بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد…
تتمتع واحة الأحساء، المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، بإرثٍ تاريخي وجغرافي فريد، شكلت فيه مصادر المياه العذبة شريان الحياة وعماد الحضارة منذ آلاف السنين. وفي قلب هذا المشهد الطبيعي الغني، تبرز مسطحات مائية ذات أهمية بالغة، لم تنل حقها الكامل من الدراسة والتوثيق التاريخي المتعمق، وهي بحيرة الأصفر وبحيرة الحبيل شرق واحة الاحساء حاليا.
وارتبط اسم "البحرين" تاريخيًا بإقليم شرق الجزيرة العربية بأكمله، وهي تسمية اختلف المؤرخون في أصلها؛ فمنهم من أرجعها إلى وجود عدد إثنان من البحار او البحيرات بأسم "بحرين" بالفعل ، وأحد تلك البحار مالح وهو الخليج العربي، والآخر عذب ومتمثل في بحيرات وينابيع المنطقة الداخلية " بحيرة الأصفر" .
وقد أشار مؤرخون قدامى مثل ياقوت الحموي والقلقشندي إلى أن بحيرة هجر (الأصفر حاليًا) كانت أحد هذين البحرين، مما يمنحها بُعدًا تاريخيًا وجغرافيًا استثنائيًا.
ومع ذلك، ساد في العقود الأخيرة تصور شائع يربط نشأة بحيرة الأصفر الحديثة بشبكات الصرف الزراعي التي أُنشئت في الواحة، مما يختزل تاريخها الطبيعي العريق ويطمس هويتها الأصلية كتجمع مائي طبيعي ، وكان قائمًا قبل هذه المشاريع.
ومن هنا، تنطلق هذه الدراسة لتصحيح هذا المفهوم وتقديم رؤية تاريخية موثقة، تطرح إشكالية رئيسية تتمثل في إثبات الأصل الطبيعي لبحيرتي الأصفر والحبيل، ودورهما المحوري في تشكيل جغرافية وهوية إقليم هجر التاريخي.
ولتحقيق هذا الهدف، نسعى في بحثنا هذا إلى تتبع الإشارات التاريخية والجغرافية للبحيرتين في كتابات المؤرخين والرحالة، والمصادر الأرشيفية العربية والأجنبية.
وتحليل السياق الجغرافي الذي أدى إلى ظهور التسمية التاريخية "البحرين"، وربطها بوجود هذين المسطحين المائيين كبحيرتين عذبتين في وسط الإقليم.
كما نسعى لدحض النظرية القائلة بأن بحيرة الأصفر هي نتاج صناعي لمياه الصرف الزراعي، وذلك من خلال استعراض الأدلة التي تشير إلى وجودها كمعلم طبيعي قديم.
ولاشك ان استدلالاتنا أتى بعد جمع وتوثيق ما ورد عن بحيرتي الاصفر والحبيل، والتي غالبًا ما تكون الاخيرة أقل حضورًا في الدراسات، وربط تاريخها بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء من نظام مائي متكامل في المنطقة.
إن هذا البحث لا يقتصر على كونه استعراضًا تاريخيًا، بل هو محاولة لإعادة قراءة جغرافية الأحساء التاريخية والجغرافية ، وإبراز القيمة البيئية والتراثية لهذه المعالم الطبيعية التي كانت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الإقليم العريق.
فيما يلي تفصيل للنقاط الرئيسية التي يمكن بسطها في هذا المبحث:
تفنيد فرضية "البحرين": تحليل جغرافي وتاريخي
تقسيم المبحث إلى عدة محاور رئيسية:
المحور الأول:
المعنى اللغوي والجغرافي لتسمية "البحرين"
1- الأصل اللغوي:
كلمة "البحرين" هي مثنى "بحر". في اللغة العربية، لا يقتصر معنى "البحر" على المياه المالحة الشاسعة فقط، بل يُطلق أيضًا على أي تجمع كبير للمياه، بما في ذلك الأنهار العظيمة والبحيرات العذبة الواسعة.
كما يذكر كتاب "لسان العرب" لابن منظور والذي يشير إلى أن "البحر" هو "الماء الكثير، مِلحًا كان أو عذبًا". وهو دليل وحجر الزاوية في حجتنا هذه.
2- التفسير الجغرافي السائد:
النظرية الأكثر شيوعًا لتسمية إقليم البحرين التاريخي (الذي يمتد من البصرة شمالًا إلى عُمان جنوبًا) هي وجود "بحرين":
البحر المالح: متمثل في مياه الخليج العربي التي تحد الإقليم من الشرق.
البحر العذب: متمثل في المياه الجوفية الهائلة والعيون والينابيع التي اشتهرت بها المنطقة، وخصوصًا واحة الأحساء والقطيف. كانت هذه المياه تتدفق بغزارة على سطح الأرض مكونةً ما يشبه "بحرًا" من المياه العذبة.
المحور الثاني:
تحديد موقع "البحر العذب" - من المفهوم العام إلى الموقع المحدد
هنا نبدأ في الانتقال من الفكرة العامة للمياه الجوفية إلى فرضية البحيرات المحددة.
ومنها شهادات المؤرخين والجغرافيين القدامى كالحموي والقلقشندي .
فياقوت الحموي وماذكره في كتابه (معجم البلدان) ، أشار إلى "بُحيرة هجر" ووصفها بأنها معروفة.
وذكره لبحيرة محددة بالاسم في "هجر" وهو (الاسم القديم للأحساء) هذا دليل مباشر على وجود مسطح مائي كبير ومعروف في قلب الواحة.
(وهنا نفهم ان شهادة ياقوت الحموي هي دليل تاريخي على وجود بحيرة هجر ، وهي (بحيرة الأصفر) المعنية في دراستنا) .
ففي سياق البحث عن الجذور التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، كثيرا ما تبرز قضية أصل "بحيرة الأصفر" وهي أهم الإشكاليات البحثية المتنازع عليها .
ففي حين يميل التصور الحديث إلى اعتبارها نتاجًا صناعيًا لمشاريع الصرف الزراعي، تقدم لنا المصادر التاريخية أدلة قاطعة على وجودها كمعلم جغرافي راسخ منذ قرون
وتُعد شهادة الإمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (المتوفى سنة 626هـ/1229م) في موسوعته الجغرافية الخالدة "معجم البلدان"، الدليل الأبرز والأكثر حسمًا في هذا الشأن.
ونص ياقوت الحموي يعتبر هو الحجة الدامغة
فعند تناوله لأصل تسمية إقليم "البحرين" الكبير، استعرض ياقوت الحموي عدة آراء لغوية، لكنه رفضها واصفًا إياها بـ"التعسف". ثم قدم التفسير الذي اعتمده واعتبره الحقيقة الراجحة، ناقلاً إياه عن اللغوي الكبير أبي منصور الأزهري، حيث قال:
"والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: إنما سُمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال: وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق."
(ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: البحرين)
تحليل النص وأبعاده في إثبات أصالة البحيرة:
إن هذا النص الموجز والمكثف لا يمثل مجرد إشارة عابرة، بل هو وثيقة تاريخية وجغرافية متكاملة، يمكن تفكيك أبعادها على النحو التالي:
المصداقية والقناعة-وهو الصحيح عندنا- :
فلم يورد ياقوت هذا القول كأحد الآراء المطروحة، بل تبناه بشكل كامل وقدمه على أنه الرأي الصحيح. هذا التبني من قِبَل جغرافي ومؤرخ بحجم ياقوت الحموي، يمنح وجود البحيرة في القرن السابع الهجري مصداقية تاريخية لا تقبل الشك، وينفي بشكل قاطع أي ادعاء بحداثة نشأتها.
ثم دقة تحديد ياقوت لموقع البحيرة بقوله:
"على باب الأحساء"
فالنص يدل على موقع البحيرة وأنها "على باب الأحساء".
وفي ذلك العصر، كانت "الأحساء" تشير إلى مناطق تجمع المياه والعيون الغزيرة. وعليه، فإن وصفها بأنها كانت " على بابها " يتطابق جغرافيًا مع موقع بحيرة الأصفر الحالية، التي تمثل الحافة الشرقية للواحة ونقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة منها.
ثم وصفه الأبعاد الشاسعة للبحيرة(ثلاثة أميال في مثلها)
تقدير مساحة البحيرة ، فكل ميل يساوي 1.8كلم تقريبا اي المساحة حوالي 5.4 كم × 5.4 كم تقريبا ، وهو دليل على أنها كانت معلمًا جغرافيًا هائلاً وبارزًا للعيان، لا مجرد مستنقع موسمي. هذه المساحة الشاسعة هي التي أهّلتها لتكون "بحرًا" في نظر الأقدمين، وأحد طرفي المعادلة في تسمية "البحرين".
ثم الوصف الهيدروجيولوجي الدقيق (لا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق)
يقدم ياقوت وصفًا علميًا دقيقًا لطبيعة البحيرة. فقوله "لا يفيض ماؤها" يؤكد أنها حوض تصريف داخلي مغلق (Endorheic basin)، لا منفذ له إلى البحر. وقوله "ماؤها راكد زعاق" (مالح) هو النتيجة الطبيعية لتبخر المياه في حوض مغلق بمنطقة صحراوية، مما يؤدي إلى تركيز الأملاح. هذا الوصف يطابق تمامًا الطبيعة الجيولوجية والبيئية لبحيرة الأصفر، ويدحض أي تصور بأنها كانت بحيرة عذبة.
خاتمة مانقل عن ياقوت الحموي واستنتاج.
إن شهادة ياقوت الحموي لا تقتصر على إثبات وجود "بحيرة هجر" (الأصفر) قبل أكثر من ثمانية قرون، بل هي تؤسس لأهميتها المحورية في هوية الإقليم الجغرافية. وبإثبات وجود "البحر العذب" الأول بشكل قاطع من خلال هذا النص التاريخي.
ويُفتح الباب منطقيًا للبحث عن شريكه الثاني الذي تكتمل به صيغة المثنى في تسميته بـ "البحرين". وهنا، يبرز دور "بحيرة الحبيل" كمرشح طبيعي ومنطقي لتكون "البحر الثاني"، المكمل للنظام المائي المتكامل الذي شكل هوية واحة الأحساء عبر العصور.
وعليه، فإن نص ياقوت الحموي لا يمثل مجرد دليل، بل هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه حجة الأصل الطبيعي للبحيرتين، وتُدحض به نظرية النشأة الصناعية الحديثة.
وضمن الأدلة المنقولة ومزيد من النقولات التازيخية ، نضيف ماذكره القلقشندي (صبح الأعشى)
وماذكره عن أن تسمية البحرين تعود لوجود بحيرة في طرف هجر يصب فيها "نهر محلّم"، طولها ثلاثة أميال. وهذا الوصف، على الرغم من أنه قد لا يكون دقيقًا بالكامل، الا انه يؤكد فكرة وجود بحيرة فعلية كانت معلمًا جغرافيًا بارزًا.
شهادة القلقشندي في "صبح الأعشى" كدليل مساند على ماقاله ياقوت الحموي في أصالة بحيرة هجر.
فإلى جانب الدليل القاطع الذي قدمه ياقوت الحموي، تأتي شهادة مؤرخ ودبلوماسي آخر من العصر المملوكي، وهو شهاب الدين أبو العباس القلقشندي (المتوفى سنة 821هـ/1418م)، وهو قد اتى بعد ياقوت بـ 300 عام ولتعزز ادلته من الحقيقة التاريخية لوجود بحيرة كبرى في هجر. في موسوعته الإدارية والجغرافية الضخمة "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وفي سياق حديثه عن إقليم البحرين، يقدم القلقشندي وصفًا يؤكد وجود هذا المعلم الجغرافي، مضيفًا تفاصيل جديدة تدعم فرضية البحث.
ففي أثناء تحديده لإقليم البحرين وأسباب تسميته، يورد القلقشندي تفسيرًا جغرافيًا واضحًا، حيث يقول:
"وسُمي الإقليم جميعه بالبحرين، تثنية بحر، لوجود بحرين به في طرفيه الشرقي والغربي: فالشرقي منهما هو البحر المعروف ببحر فارس، وهو بحر الهند... والغربي منهما بحيرة في طرف بلاد هجر من جهة الشمال، يصب فيها نهر محلِّم المشهور عندهم، وطول هذه البحيرة ثلاثة أميال وعرضها دون ذلك."
النصدر : (القلقشندي، "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، الجزء الخامس)
تحليل النص وأبعاده في دعم فرضية البحث:
اولا هو تأكيد مباشر لنظرية "البحرين"
فالقلقشندي يقدم تفسيرًا صريحًا ومباشرًا للتسمية، رابطًا إياها بوجود "بحرين" حقيقيين: بحر مالح (الخليج العربي)، وبحر عذب (البحيرة)، هذا التأكيد من مؤرخ موسوعي مثل القلقشندي يمنح الفرضية وزنًا تاريخيًا كبيرًا، ويؤكد أن هذا التفسير الجغرافي كان شائعًا ومعتمدًا في دوائر العلم والإدارة في القرن التاسع الهجري.
ثانيا تحديده للموقع بقوله: "في طرف بلاد هجر"
يتفق القلقشندي مع ياقوت في تحديد الموقع العام للبحيرة بأنها "في طرف بلاد هجر". هذا الوصف يعزز التطابق الجغرافي مع موقع بحيرة الأصفر على الحافة الشرقية لواحة الأحساء.
ثالثا وصف الأبعاد (طولها ثلاثة أميال وعرضها اقل)
يتوافق تقدير القلقشندي لطول البحيرة (ثلاثة أميال) مع ما ذكره ياقوت الحموي، مما يشير إلى أن حجمها كان معروفًا ومستقرًا نسبيًا في الذاكرة التاريخية والجغرافية. هذا التوافق بين مصدرين يفصل بينهما قرنان من الزمان يعطي مصداقية عالية لوجود معلم جغرافي ثابت وراسخ.
رابعا إضاف معلومة هيدرولوجيةبقوله: "يصب فيها نهر محلِّم"
يضيف القلقشندي تفصيلاً فريدًا وهو أن "نهر محلِّم" يصب في هذه البحيرة. "نهر محلِّم" هو أحد الأنهار أو القنوات المائية الرئيسية القديمة في واحة الأحساء. هذه الإشارة بالغة الأهمية لسببين:
- تأكيد الأصل الطبيعي لان ذكر اتصال البحيرة بنهر رئيسي في الواحة هو دليل مباشر على أنها كانت جزءًا من النظام المائي الطبيعي لهجر، حيث كانت تمثل نقطة التصريف النهائية للمياه الفائضة من الأنهار والعيون.
-دحض نظرية الصرف الزراعي فهذه الشهادة، تعود إلى ما قبل 600 عام، وتثبت أن البحيرة كانت تستقبل مياه الواحة عبر قنوات طبيعية أو قديمة (مثل نهر محلِّم) قبل إنشاء شبكات الصرف الحديثة بقرون طويلة، مما ينسف الادعاء بأنها نتاج لهذه الشبكات.
خاتمة واستنتاج:
تأتي شهادة القلقشندي لتكمل شهادة ياقوت الحموي وتؤكدها. فإذا كان ياقوت قد أثبت وجود البحيرة وحجمها وطبيعتها المغلقة، فإن القلقشندي يؤكد كل ذلك ويضيف بعدًا جديدًا عبر ربطها بشكل صريح بأحد أنهار الواحة الرئيسية. إن اجتماع هاتين الشهادتين من مصدرين تاريخيين موثوقين يفصل بينهما زمن طويل، لا يترك مجالاً للشك في أن "بحيرة هجر" (الأصفر) كانت معلمًا جغرافيًا أصيلاً، وكيانًا مائيًا بارزًا، وجزءًا لا يتجزأ من النظام الهيدرولوجي لواحة الأحساء، وأحد السببين الرئيسيين وراء تسمية الإقليم بـ"البحرين".
ادلة اخرى تضاف لما ذكرنا انفا.
وختام الادلة القديمة عن البحيرتين سندرس في آخر ماتم ذكره لكلا من الذين كتبو عن تلك المنطقة كالإدريسي وغيره ، وعن أي إشارات في الخرائط أو الكتابات التي وثقوها للمسطحات المائية الداخلية في شرق الجزيرة العربية.
خاصة بعد إرساء الأدلة النصية القوية من ياقوت الحموي والقلقشندي، فهنا يأتي دور الأدلة الخرائطية والجغرافية من شخصيات بارزة مثل الشريف الإدريسي، الذي يشتهر بعمله الخرائطي الدقيق.
وسأقوم الآن بالبحث والتحليل لأعمال الإدريسي وغيره من الجغرافيين الذين سبقوه أو عاصروه، وصياغة النتائج في مقال مُحكَّم بنفس المنهجية.
فبعد أن أرست المصادر النصية لياقوت الحموي والقلقشندي أساسًا متينًا لوجود بحيرة كبرى في هجر، يتجه البحث إلى نوع آخر من الأدلة لا يقل أهمية، وهو الدليل الخرائطي (الكارتوغرافي). وتبرز في هذا المجال أعمال الشريف الإدريسي (المتوفى سنة 560هـ/1165م)، أحد أعظم الجغرافيين وصانعي الخرائط في العصور الوسطى.
إن فحص خرائطه وكتاباته في موسوعته "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، يوفر بعدًا بصريًا وجغرافيًا يعزز الأدلة النصية ويدعم فرضية الأصل الطبيعي للبحيرات في واحة الأحساء.
تحليل خريطة الإدريسي وكتاباته
على الرغم من أن الإدريسي لم يذكر "بحيرة هجر" بالاسم الصريح كما فعل ياقوت الحموي، إلا أن تحليلاً دقيقًا لخريطته الخاصة بالجزيرة العربية وكتاباته يكشف عن أدلة مهمة:
تصوير المياه الداخلية في إقليم البحرين
في خريطته الشهيرة، التي تُعد من أدق خرائط عصرها، يصور الإدريسي إقليم البحرين (هجر) كمنطقة غنية بالمياه بشكل لافت. الأهم من ذلك، أنه يرسم ما يمكن تفسيره بوضوح على أنه تجمعات مائية داخلية (Inland water bodies) منفصلة عن ساحل الخليج العربي.
تظهر هذه التجمعات المائية في الموقع التقريبي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشرق من المناطق الحضرية التي يصورها. هذا التمثيل البصري، القادم من جغرافي دقيق مثل الإدريسي، هو دليل قوي على وجود مسطحات مائية كانت من الأهمية والشهرة بحيث تستحق أن تُرسم على خريطة العالم المعروف آنذاك.
ثم وصف الأنهار التي تصب في الداخل
في كتابه "نزهة المشتاق"، يصف الإدريسي الأنهار والعيون في منطقة هجر، ويذكر أن بعضها يجري لمسافات ثم "يغور في الأرض" أو ينتهي في مناطق داخلية. هذا الوصف يتوافق تمامًا مع نظام هيدرولوجي ينتهي في أحواض تصريف مغلقة، مثل منخفضي الأصفر والحبيل، بدلاً من أن يصب في البحر.
إن رسمه لمجاري مياه لا تصل إلى الخليج، بل تنتهي في الداخل، هو تأكيد جغرافي على وجود نقطة تجميع نهائية لهذه المياه، وهي البحيرات التي نبحث عنها.
أهمية شهادة الإدريسي
تكمن أهمية دليل الإدريسي في كونه دليلاً بصريًا فالخريطة تقدم دليلاً مرئيًا ومكانيًا يكمل الوصف النصي عند ياقوت والقلقشندي، رؤية مسطح مائي مرسوم على خريطة من القرن السادس الهجري هو حجة بصرية قوية.
ومن المعروف ان الإدريسي عاش وألف كتابه قبل ياقوت الحموي، مما يعني أن وجود هذه البحيرة كمعلم جغرافي بارز كان حقيقة مسلمًا بها قبل القرن السابع الهجري.
هذا التسلسل الزمني (الإدريسي ثم ياقوت ثم القلقشندي) يخلق سلسلة متصلة من الأدلة التاريخية تمتد لقرون.
الجغرافيون الآخرون (بطليموس والمسعودي):
ولتعزيز الحجة، يمكن الإشارة إلى جغرافيين آخرين:
كلوديوس بطليموس (القرن الثاني الميلادي):
في خرائطه القديمة للجزيرة العربية (Geographia)، ورغم صعوبة مطابقة الأسماء القديمة بالحديثة، فإنه يصور وجود بحيرات داخلية (Paludes) في شرق الجزيرة العربية. هذه الإشارة، وإن كانت عامة، تدل على أن فكرة وجود بحيرات في هذه المنطقة تعود إلى العصور الكلاسيكية القديمة وسنكتب عن بحيرة الربع الخالي في بحث قادم وهي بحيرة قديمة تفصل عمان عن جزيرة العرب حسب الرسم الطبوغرافي لارض الربع الخالي .
وكذلك المسعودي عاش بالقرن الرابع الهجري وفي كتبه مثل "مروج الذهب"، وصف المسعودي غنى منطقة هجر بالعيون والمياه الجارية، واصفًا إياها بأنها "أرض العيون والأنهار". هذا الوصف لغزارة المياه يجعل من وجود بحيرات لتصريف هذا الفائض أمرًا منطقيًا ومتوقعًا من الناحية الجغرافية.
خاتمة واستنتاج:
إن المصوّرات الجغرافية، وعلى رأسها خريطة الشريف الإدريسي، تقدم دليلاً من نوع مختلف، فهو دليل بصري ومكاني يؤكد ما جاء في النصوص. إن رسم مسطحات مائية داخلية في منطقة هجر، ووصف الأنهار التي تنتهي في أحواض مغلقة، يتضافر مع شهادات ياقوت والقلقشندي ليشكل حجة متكاملة متعددة المصادر. هذه الأدلة مجتمعةً ترسم صورة واضحة لواحة الأحساء كنظام مائي فريد، كانت بحيرتا الأصفر والحبيل جزءًا أصيلاً وطبيعيًا منه، وشاهدتين على تاريخ طويل من وفرة المياه التي منحت الإقليم اسمه الخالد: "البحرين".
من خرائط الادريسي للجزيرة العربية
المحور الثالث:
فرضية البحيرتين (الأصفر والحبيل) كأساس للتسمية
وناتي الآن لمحبث الربط بين "بحيرة هجر" و"بحيرة الأصفر" ، فبحيرة الأصفر هي المسطح المائي الأكبر والدائم تاريخيًا في واحة الأحساء. موقعها يتوافق مع الأوصاف العامة لـ "بحيرة هجر" ، ويمكن القول بأن "بحيرة هجر" المذكورة في المصادر التاريخية هي التسمية القديمة لما يُعرف اليوم بـ "بحيرة الأصفر".
وربما يكون هذا هو جوهر مبحثنا الذي نتميز فيه ، لماذا بحيرتان وليس بحيرة واحدة؟
فإذا كانت التسمية هي "البحرين" (بصيغة المثنى)، فمن المنطقي جغرافيًا البحث عن "بحرين" عذبين وليس بحرًا واحدًا.
هنا تقدم بحيرة الحبيل كمرشح ثانٍ لتكون "البحر العذب الثاني". على الرغم من أنها قد تكون أصغر أو أقل شهرة اليوم، إلا أن وجودها التاريخي إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم تفسيرًا جغرافيًا مباشرًا ومقنعًا لصيغة المثنى.
ولعلنا نطلق على هذه المرحلة بناء الحجة
فالفرضية تسمية "البحرين" لا تشير فقط إلى (الخليج + المياه الجوفية) بشكل عام، بل يمكن أن تشير بشكل أكثر تحديدًا ودقة إلى (الخليج المالح + بحيرتين عذبتين) هما الأصفر والحبيل.
هذا التفسير يحل إشكالية لماذا لم تُسمَّ مناطق أخرى غنية بالمياه الجوفية (مثل بعض مناطق العراق أو الشام) بـ "البحرين". التميز الجغرافي لهجر لم يكن فقط في غزارة مياهها، بل في وجود بحيرات سطحية واضحة المعالم يمكن الإشارة إليها كـ "بحر".
المحور الرابع
دحض النظريات المضادة وتعزيز الفرضية.
لنأخذ بداية تفنيد نظرية "البحيرة الصناعية" ولدحض فكرة أن بحيرة الأصفر هي مجرد حوض لتجميع مياه الصرف الزراعي او حوض اصطناعي وليس اصيل ماجمعناه من ادلة كالتالي:
اولا: الشهادات التاريخية لكلا من (ياقوت الحموي، والقلقشندي وخرائط ووصف الادريسي والمسعودي) والتي سبقت إنشاء مشاريع الري والصرف الحديثة بمئات السنين.
ثانيا: الطبيعة الجيولوجية للمنطقة، فبحيرة الأصفر تقع في منطقة منخفضة (سبخة)، وهي نقطة التجمع الطبيعية للمياه الفائضة من عيون الواحة والسيول القادمة من الأودية الغربية (مثل وادي المياه).
ثالثا: مشاريع الصرف الحديثة لم تخلق البحيرة، بل استخدمت المنخفض الطبيعي الموجود أصلًا كوجهة نهائية لمياهها، مما زاد من مساحتها وعمقها، لكنها لم تؤسسها من العدم.
رابعا : واخيرا فربما وجود وادي محلم يعزز ويتوّج الادلة كونه يخترق البحيرتين في مجراه من واحة الاحساء وباتجاه الخليج العربي وهو ما ايده المسعودي في خرائطه والمسعودي والحموي والقلقشندي ايضا.
خلاصة المبحث:
لخصت حجة مبحثنا بأن التفسير التاريخي والجغرافي الأكثر اتساقًا لتسمية "البحرين" هو الذي يقر بوجود بحر مالح (الخليج) وبحرين عذبين (بحيرتا الأصفر والحبيل).
وهذا التفسير لا يلغي نظرية المياه الجوفية، بل يكملها ويحددها، ويقدم دليلًا ماديًا ملموسًا (البحيرات) على سبب فرادة هذا الإقليم وتسميته.
ومرور "نهر محلم" لتلك البحيرتين اتياً من واحة الاحساء ليصب في الخليج العربي انما يعزز الفكرة من جهتين جيلوجياً وجغرافياً .
ومن هنا ننتهي من بسط قضية اولية لمبحثنا تبدأ باللغة، ثم تنتقل إلى التاريخ، وتستخدم الجغرافيا والحيلوجيا، لتقديم تفسير جديد ومحدد، لنختمه بدحض أفكار شائعة وخاطئة عن صناعية البحيرتين وحداثتهما.
_________________________________
بحيرة الحبيل الشريك المنسي في النظام المائي لواحة الأحساء شمال بحيرة الاصفر.
الكشف عن النصف الآخر من الحقيقة.
في الوقت الذي حظيت فيه "بحيرة الأصفر" بالاهتمام الأكبر في الدراسات التاريخية والجغرافية لواحة الأحساء، بقيت جارتها الشمالية، "بحيرة الحبيل"، في الظل، كشريك منسي في النظام المائي العريق للواحة. إن إغفال دور بحيرة الحبيل لا يترك صورة تاريخ الواحة المائي منقوصة فحسب، بل يفقدنا الدليل الجغرافي الأكثر إقناعًا لتفسير تسمية "البحرين" بصيغة المثنى. يهدف هذا المبحث إلى إعادة اكتشاف هذا المعلم الجغرافي الأصيل، وإثبات أصله الطبيعي، وربطه بتاريخ بحيرة الأصفر كجزء لا يتجزأ من نظام بيئي متكامل.
فموقع بحيرة الحبيل في الطرف الشمالي الشرقي لواحة الأحساء، وتحديدًا إلى الشمال الشرقي من مدينة العيون التاريخية. وكما هو حال بحيرة الأصفر، تقع الحبيل في منخفض طبوغرافي طبيعي (سبخة)، مما يجعلها حوضًا مثاليًا لتجمع المياه السطحية. أما عن تسميتها، فكلمة "الحبيل" في لهجة المنطقة قد تشير إلى قطعة الأرض الزراعية المحددة، مما قد يدل على قربها من النشاط الزراعي القديم، أو قد تحمل جذورًا تاريخية أعمق تستدعي مزيدًا من البحث.
إن سبب شهرتها الأقل مقارنة بالأصفر يعود إلى عاملين رئيسيين الحجم والموسمية ، وكانت بحيرة الحبيل أصغر حجمًا وأكثر تأثرًا بالمواسم. فبينما حافظت الأصفر على وجود شبه دائم للمياه بفضل استقبالها فائض مياه الواحة بأكملها، كانت الحبيل تعتمد بشكل أكبر على فيض العيون الشمالية القريبة (كعين الحبيل) ومياه السيول، مما جعلها أكثر عرضة للتقلص أو الجفاف، كما وجهت مشاريع الري والصرف الحديثة اهتمامها نحو بحيرة الأصفر كنقطة تصريف رئيسية، مما كرسها في الدراسات الحديثة وأبقى بحيرة الحبيل على الهامش.
من الأدلة على الأصل الطبيعي والتاريخي لبحيرة الحبيل هو: الأدلة الجيولوجية والطبوغرافية ، لأن منخفض الحبيل هو تكوين جيولوجي طبيعي، شأنه شأن منخفض الأصفر. كلاهما يمثلان نقاط النهاية الطبيعية (أحواض مغلقة) لنظام التصريف المائي القديم في المنطقة. ففي العصور المطيرة، كانت هذه المنخفضات هي الوجهة النهائية لمياه الأودية والسيول، وربما كانت وجهة لأحد الأنهار القديمة التي ذكرها المؤرخون كنهر "محلِّم".
المصادر المحلية والروايات الشفهية:
تشير كتابات بعض الباحثين المحليين في الأحساء، مثل عبد الخالق ، إلى تاريخ هذه المناطق كسبخات وأراضٍ رطبة. كما أن الذاكرة الشفهية لكبار السن في مدينة العيون والقرى المجاورة تحمل إشارات ثمينة إلى امتلاء "سبخة الحبيل" بالمياه في مواسم الأمطار الغزيرة، قبل وقت طويل من المشاريع الحديثة.
ومن الادلة المؤشرات الأثرية
إن وجود مواقع أثرية قديمة بالقرب من حوض بحيرة الحبيل (وهو أمر يستدعي مسحًا أثريًا متخصصًا) من شأنه أن يقدم دليلاً قاطعًا على أنها كانت تشكل بيئة جاذبة للاستيطان البشري، كمصدر للمياه أو الموارد الغذائية والرعوية.
نظرية الحوضين المتكاملين "الأصفر والحبيل"
إن النظرة الشاملة للنظام المائي في واحة الأحساء تقودنا إلى فرضية "الحوضين المتجاورين"، التي تقدم تفسيرًا متكاملاً لتاريخ المنطقة وجغرافيتها:
فالحوض الجنوبي (الأصفر) كان يستقبل فائض المياه من عيون وسط وجنوب الواحة، بالإضافة إلى السيول الكبرى القادمة من الغرب عبر وادي المياه.
اما الحوض الشمالي (الحبيل) فقد كان يستقبل فائض المياه من عيون شمال الواحة (مجموعة عيون مدينة العيون)، بالإضافة إلى السيول المحلية.
هذا النموذج لا يعني بالضرورة عزلة الحوضين، بل تكاملهما. ففي سنوات الفيضان والأمطار الغزيرة، كان منسوب المياه يرتفع في البحيرتين لدرجة قد تؤدي إلى اتصالهما، أو على الأقل ظهورهما كمسطحين مائيين عظيمين متجاورين. هذا المشهد البصري المهيب هو التفسير الجغرافي الأكثر منطقية للتسمية التاريخية "البحرين": بحر مالح في الشرق (الخليج)، وبحران عذبان في الداخل (الأصفر والحبيل).
وندخل الآن في الأهمية البيئية المشتركة
كانت كلتا البحيرتين تشكلان نظامًا بيئيًا حيويًا واحدًا، حيث كانتا محطات رئيسية للطيور المهاجرة، ومصدرًا للملح ومراعي للماشية في فترات الجفاف، وعاملاً مؤثرًا في تلطيف المناخ المحلي للواحة.
وخلاصة القول:
إن دراسة تاريخ واحة الأحساء المائي لا تكتمل بالنظر إلى بحيرة الأصفر وحدها. فبحيرة الحبيل ليست مجرد ظاهرة ثانوية، بل هي معلم جغرافي وتاريخي أصيل، وشريك أساسي في تشكيل هوية الواحة. إن وجودها إلى جانب بحيرة الأصفر يقدم الدليل المادي المفقود لتفسير تسمية "البحرين" بصيغة المثنى تفسيرًا جغرافيًا دقيقًا. لذا، يدعو هذا البحث إلى إعادة الاعتبار لبحيرة الحبيل في الدراسات التاريخية والبيئية، كجزء لا يتجزأ من التراث الطبيعي العريق لواحة الأحساء.
بحيرة "الحبيل" المفترَضة
- المصادر الحديثة لا تذكر بحيرة باسم "بحيرة الحبيل" بشكل مباشر. إلّا أن المحاضرة التي أشار إليها الجغرافي منصور العامر تحدثت عن بحيرة الحبيل التي تخدم المناطق الشمالية داخل الإقليم ذاته ضمن شبكة البحيرات الطبيعية القديمة في الاحساء/هجر .
- يُحتمل أن تكون هذه البحيرة من أجسام مائية موسمية أو منخفضات أرضية وجيولوجية كانت موجودة سابقًا، وربما تُستخدم محليًا تحت مسمى "الحبيل". لكن لا توجد تفاصيل منشورة عنها في المصادر العالمية الكبرى مثل الكونغرس أو المكتبات الأوروبية.
الخلاصة والربط التاريخي
- بحيرة الأصفر هي البحيرة الرئيسية التاريخية في أرض هجر/البحرين، وكانت تسمى بحيرة هجر، وهي من البحيرات العذبة التي ميزت المنطقة عن البحر المالح (الخليج).
- بحيرة الحبيل قد تكون إحدى البحيرات الثانوية أو التجمعات المائية الموسمية شمال منطقة الهجر، حسب إشارات الجغرافيين المحليين، لكنها غير موثقة في المصادر الكبيرة.
- تسمية البحرين قديماً يعزز فكرة وجود بحيرتين أساسيتين ضمن الإقليم: البحر المالح (الخليج) وبحيرة الأصفر (والربما أخرى مثل الحبيل)، وهما "البحران" اللذان أعطاها الاسم.
- توجد مراجع في مكتبات مثل مكتبة الكونغرس وبعض الجامعات الأوروبية التي درسّت إقليم البحرين التاريخي، الأنهار القديمة مثل وادي المحلم، واعتماد GIS في بحوث واحة الأحساء، ومعظم التراث يُرجع إلى كتب الجغرافيا ومؤرخين مثل Hamawi وQalqashandi وZamakhshari الذين ذكروا البحيرة تاريخيًا .
- * منهج البحث وأهدافه ................................................. (رقم الصفحة)
- الفصل الأول: بحيرة هجر (الأصفر).. شاهد التاريخ
- المبحث الأول: شهادات المؤرخين والجغرافيين ............ (رقم الصفحة)
- المبحث الثاني: من "هجر" إلى "الأصفر" .................... (رقم الصفحة)
- الفصل الثاني: بحيرة الحبيل.. الشريك المنسي
- المبحث الأول: التعريف ببحيرة الحبيل وأدلة وجودها ..... (رقم الصفحة)
- المبحث الثاني: نظرية الحوضين المتكاملين ................. (رقم الصفحة)
- الفصل الثالث: تفنيد نظرية النشأة الصناعية ................... (رقم الصفحة)
- خاتمة ..................................................................... (رقم الصفحة)
- قائمة المصادر والمراجع ............................................... (رقم الصفحة)