةٍ مثل "تلة أبي جبه" و"بئر كركرة" و"وادي بوجبه"، ثم "وادي زجيج" فـ "الرباط" ، حتى وصلت إلى مدينة "المدينة"، التي تعلو "تلةً عاليةً" ، وقد ظهرت بأبهةٍ وشموخٍ واضحٍ من بعيد. كانت هي أول محطٍ لي بعد مروري على المدن الصغيرة ورؤيتي لطبيعة المكان وطرق بنائهم التقليدية بالحجر الطباشيري الأصفر المستخرج من مناطق عديدة بالجزيرة، ومنها "محجر سويقة" الذي مررت عليه ورأيت الحفر العديدة التي اتخذت بعضها مزارع، مع قلة مزارعهم، فمالطا ليست أرضاً زراعية، وكل ما فيها عبارة عن مزارع أهلية صغيرة لا تكاد تفي بمتطلبات أهل الجزيرة، ولكنها شيء من لا شيء.

وقد حُميت تلك المزارع بثمايل (سور حجري) بارتفاع بسيط، متر إلى متر ونصف، وقد حُفرت الآبار لجلب المياه السطحية للزراعة. كما أن جلّ بيوتهم قد استخدمت الحجر الطباشيري الهش، وهو الموجود فلا يوجد بالجزيرة غيره، مع استخدام بعض الأخشاب المستوردة لبناء الأسقف، وإن كانوا لا يستخدمونها إلا قليلاً، نظراً لتطور بنائهم منذ الفترة العربية، والتي أخذوها منهم كالبناء الدمشقي في استعمال الأقواس واعتماد السقف عليها ليتحمل التراب فوق تلك الأقواس المبنية من الحجر. ولم يكن بناؤهم بدائياً أبداً، بل إن البناء بطرازه العربي مع بعض التغيرات الناشئة من قدوم الطراز الإيطالي والفرنسي على الجزيرة قد أثر فيها، خاصة إذا ما نظرنا لبناء الكنائس وكون مرجعيتها في البناء إما إيطالية أو فرنسية أو من دول حوض البحر الأبيض المتوسط عموماً.

زيارة أجمل مدن مالطا "لا مدينة":

ان مدينة "لا مدينة" تعد تحفة معمارية ربما تُعتبر مدينة المدينة، وحسب مشاهدتي لها، نموذجاً للطراز المالطي بكل ما تحمله من تصاميم عربية أوروبية متداخلة. فهي أفضل نموذج للبناء في جزيرة مالطا، ولا نجده في غير مدينة المدينة. فقد بقيت صامدة حتى اليوم لأي تغيير، وبعيداً عن مدافع نابليون الذي حطم العاصمة فاليتا، كون فاليتا على البحر مباشرة، ونجت المدينة لبعدها عن الحروب. كما توجد مدينة "فيكتوريا" في جزيرة "غودش" أيضاً، فيها بعض مما تبقى، لكن ليست بعظم "المدينة" وبنائها وسورها وارتفاعها.

          احد بوابات مدينة "لا مدينة"

دخلت المدينة من إحدى بواباتها الفريدة، ومن نفق ضيق يتبعه بوابة مزدوجة الأبواب، كما خرجت من بوابة فريدة أيضاً ذات أبواب مزدوجة يتبعها جسر تحته نفق، وكلا البابين منيعين بطريقة فذة لمنع الأعداء من الدخول بسهولة لأم المدن المالطية.

            هذه احد مداخل المدينة 

 دخلت لأزقتها المتنوعة بين الضيقة والواسعة، فالضيقة يصل عرضها أقل من متر، وأكبرها يصل لثلاثة أمتار، مع وجود ساحات داخلها سميت بلازا، إحداها للكاتدرائية الكبيرة، وأخريات للجهة المطلة من تلتها العالية للوادي، وبعض تلك الساحات في البوابة الوسطى.


 ومررت من أحد طرقها وما زالوا يطلقون على الطرق طريق، وقد كتب طريق المسجد، حاولت أن أستشف من مشاهدتي لأي مبنى قد يكون هو ذلك المسجد، لكن للأسف لم أفلح، فلربما كان التغيير جذرياً لمساجد مالطا بحيث لا يستطيع أحد التمييز بكونه مسجداً من غيره.وأخذت أتجول في الأزقة والبيوت وبين الساحات والطرق. 


 وبوابات ليست غريبة علي في تصميمها أو الستر الذي ما زالوا عليه من وضع الستائر خارج الأبواب لكي تمنع المتطفلين من أخذ نظرة أو كان الباب مفتوحاً. كما أن بعض الأبنية ذات ضخامة من أبوابها إلى سقوفها، ولعلها لعلية القوم، ورأيت بعض قصورها المترفة في البذخ من ناحية التصاميم وجود النوافير رغم قلة المياه لديهم، مع زخارف واضحة لبعض المباني، وكلها قد بنيت من الحجر نفسه الذي تبنى فيه منازلهم حتى اليوم. وقد رصفت الطرق بالحجر مع وجود الإنارة القديمة المجددة والشبابيك المحمية بالحديد المشغول بعناية.


 تذكرت وأنا أتمشى فيها مدينة القيروان بتونس، ففيها تشابه لبعض التصاميم. وفي أحد منازلها القديمة تناولت الغداء، وهو عبارة عن طبق يشبه البيتزا لكن الخبز فيه كبير الحجم مع قلة الجبن. ثم خرجت أتفقد السور والبوابات حتى خرجت منها متوجهاً للغرب عبر طرقها الضيقة مرة أخرى.

             قرية بباي السينمائية 

قرية بباي: 

مفاجأة سينمائية حين وصلت إلى الغرب من الجزيرة، وقبل أن أصل إلى مدينة مليحة، وصلت إلى خليج ضيق جداً، وفي جدار الجرف قد بُنيت قرية من الخشب. كنت أظنها من تاريخ الجزيرة، لكنني دققت فيها فإذا بها نوع من القرية التي بُنيت لعمل فيلم سينمائي، وبُنيت على شاكلة أفلام الكرتون. وحين انتهوا، قرروا إبقاءها لتكون منتجعاً بحرياً لقربها من شاطئ جميل، مع أنشطة بحرية، ومع ما تحتويه القرية من مقاهي ومطاعم للعوائل. ولها إطلالة من فوق، ولكونها صغيرة، فيمكن احتواؤها بصورة واحدة، وهي حقاً جميلة بتصميمها وكأنها حقيقية. 

 من الكهوف المنتشرة بالجزيرة بعضها بحري والآخر جبلي. 

وأكملت مسيري نحو "مليحة" ومنها إلى جزيرة غودش وعبورٌ إلى عالمٍ آخر ، فحينما وصلت "مليحة"، كانت المدينة من المدن المشابهة لما سبقها، مع كونها ميناءً للعبور منها إلى الجزيرة الثانية غودش، ومن الميناء الحديث ذي المراكب الحديثة.

 ومن ذلك المنزل المالطي ذي العمر الذي يفوق 400 عام، والذي مكثت فيه ليلة واحدة ممتعة بإطلالته المميزة لجزر كمونة وكيمونة وخليج الكريستال المميز.

زيارة معالم جزيرة غودش: 

سحر الطبيعة وجمال التكوينات… 

بعد إفطار منزلي في ذلك المنزل البديع، أخذت جولة مشياً على الأقدام لشاطئ مفعم بالأنشطة البحرية لقربه مني.

 إلى المعلم الأول خليج الكريستال: 

شاطئ وشفافيةٌ تأسر الألباب

 كان الوصول إلى الهدف، وهو المكان القريب للسكن والمسمى (خليج الكريستال)، وسمي بذلك نظراً لشفافية الماء وتلونه بألوان بهية فيروزية قلما تجد مثلها، بسبب أرضية الخليج الرملية البيضاء وصفاء المياه بسبب الأحجار، وكونها منطقة شبه مغلقة بين جزر "كمونة وكيمونة". وصلت إلى الساحل، وهناك تُؤجر القوارب والدبابات البحرية بنظام اليوم الكامل أو نصف يوم أو بالساعات، ويبدأون من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساءً. 


أخذت لي قارباً لساعة تكفيني، فلست راغباً بالسباحة ولكن للاطلاع فقط. ورأيت التكوينات المميزة من كهوف وأقواس وفوهات شكلها موج البحر والرياح، فشكلت صورة بديعة لغابة من التشكيلات الصخرية التي لكل منها شكل وجمال بديع، مع مياه البحر الصافي وألوانه شكلت تناغماً متجانساً بديعاً. ثم انتهيت من الزيارة لأرجع إلى النزل وأخذ دوش ثم أعمل خروجاً، كوني سأبيت الليلة في العاصمة في الجزيرة الأم (مالطا).


والآن إلى المعلم التالي:

كهوف شاطئية ورأس الملح، أسرار الأرض وكنوزها. 

استقليت سيارتي لأنطلق عبر قرية "غودش"، لنكرر المسير عبر الطرق الضيقة مرة أخرى، ونصل إلى موقع أحد المداخل الغريبة للشاطئ الأحمر، وسمي أحمراً كون رماله حمراء على غير العادة للرمال الصفراء والبيضاء التي تكوّنت منها غالب شواطئ مالطا. والكهف له إطلالة بديعة مع مدخل لا يعرفه إلا أهل المنطقة، فقد تم شق الصخر من قمة التلة ليتم دخوله، ويظهر من خلال فتحة كبيرة شاطئ فريد أحمر برماله. والكهف وجدت فيه بعض البناء، وربما كان يستخدم لأغراض بشرية، فهناك وجار للنار وطابوق من الحجر صُفّ بشكل بناء لكن تهدم أغلبه. أخذت الصور منه لأنتقل إلى المعلم الآخر. 

رأس الملح: 

 ولا يبعد إلا بضعة أمتار، فنحن في جزيرة غودش، لنا في الجزيرة الكبرى مالطا ذات الـ 25 كيلومتراً طولاً و8 عرضاً. فهنا جزيرة غودش طولها 10 كيلومترات والعرض 6 كيلومترات فقط لا غير. وصلت إلى منطقة برك وأحواض الملح المنتشرة بشكل كبير، فالملح هنا له استعمال ويُصدر كسلعة مهمة في وقت ما. 

           برك الملح في رأس الملح 

وقد استغل السكان المحليون بوجود شاطئ مرتفع قليلاً عن البحر ويغذي الأحواض أمواج البحر المتلاطمة لتقبع في الأحواض ريثما تتبخر المياه لجمع الملح الناشف، وبعض ما يميز الملح هنا هو احتوائه لبعض المعادن ذات اللون الوردي المحمر، وهو مطلوب عالمياً نظراً لفوائده الصحية.

 أخذت الصور مع ما أردت من معلومات لأنطلق لمعلم آخر يبعد أمتاراً من مكاني.

كهوف وتضاريس وفوهات بحرية عملاقة: إبداع الخالق تتجلى في خلقه سبحانه… وصلت إلى منطقة في أقصى الجزيرة من الغرب لأصل إلى تكوينات صخرية بديعة من أقواس وكهوف متنوعة منها (كهف الريح) مع فوهات بحرية زرقاء غامقة نظراً لعمقها الكبير، وهي تعتبر موئلاً سياحياً شهيراً بالجزيرة، ويأتيه السياح ركوباً بالقوارب أو عبر الطرق الضيقة بالسيارات. وكالعادة، أخذت ما أردته من صور وتأمل بطبيعته البديعة، ثم إلى الوجهة التالية. 

عاصمة غودش فيكتوريا، مدينة التاريخ 

عاصمة غودش كانت فيكتوريا، ولعل هذه المدينة التاريخية بما تحمل من معالم واضحة من أبنية بُنيت من الحجر المالطي الأصفر، وقد زُينت بعض الكنائس ببعض الإضاءة، فهنا لديهم لكل كنيسة احتفالاً بنشأتها، وقد مررت بإحداها وقد كتب عليها باللاتيني (125 sana muabrka) وتعني كما هو واضح احتفالاً بنشأتها والمباركة بكلمات عربية. ومررت بعدة كنائس بنفس الشكل، وبعضها غالى في الزينة بوضع الكشافات ووضع التماثيل التي تمثل فرسان القديس يوحنا كرمز لحمايتهم الجزيرة على مر الدهور.

          فكتوريا عاصمة غودش

 وها أنا أنتهي تقريباً، عدا مروري بمنطقة ذات مطاعم جيدة مع إطلالة للبحر لأتناول غدائي فيها، ثم أنتقل إلى الميناء حيث فتحت إحدى السفن ثغرها لتبتلع السيارات بعد أن دفعت مبلغ 16 يورو ثمن الخروج من الجزيرة، وطبعاً الدخول مجاناً، لكن لا بد لك من خروج فيستلمونك هنا. ركبنا السفينة وعبر ربع ساعة نحن في مالطا الجزيرة الأم، لأتجه مباشرة إلى العاصمة فاليتا.

 وصلت إليها لأقف في أحد المنازل الذي استأجرته بمبلغ 90 يورو، ويعتبر هذا السعر رغم غلائه إلا أنه متوسط جداً. فمالطا السكن فيها والتنقل والسوق عموماً غالي جداً مقارنة بإيطاليا مثلاً وهي جارتها الشمالية. جلست هناك مع موعدي لزيارة المركز الإسلامي في عصر هذا اليوم إن شاء الله. فإلى هناك.

رواية الرحّالة... وذاكرة الجزيرة المنسية… 

كنت أظنني زائرًا عابرًا، أمشي في طرقات فاليتا وكأنني أقرأ قصيدة لاتينية على أطراف البحر، لا شأن لي بغير المعمار والهواء المالح، إلى أن وقفتُ بين أنقاض قصر قديم، وسمعت الندبة في جدار.

قال لي أحد الشيوخ المالطيين: "أتعرف لماذا لا نتقن الضحك؟ لأننا لا نتقن النسيان…

"أجبتُه مبتسمًا: "بل أنتم لا تنسون لأن في أعماقكم عربًا يعرفون الحنين حتى وهم لا يعلمون لماذا."

في الأزقة الضيقة، تنساب كلمات تشبه لهجات الجنوب العربي، وفي طعامهم أثر من موائد الأندلس، وفي قلوبهم غصّة الغريب الذي لا يُغادر.

كنت أبحث عن مقهى يشبه قلب الوطن، فوجدت قبوًا مليئًا بالصور والظلال. رجلٌ هناك يعزف على العود المالطي أنغامًا تشبه مقام الحجاز... لم يكن يعرف أنه يعزف من ذاكرتنا.

تركت مالطا وقد خبأت في دفتري شيئًا من رائحة الجدران القديمة، ودمعة لم تجفّ منذ قرون. كتبتُ بخط مرتعش على هامش الميناء: 

"هنا، في هذا الخراب المتكرر، لم تمت الأرواح، بل تنكّرت في صمت الحجارة... ونسيتُ أن أقول لهم: إن مالطا كانت يومًا عربية، وإن من يُهمل جذوره، يحيا غريبًا ولو في أرضه."

وغادرتُ... كأنني أترك رسالة في قارورة، وأدفع بها إلى موج البحر، لعلّها تصل يومًا إلى من يعيد لمالطا اسمها العربي وذاكرتها المفقودة.

ها أنا أغادر الجزيرة، ومعي حقيبةٌ من الملح، واللغةالركيكة ، مع حسرة ودهشة.
أغادرها، وفي أذني رنين جملةٍ من عجوزٍ مالطية قالتها لي بعربيةٍ مكسّرة:
"إحنا عرب… بس ناسين."
وربما كانت تلك الجملة خلاصة كل ما في الجزيرة.

بل كانت رحلتي إلى مالطا ليست سياحةً، بل كانت عودةً إلى ماضٍ خفيّ تحت حجارةٍ ناعمة، ورحلةً في ذاكرة اللغة والارض. خرجتُ منها وأنا أعلم أن العروبة ليست جغرافيا فقط، بل طيفٌ يسكن التفاصيل، وإن غابت الأعلام والرايات.

وعدتُ من هناك، لا أحمل صورًا فقط، بل أحمل سؤالًا…
هل تموت العروبة حين تنسى لغتها؟ أم تبقى حيّة في تضاريس الأرض، وأسماء القرى، وملوحة البحر؟

من رحّال الخبر، وهذه حكايتي في جزيرةٍ عربيةٍ أوروبيةٍ غريبةٍ التفاصيل… جزيرةٍ لا تزال تبحث عن نفسها.




الاثنين، 2 يونيو 2025

رحلة من مدن الخليج الساحلية الى قلب نجد العذية ومنها لعبق الأماكن التاريخية حيث دفء القلوب الندية

رحلة من مدن الخليج الساحلية الى قلب نجد العذية ومنها لعبق الأماكن التاريخية حيث دفء القلوب الندية
فبين الثالث والعشرين والثامن والعشرين من شعبان لعام 1446هـ، الموافق 22 إلى 29 فبراير 2025م، انطلقت في رحلة من الخبر الى ربيع الشمال متوجها الى نجد العذية ، وكان مروري عبر عاصمة الربيع "النعيرية" وأرخت مرساتي في أحد مزارع  "القرية العليا" حتى حين الانطلاق الى "حفر الباطن" وكل تلك الرحلة انما كانت بحثًا عن الجمال في تفاصيل الأرض وربيعها ودفء اللقاء في صدور الرجال ومن مررت بهم.

 إنطلقت من الخبر، قاصدًا النعيرية والقرية العليا، لأحلّ ضيفًا على أخي الكريم، أبو يوسف مازن الحمودي، في مزرعته البهية، 

حيث احتواني بجود مضافته وسخاء روحه. قضيت ليلةً من أجمل ليالي رحلتي وسفرتي الربيعية وقبيل رمضان لهذا العام ، وقضيتها بين نسائم الطبيعة وكرم الضيافة، قبل أن أتابع المسير صوب الصداوي، ومعرج السوبان… 

 هناك كان لي وقفة لمنظر أسرني واضطرني للوقوف بلا خطة ولا نيّة وكل ذلك بسبب كمية الجمال في ما رأيته بذاك الحقل الزاهي والذي حوى من الورود الوان واشكال ، هناك حيث تفتحت الأرض عن بساط أحمر قانٍ من زهور الديدحان، يغازل لون العشق الوردي لبعضها اعيننا، في مشهد يأسر القلوب.

وكل ذلك في المنتزه البري الواقع في مدخل الصداوي ليكون أجمل أستقبال واروع كلمات تستقبلك كباقة مزهرة ..
فما اروعها من بلدة وما اجمل زهورها الربيعية المورقة البهيّة.


حفر الباطن.. حيث لكل شاي حكاية

بعد القرية العليا والصداوي ، يمّمت وجهي صوب حفر الباطن، ومررت قبلها بالقيصومة وهي احدى المدن التي انبثقت من مشروع التبلاين وليس قبله وفيها المطار لحفر الباطن ، وتعتبر مدخلا للحفر من الجهة الشرقية تبعد عن الحفر 20 كيلا فقط ، ثم دخلت حفر الباطن. 


 وهي بلدة تاريخية ترجع للصحابي الجليل أبو موسى الأشعري، والذي أسسها عام ١٧هـ حين حفر أول بئر من آبارها ليجعل منها أهم محطة على طريق الحجاج القادمين من العراق في الدرب المشهور( درب الحاج البصري) ، ومن أسمائها في كتب التاريخ "حفر أبي موسى"، "حفر بني العنبر".
 وواديها البديع، مستكشفًا عبق المكان، ومستمتعًا بأقداح الشاي التي تحكي قصصًا من أصقاع الأرض.

 كانت محطتي الأولى "بيت الشاي" لأبي سلمان الشمري، حيث تذوقت شاي "النهرين" الشهير، برائحته الزكية ونكهته العميقة، إلى جانب أنواع نادرة تجسد ثقافات الشعوب. ولم يكتمل شغفي إلا بزيارة "شاهي 78"، ذاك المقهى الذي يعيدك إلى سبعينيات القرن الماضي، بتصميمه العتيق ونكهاته الأصيلة. 
والمحل له فرعين وشايه يضرب المخيخ الاعلى ومن المعروف أن ذائقة اهل حفر الباطن واهل حايل للشاي عالية الطلب ، ولا عجب ان يجمعوا أفضله وأجمله .
واكملت جولتي عبر أزقة السوق القديم، استرجعت ذكريات الأمس، قبل أن أكون ضيفًا على أبي سعود نواف الفضلي، بحضور والده الكريم، في لقاء عامر بالودّ والكرم.
ثم بعد قضاء يوم في الحفر اتجهت على طريق الرياض جنوبا متجها للزلفي مرورا بمدينة الملك خالد العسكرية والبطيحانية وام الجماجم وام طليحة والارطاوية لاتجه غربا عبر روضة السبلة ومن المطل الشرقي من طويق اذ ترحّب بي مدينة الزلفي البديعة.. 

رحلة لواحات الزلفي بين نفوذها وعقلها. 

دخلتها من مطلاتها الفريدة، فأطلّلت عليها آتيا من الشرق عبر "مطل طويق الشرقي"، حيث رحبّت بي المدينة المتجددة، والمتطورة دوما ومن الغرب الى "مطل الثويرات الرملي"، حيث النفود تحتضن الأفق. احتسيت هناك شاي "وجار" الشاي الزلفاوي" الأصيل، قبل أن أتجول بين "عِقَلِها" -جمع "عقلة" - وهي اماكن سكنى أهل الزلفي قديما أتخذو واحات من النخيل بديعة لسكناهم ، وحيث تبدو الرمال كأكاليل من زهور الزمن. 
وقفت عند أحدها وهي "عقلة المر"، موطن جدي لأبي إبراهيم الدغفق، حيث تلتقي جذور العائلة برمال الصحراء، في مشهد يبعث الدهشة. بتّ هناك، رغم البرد القارس الذي لامس ثلاث درجات مئوية،
عقلة المر موطن جدي ابراهيم الدغفق

 وقرب عقلة المر هناك منظرا يحج اليه محبو غرائب الامور واعجبها متمثلا بطريق مسفلت ومعتنى به وكانه يؤدي الى مدينة حديثة وانت في مساره وفجأة اذ بك تصطدم بكثيب رملي يقطع عليك هواجيسك وجمال واناقة الطريق لتدخل الى عالم آخر من عوالم الرمال والصحاري ورمال الثويرات البديعة.. 

 ثم أكملت رحلتي مع بزوغ الفجر متجها لأحدى مدن الوسم العريقة لأحط رحالي هناك.

عنيزة ثم أشيقر.. حيث الأصالة والهدوء

مررت عنيزة، وزرت منتزه "الطويريب"، لكنه لم يكن على مستوى التوقعات، فاكتفيت بجولة قصيرة، فعنيزة زرتها مرارا واردت اختصار الوقت للذهاب وإكتشاف الجديد ، لأتابع نحو أشيقر، تلك البلدة التراثية المتجددة حيث وجدت المكان ينبض بالتطوير والتاريخ معا
ورغم أنه لا يفتح أبوابه إلا في مواسم محددة ، فقد سعدت باكتشاف مكان جميل أسمه "منتجع جدي حمد"، ذلك البيت الذي تحيطه النخيل، ويقدم وجباته في أجواء تراثية آسرة وحولة دور وشيجر ومزارعه وارفة الخضرة باسقة بنخيلها الشامخة 
ومن هناك، انطلقت عبر "مسار تاريخي لتجار نجد"، وهو درب هايكنج بطول سبعة كيلومترات، يمر بقرية الفرعة إلى مدينة "شقراء" ، حيث تتعانق الهضاب مع التاريخ. ووصلت قرية شقراء التاريخية وزرت "قصر السبيعي" وسوق "حليوة" التراثي، قبل أن أواصل المسير شرقًا، نحو بلدة القصب، مرورا بثرمدا ومرات ولم اتوقف متجها للقصب حيث تنتظرني مفاجآت الملح والتاريخ هناك.

 مملحة القصب.. كنز الملح المدفون

رحلتي إلى مملحة القصب حينما يتحدث الملح بلغة الأرض وزمانه. 
حين اقتربت من مملحة القصب، كان المشهد أمامي أشبه بلوحة بيضاء رسمتها الشمس والرياح عبر العصور. مدّ البصرُ بحرٌ من البرك اللامعة، تتلألأ تحت أشعة الشمس وكأنها مرآة تعكس نقاء الملح وصفاء الأرض. هنا، حيث تلتقي الجيولوجيا بالصبر، وحيث لا يزال الإنسان يخوض صراعًا هادئًا مع الطبيعة لاستخراج كنزها الأبيض.

سلكت دربًا ترابيًا متعرجًا، تحفّه كُثبان الملح المتراكمة، حتى وصلت إلى قلب المملحة، حيث يقف العمال بملابسهم البسيطة وأيديهم التي أكلتها الشمس، منهمكين في مراقبة المياه المتبخرة وترسب الملح في البرك. على بعد خطوات، رأيت جفرًا عميقًا يحاكي الآبار التقليدية، لكنه لا يبحث عن الماء العذب، بل عن ماء مشبع بالملح، تُسحَب منه المياه إلى البرك المجاورة، حيث تبدأ عملية التبخير تحت أشعة الشمس اللاهبة.

جلست على صخرة قريبة، أراقب كيف يتحول السائل إلى بلورات صلبة، وكيف يأخذ الملح شكل الحياة التي منحته إياها الأرض، فإما أن يُجمع يدويًا بمجاريف خشبية كما كان يُفعل منذ قرون، أو يُضخ إلى خزانات الطين، ليبدأ رحلته نحو المعالجة والتعبئة.

أحد كبار الملّاحين هناك، بوجهه الذي نقشته السنون وابتسامته التي تعكس فخره بما يصنع، اقترب مني وقال: *"نحن لا نحصد الملح فقط، بل نحصد إرثًا عمره قرون… هذه الأرض تعطي لمن يصبر عليها، وهذا الملح، رغم بياضه الناصع، هو نتاج تعبٍ طويل وصبرٍ كبير."*

أخبرني عن تطور المهنة، كيف كانت قديماً تُعتمد فقط على الطبيعة، وكيف توسعت البرك وزادت الطاقة الإنتاجية، حتى أصبحت جفار القصب تنتج ثلث احتياج المملكة من الملح. نظرت إلى الأفق، حيث كانت أكياس الملح مكدسة بانتظار رحلتها إلى الأسواق، وتساءلت كيف أن هذه الحبيبات الصغيرة، التي لا يخلو منها بيت، تحمل في داخلها قصة طويلة من الكفاح والتاريخ.

وتحتاج برك الملح من شهرين إلى 3 أشهر لإنتاج حوالي 100 ألف كيس من الملح (5 كيلو للكيس).
وللعلم فان إنتاج الملح العالمي يبلغ (273.8 مليون طن) في 2023، كما ارتفع إنتاج السعودية من الملح إلى (2.5 مليون طن) وتحمل المملكة المرتبة 36 بين دول العالم ملحيا. 

مملحة ومنتجع المقحم النموذجية

زرت منتجع المقحم الملحي الجميل والأول على مستوى الخليج العربي حيث استغل أحدى الجفر "حفرة الملح" لتكون موقعا للإستجمام للزوار واماكن استراحة بين ثنايا البركة المتسعة وقد بنيت امواخ من القصب مرتفعة ليتخذ الزوار البركة ممشى ومسارا يخوضون بأقدامهم الملح الطبيعي ومافيه من علاج من اليود والأملاح المعدنية المتنوعة

والمكان مخدوم بالطرق والمرافق ووسائل الراحة ورايت زوار من المملكة والأجانب يفدون اليه لجمال تصميمه وروعة فكرته الاستجمامية النادرة ..
فشكرا للمقحم اضافة هذا الموقع الفريد ضمن مواقع الجذب السياحي بالمملكة ، مع مافي القصب من مواقع تاريخية مميزة أخرى سنتحدّث عنها تفصيليا. 

أول مسجد ملحي تحت الارض بالمملكة وربما بالعالم

في أحد أركان منتجع مملحة المقحم النموذجية ، وقفت أمام "المسجد الملحي"، وهو أول مسجد في العالم يُبنى بجدران من الملح، يشع بلونه العاجي، وكأنه منحوت من ضوء القمر. تذكرت خلال جولتي غرف "الساونا الملحية" في أوروبا، حيث يُستخدم الملح لعلاج الجهاز التنفسي، وأدركت أن لهذه البلورات سرًا لم يُكشف بعد. 

ومن المسجد خرجت من المملحة وأنا أحمل في ذاكرتي مشهدًا لا يُنسى… مئات البرك اللامعة، صفاء البلورات البيضاء، ورائحة الأرض الممزوجة بالملح… إنها ليست مجرد صناعة، بل حكاية صبرٍ وحكمة، تمتزج فيها الطبيعة بالإنسان في رقصةٍ أزلية لا تنتهي.
بلدة القصب التاريخية.. حين يحتضنك المكان وأهله

مدينة القصب والمعروفة بأنها مدينة «الرمال اللامعة» تقع على بعد 160 كيلومترًا شمال غرب العاصمة الرياض. وتتبع محافظة شقراء التابعة لمنطقة الرياض وتتجاوز مساحتها 1365 كيلومترًا مربعًا ويتجاوز عدد سكانها سبعة آلاف نسمة ، وتنتج الملح المستخرج من جوف الأرض الذي يغطي ثلث احتياجات المملكة من الملح
القصب مدينة الملح والتاريخ والكرم الذي يأسر القلوب

عندما غادرت مملحة القصب، كنت أظن أن رحلتي نحو هذه البلدة التاريخية ستكون زيارة عابرة، لا تتجاوز النظرة الخاطفة على تراثها وأزقتها، لكن للقصب سحرًا لا يُرى بالعين وحدها، بل يُشعر بالقلب، وكأن الأرض ذاتها تُصر على إبقاء زائريها بين أحضانها أطول مما خططوا له.
ما إن وصلت إلى مدخل البلدة حتى لمحت لوحة القرية التراثية، وكانت تعج بالحياة، السيارات مصطفة، والزوار يملأون المكان، فقررت العودة أدراجي تجنبًا للزحام. لكن أحد المنظمين، بعفويته وإصراره الجميل، أوقفني بلطف وأكد لي أنني لن أندم على الدخول، وأن القصب ستأسرني بجمالها وأهلها. لم أستطع إلا أن أستجيب لهذه الدعوة الصادقة، وكم كان محقًا! فقد كنت أنوي قضاء نصف ساعة فقط، لكنني مكثت أكثر من ست ساعات، بل كدت أبقى ليلتي هناك لولا التزاماتي اللاحقة.
كرم أهل القصب بأبهى صوره

استُقبلت بحفاوة مدهشة، رجالًا ونساءً، شبابًا وكبارًا، جميعهم يبثون في المكان دفئًا خاصًا. وما إن خطوت في أزقتها حتى أسرني *"أبو نورة، ناصر الغانم"* ، الذي لم يتركني إلا بعد أن أخذني في جولة شاملة داخل القصب، وختمها بعشاء كريم ودعني به وكأنني فرد من عائلته، بل كاد يقنعني بالمبيت في منزله!

أخذتني جولتي بين أحياء البلدة وأسواقها القديمة، وكانت البداية من بيت شيخ القصب عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم، الذي وافته المنية عام 1374هـ وهو من رجالات الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ورحمهم الله جميعا. حفيده كان هناك، يشرح للزوار كيف تحول هذا البيت العريق إلى محكمة في حقبة من الزمن. من هناك، تابعنا نحو قصر إبراهيم الراشد، ثم عبرنا منعطفات القصص التاريخية التي تشكلت بين جدران البلدة العتيقة.

مررنا بإحدى أبرز ديوانيات القصب، ديوانية المنيع من آل عاصم من قحطان، التي تفتح أبوابها طوال العام، ثم وصلنا إلى بيوت السويد والجريان، حيث كان الجميع متواجدين، كبارهم وصغارهم، في استقبال الضيوف، مقدمين العود والقهوة والتمر مع ابتسامات صادقة تعكس أصالة أهل القصب.

ما لفت انتباهي هو ذلك الترابط الاجتماعي القوي، وكأن الجميع يعرف بعضهم بعضًا، فلا تمر برجل أو امرأة إلا ويكون له صلة قرابة أو معرفة بأحد أبناء البلدة. كان أبو عبدالله، أو كما يحب أن يُدعى أبو نورة ناصر الغانم، يعرف كل شخص التقينا به، وكل واحد منهم لديه قصة، جارة الأم، صديق الطفولة، ابن الجار القديم، وهكذا… هذا التداخل الجميل جعلني أشعر وكأنني بينهم منذ سنوات، وليس مجرد زائر عابر.

كان من الملفت أيضًا رؤية رئيس مركز القصب، الأستاذ سعد بن إبراهيم القاسم، وهو يتجول بين الناس، يتفقد الزوار والمشاركين في الموسم، ما يعكس روح الاهتمام بالمكان وزواره. ومن هناك توجهنا إلى دار الحمد (الداغر)، حيث استقبلني أحد أبناء العائلة بجولة داخل المنزل العامر، ثم أهداني رمزًا للقصب: علبة شفافة تحتوي على ملح، مع فنجال صغير يرمز إلى مكانة الملح في حياتهم.

ثم انتقلنا إلى ركن مختلف من القصب، حيث التقينا بالفنان التشكيلي عبدالرحمن بن زاحم، الذي أبدع بتشكيلات خشبية ساحرة تعكس لمسات فنية ذات طابع سريالي. وبعد ذلك مررنا على منزل الشعلان والمحارب والفضل "الفضلي"، ثم المساجد القديمة في البلدة، مثل مسجد لبدة، مسجد الشعبة، والمسجد الجامع (جامع القصر)، وهو الأكبر في القصب.

عبق الماضي ونكهات التراث في اسواق القصب. 

لم تكتمل الجولة دون زيارة الأسواق التقليدية، حيث تجولت في سوق العبيدي، مرورًا بأجنحة الطعام في الموسم، التي قدمت أشهى المأكولات الشعبية مثل المرقوق، الجريش، الكليجة القصبية الأصيلة المقرمشة، وقرص عمر، ذلك الخبز المميز المصنوع من القمح والسكر مع لمسة من الكركم والملح.

أما المطاعم الحديثة فقد أضافت لمسة عصرية للمكان، ومن أبرزها مطعم "كبوتيك BK"، الذي صُمم ليكون من أجمل الساحات القصب، إضافة إلى مشاركة مطاعم "ماما نورة" و"سولت (Salt)"، التي بدأت رحلتها من الخبر ثم جابت العالم لتجد لنفسها مكانًا هنا في القصب، في قلب موسمها الفريد.

القصب مدينة حفرت تاريخها وعمّرت دورها من الأرض ومنها.

ما يميز القصب هو وجود (نقر) وهي "حفر" منتشرة في أنحائها، وهي حفر قديمة اُستخدمت لاستخراج الطين لبناء المنازل، وقد مررت على ثلاث منها، حيث شعرت أنني أمام شاهد حي على تقاليد البناء النجدية العريقة. 
كما تمتلك القصب ثلاث بوابات تاريخية:

البوابة الغربية (باب الحوطة).

البوابة الشرقية (باب المجيبيب)، تصغيرًا للمجبب كونه مسقوفًا.

البوابة الشمالية (باب البرج الشمالي)

وبني سور حولها على طريقة العقادة وهي صب كمية من الطين الممزوج بالتبن المخمّر لايام ، وعلى طول إمتداد السور في اول الامر ، ثم إكمال العقادة وسميت عقادة تشبيها بالعقد المحيط بالرقبة وهو كعقد من الطين فوق العقد الاول ، وحتى نهاية بناء  السور ، وهي ميّزة بناء تقوي السور من الهجمات وتمنع تسلل المياه لأساساته عن الطريقة العادية وهي البناء باللبن الطيني. 

بلدة القصب التاريخية

تقع بلدة القصب وسط نجد، وتتميز بمبانيها الطينية التي شُيّدت وفق أسلوب معماري يعكس بيئتها، حيث استخدمت الطين المتوفر محليًا، بينما كان الحجر نادرًا ويُجلب من مناطق بعيدة، مما جعله عنصرًا محدود الاستخدام في البناء. اعتمدت أسقف المنازل على خشب الأثل وجريد النخل وجذوعها، مما منحها قوةً واستدامة طويلة. أما الأبواب، فقد صُنعت من جذوع النخل المنشورة، وشُدّت بألواح خشبية ومسامير طويلة، مما جعلها قوية متينة.

تضم منازل القصب عدة أقسام، منها المضافة وتسمى "القهوة" أو "الروشن"، وهو المجلس المخصص للرجال، ويكون أحيانًا في الدور العلوي بمدخل منفصل. كما تحتوي المنازل على "الصفة"، وهي غرفة تخزين المؤن، و"بيت الحطب"، و"بيت الخلاء"، الذي أحيانًا يُبنى كبرج متصل بالأرض لتنظيفه. تتميز المنازل بنوافذ مثلثة ونقوش زخرفية تزين واجهاتها، وقد بُنيت بمهارة مكتسبة عبر الأجيال دون تدخل مهندسين.

أما شوارع القصب القديمة، فهي ضيقة، تتراوح بين مترين وثلاثة أمتار، صُممت لمرور الناس والدواب، وليس السيارات. كما تضم القصب "الأبراج" الدفاعية، وهي هياكل مرتفعة لحماية البلدة، و"المجباب" أو "الصاباط"، وهو ممر مسقوف تعلوه غرفة سكنية. وعلى تل شرق البلدة، يوجد "المرقب"، وهو برج مراقبة يُشرف عليه "الرقيبة"، وهو رجل ذو نظر ثاقب يراقب الطرق المحيطة بالقصب.

في المقابل، تحمل القصب الحديثة طابعًا عمرانيًا حديثًا، حيث شُيدت بالمباني المسلحة، وسُفلتت شوارعها، وأُنشئت فيها الحدائق والخدمات الحكومية والمدارس الحديثة، مما يجعلها مزيجًا متناغمًا بين الأصالة والتطور.

الرحيل بصعوبة… والعودة حتمية

حين دقت الساعة التاسعة مساءً، ومع اشتداد البرد، كنت قد اتخذت قراري بالخروج، لكن لم يكن سهلاً انتزاع نفسي من هذا الدفء الإنساني والكرم الذي شعرت به طوال اليوم. بعد جهد طويل في توديع من تعرفت عليهم، انطلقت نحو الرياض، لكن إرهاقي من الرحلة جعلني أتوقف عند مدخل ثادق، في منتزه عبيثران، حيث وجدت مسجدًا صغيرًا، جزى الله من بناه خيرًا، فكان ملاذًا لأخذ قسط من النوم، إذ كانت درجة الحرارة قد وصلت إلى 4°.

استيقظت مع ساعات الفجر الأولى، وأكملت رحلتي نحو الرياض، لكنني كنت أعلم أن هذه ليست الزيارة الأخيرة… فالقصب لم تكن مجرد محطة عابرة، بل قصة جميلة، وموعدٌ مؤجلٌ للعودة.

الرحال وائل الدغفق 1446هـ
رحال الخبر - القصب.