الأحد، 16 نوفمبر 2025

اللقاء السادس لرحالة الجزيرة العربية بالمدينة المنورة رحال الخبر 1447هـ

🌙✨ مقدمة الرحلة..

🌿 بين طرق التاريخ ونبض الروح… تبدأ الحكاية

حين أعلنّا عن لقاء رحالة الجزيرة العربية السادس في المدينة المنوّرة، لم نكن نعدُ برحلة عادية…
كنّا ندعو لرحلةٍ تمشي على خطى النبي ﷺ، وتتنفّس من هواء طيبة، وتستعيد لحظات غزواتها وآثارها، كأن الزمن يعود بك إلى القرن الأول للهجرة.

مدينة ليست كغيرها…
هواءها أرقّ، ونسيمها أصدق، وسكناها جزء من عبادة.

في هذه الرحلة:
صعدنا أُحد عند الغروب… حيث الجبل الذي يحبّنا ونحبّه.
وسرنا في الخندق… حيث حُفرت معركة كاملة بالإيمان قبل الحجارة.
ودخلنا القبلتين… المكان الذي تغيّرت فيه اتجاهات الأمة بلحظة طاعة.
وشهدنا نور القرآن يُطبع صفحةً صفحة في مجمع الملك فهد.
وصلّينا في المسجد النبوي… حيث السكينة تنزل ببركة المكان.
والتقينا بأهل المدينة… بقلوب الأنصار وكرم السقيا.
وختمناها فجراً بالمشي إلى قباء، اقتداءً بخطى الحبيب ﷺ.
كانت الرحلة مزيجًا من:
سيرة… وتاريخ… وتأمّل… وروحانية… ولقاءات لا تُنسى.
رحلة نتركها…
لكن أثرها لا يتركنا.
وفي التفاصيل ادناه نكهة وعبر..

🌿 تقرير ترحالي عن لقاءنا السادس لرحالة الجزيرة العربية بالمدينة المنوّرة. 

سار الرحالة في دروب طيبة الطيبة والتي امتزجت بمشاعر الحاضر وظلال السيرة النبوية.

🌙 اليوم الأول – الأربعاء: بداية الحكاية

ما إن حللنا بالمدينة حتى أحسسنا أنّ الهواء هنا مختلف… ليس مجرّد نسيمٍ يهبّ من وادي العقيق، بل شعور خفيّ يذكّرك بأنك تمشي في أرضٍ أحبها النبي ﷺ ودعا لها بالبركة.
كنّا نستعد في الفندق  (فندق سكون) لاستقبال الرفاق، وكل وجهٍ يصل يحمل في عينيه فرح اللقاء وسكينة المكان… وكأن المدينة – بطريقتها الهادئة – تفتح ذراعيها لنا.

قبيل التعارف سنحت لنا الفرصة مع بقية الأخوة لارتقاء جبل أحد قبيل المغرب لرؤية المدينة وقت الغروب ، وكان المكان منظمّا حيث يستقبلك مركز جبل احد بتجهيز سيارات لارتقاء الجبل بسعر 35 ريال لارتقائه ..
وخلال ربع ساعة بالسيارة وانت في اعلاه لتتمتع بمشاهدة أجمل منظر لتلك المدينة المباركة.
وكانك في شرفة تطل على التاريخ ، مدينة مباركة تتلألأ بأنوارها وتاريخها وسلامها ..
 
رجعنا قبيل العشاء لنلتقي في حفل التعارف مع بقية المجموعة في ردهة الفندق… 

وفي لقاء التعارف المسائي، اجتمع الرحّالة حول بعضهم بعضًا، في بهو الفندق (فندق سكون) وحديث المدينة وحده كان يكفي ليجمع القلوب.
وفي ساعة العشاء الأولى، شعر كل واحد منا أنّ القادم ليس لقاءً عاديًا… بل رحلة تربيةٍ روحية قبل أن تكون جغرافية.
ورحلة روحيّة تُربّي القلب قبل أن تُمتّع العين… 

ولأن المدينة تعرف كيف تهبك ما تحتاجه قبل ان تطلبه.. 

وأختتمنا أمسيتنا بجولة لأجمل منتجعات المدينة وفي منتزه "ريف البستان" كان اللقاء والعشاء… 
🌿 زيارتنا لمنتزه “ريف البستان”

كانت زيارتنا لمنتزه ريف البستان إحدى المحطات الهادئة التي تمنح المسافر لحظة توازن بين الطبيعة والخدمات العائلية المتقنة. فالمكان — منذ اللحظة الأولى — يعطيك إحساسًا أنك تدخل “حديقة نخيل” صُمِّمت بروح ريفية نظيفة، وبخطّة تنظيمية دقيقة تُشعر الزائر بالراحة والانسيابية.

🌴 جلسات بين النخيل… طبيعة لا تُصنَع

يمتد المنتزه بممراته وجلساته بين أشجار النخيل العالية، ما يمنح المكان ظلًا طبيعيًا ورائحة ترابية محبّبة.
الجلوس هناك يجعلك ترى كيف يمكن للطبيعة أن تكون جزءًا من التصميم، لا مجرد خلفية له.
الجلسات مرتّبة، نظيفة، ومسافاتها متباعدة بما يناسب العائلات الباحثة عن الخصوصية والراحة.

محلات وكافيهات… خدمة بلا ضجيج
تتوفر في ريف البستان عدة محلات وكافيهات موزّعة بشكل ذكي على أطراف المنتزه، بحيث لا يحتاج الزائر للمشي الطويل للحصول على قهوة، أو وجبة خفيفة، أو احتياجات الأطفال.
الأسعار مناسبة، والخدمة هادئة، بلا ازدحام ولا تدافع… وهذا ما يجعل المكان صديقًا للعائلة.
🐦 محمية الطيور "أويا"… محطة مدهشة للأطفال

في قلب المنتزه توجد محمية الطيور أويا (OUYA)، وهي إضافة رائعة تُدهش الصغار والكبار.
تضم المحمية مجموعة من الطيور ذات الألوان الهادئة والأنواع المتنوعة، مع إمكانية اقتراب الأطفال منها في بيئة آمنة ومراقبة.
إحدى نقاط القوة في المكان أنّ رسوم الدخول للمحمية مناسبة جدًا، ما يجعل التجربة التعليمية والترفيهية بمتناول الجميع.

👨‍👩‍👧‍👦 مناسب للعائلات… على أعلى مستوى

ريف البستان يُعدّ واحدًا من الأماكن التي ينطبق عليها وصف:
"مكان تم تصميمه للراحة… لا للزيارة السريعة."
جلسات عائلية مريحة
مساحات للأطفال للعب بأمان
محلات وكافيهات متنوعة
أسعار دخول معتدلة
أجواء ريفية تبعث على الاسترخاء

أكثر ما لفتنا هو أن المكان متوازن: لا ازدحام خانق، ولا صخب، ولا مبالغة في الأسعار… بل تنظيم هادئ يعطيك فرصة للاستمتاع بالجلسة دون تعكير.

كانت زيارة ريف البستان فرصة لالتقاط الأنفاس بين ظلال النخيل، وتذوق سكينة الريف بعيدًا عن ضوضاء المدينة. مكان مناسب للعائلات، مبهج للأطفال والكبار ، ومنعش لروح المسافر الذي يبحث عن لحظة سلام بين الخضرة والظل.

🌄 اليوم الثاني 
الخميس: على خطى السيرة… من أُحد إلى الخندق
٨:٣٠ – ٩:٥٠ ص زيارة موقع غزوة أُحد

الجولة لم تكن عادية خاصة مع المرشد الغني عن التعريف ابو اسعد حسن الحربي الذي ينقلك لمكان الحدث وكأنك تعيش فيه بحديثه التاريخي لسيرة خير الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ..

فيبدأ حديثه بكل جمال ووضوح وروعة الحديث مع شوق لتلك الاحداث العميقة حيث يمتلك مفاحا فريدا لدخول زمن النبوّة ، ويبدأها بقوله: 

مع بزوغ الشمس على جبل أُحد، وقفنا أمام الجبل الذي قال فيه النبي ﷺ:
«هذا أُحد جبلٌ يحبّنا ونحبّه».
كان نسيم الصباح يمرّ بين الصخور كأنه يروي قصة الشهداء.
تجوّلنا بين السفوح، نتأمل الرماة ومواقعهم، ونتخيل لحظة اهتزاز الصف يوم أحد… وكيف تقوم أمة من درسٍ واحد.

غزوة أُحد… 
الجبل الذي يحبُّنا ونحبّه… 

حين تقف أمام جبل أُحد، تشعر أنّ الصخور تنظر إليك بوقارٍ عجيب؛ كأنها تحفظ أسماء الشهداء، وتعرف وقع أقدام النبي ﷺ يوم أقبل إلى سفحه.
هنا تهبّ نسمة خفيفة لا تُشبه غيرها… كأنها سلامٌ من أرواح مضت.
وفي أُحد تدرك أنّ المدينة لا تُكرّمك بجمالها فقط، بل بتاريخٍ محفورٍ في ترابها، وأن حبّ النبي ﷺ لها سرٌّ يجعل الجبل نفسه يقول لك: «أعرفكم… وأحبكم.»

كل رحلة إلى أُحد تعلّمك أن النصر ليس دائمًا بالعدد، وأن الثبات لا يُختبر إلا حين يتزلزل كل شيء.
هنا تعرف القوة بالإيمان والخسارة بالصبر تتحول لفوز وتجارب الصبر خبرات تتجدد لفتح قادم.. 
واختصرت الكثير لعدم امكانيتي سرد كل شئ فالسرد هنا سيفقد لزيارتك بمعية ابا اسعد الجمال والروعة ، لذلك اترك البقية لتعقد العزم لتمتلئ مشاعرك بالأجمل مما نقلت وذكرت… 

٩:٣٠ – ١٠:٣٠ ص زيارة موقع غزوة الخندق

وهنا بدأ ابو اسعد الحديث الشيّق المتجدد كما في موقع غزوة احد وأنتقل للخندق حيث يتحدّث بمشاعره الفياضة المتنقلة بين الحرة الغربية والجبال الداكنة، حيث نقف أمام أوسع معركة دفاعية في السيرة.
حين جال تخيّلنا للصحابة وهم يحفرون الخندق في برد الشتاء، تسمع صدى ضربات معاولهم في قلبك قبل أذنك.
كان المكان هادئًا … ولكن التاريخ هناك صاخب، مليء بالعزم واليقين.

هنا غزوة الخندق… حين يحرس الإيمان المدينة

وعندما نسير في أودية الخندق، يرى الماشي الأرض صامتة، لكنها تحمل ضجيج تلك المعاول التي ضربها الصحابة في البرد والجوع.
كل حفرة صغيرة، وكل نتوء في الحرة، يذكّرك أنّ المدينة لم تُحمَ بسياجٍ من حديد، بل بسياجٍ من يقين.
هنا يشعرك ابو اسعد في حديثه وكأنّك تمشي في مكانٍ لم تحرسه القوة، بل دعوةٌ رفعت رأسها نحو السماء:
«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»
وكأن الأودية ترددها حتى اليوم.

١١:٣٠ – ١:٠٠ م زيارة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. 

خطواتنا داخل المجمع كانت أشبه برحلة داخل نورٍ مكتوب.
رائحة الورق والحبر تشعرك أنك أمام عملٍ أمّة كاملة، وأن المصحف الذي يصل كل بيت هو ثمرة جهدٍ مبارك.

وهنا يدرك الزائر أنّ المدينة لا تعلّمك الحركة فقط، بل الانقياد.
وأن الطاعة الصادقة كانت —ولا تزال— أجمل معجزاتها.

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف… نورٌ يُصنع بيد الإنسان

وحين تدخل مجمع الملك فهد، يخالجك شعور بأنك تدخل إلى ورشة من نور، لا مصنعًا من ورق.
الرائحة هنا ليست رائحة حبر… بل رائحة حفظٍ للعهد الذي حمله الصحابة من قبل.
تمشي بين القاعات، وترى المصاحف وهي تخرج صفحةً صفحة، كأن كل حرف منها يهمس:
«حُفظت في الصدور… وأُتقنت في السطور… وصارت للعالمين رسالة»
وهنا تفهم أن المدينة لم تكن فقط مهد الإسلام، بل حافظة رسالته إلى يوم الدين.

خرج كل واحد منا وهو يشعر بأن القرآن يُطبع هنا بقداسة المكان قبل آلات الطباعة.

1:00 ظهرا
  الصلاة في مسجد القبلتين صلاة الظهر… 

عند القبلتين وقفنا مكتوفي الأنفاس؛ المكان الذي شهد تحوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
قبلة تتحوّل… وأمّة تتحوّل معها.
ذلك المسجد يعلّمك أن الطاعة لا تُقاس بزمن، بل بسرعة الانقياد.
فمسجد القبلتين… هنا لحظة التحوّل، فالمكان له نبضٌ مختلف؛ كأن الزمن هنا توقّف قليلًا ليسجّل أعظم لحظات الطاعة.
قبلة تتغيّر…
وأمّة تغيّر اتجاهها في لحظة، دون سؤال ولا جدال.
حين ترفع بصرك في رحاب المسجد، تشعر أنّ الجدران تحفظ دهشة الصحابة وهم يتلفّتون إلى الكعبة في الصلاة.

٢:٣٠ م مرورنا على مسجد السقيا وبئر السقيا الواقع في وسط محطة قطار الحجاز الحالية.  
هنا كان دعاء النبي ﷺ بضعف البركة للمدينة مما في مكة المكرّمة.
هنا الهواء حول البئر لا يزال يحمل شيئًا من أثر تلك البركة.
كأن الماء هنا لم يجرِ يومًا إلا بالطمأنينة.

3:00 زيارتنا لمتحف وبستان الصافية
جولة لأجمل الجولات الايمانية لبدء الخلق الى النبوة والرسالة في جو إيماني بديع مع البريطاني المسلم العربي المنطق واللغة عبدالرحمن الانجليزي.. 
٣:٥٠ م | الصلاة في المسجد النبوي. 
كل صفة تُروى عن المسجد النبوي تصبح صغيرة حين تقف تحت قبّته.
فيه من السكينة ما يجعل الحروف ترتّب نفسها وحدها.
ومن الروضة الشريفة خرج الجميع والدمعة تسابق الخطوة.

٨:٣٠ م لقاء مع أهل المدينة بمزرعة آل سحيمي

كان المساء مدنيًّا صرفًا، نخيل، قهوة، ضيافة، وجوهٌ لا تعرف إلا البِشر.
جلسنا بين أهل المدينة، نتبادل القصص، وكأن الزمن عاد ألف سنة إلى الوراء…
فالمدينة، مهما تغيّرت، يبقى فيها شيء من لين قلوب الأنصار.

🌤 اليوم الثالث الجمعة: 
 بين المسجد النبوي وأهل المدينة. 

بعد صلاة الجمعة كانت لنا زيارة الشيخ عبد الرحمن بن سماح الرشيدي. 

استقبلنا في مجلسه استقبال أهل المدينة؛ لا يسألونك من أنت، بل يوسّعون لك المكان قبل السؤال.
حديثه امتزج بالدعاء، ونبرة صوته تحمل دفئًا من الزمن القديم.
تبادلنا الحديث وتناولنا الغداء وحلقة اجتماعية فريدة بأهل المدينة وكأننا في طيبة النبوة قبل 1400 سنة... 

7:00 م | البرنامج التدريبي للإسعافات الأولية – نادي الأنصار بادارة المسعف ابوبكر سعد الحجيلي. 

كان اللقاء عمليًا وإنسانيًا؛ فالرحّالة لا بد أن يعرفوا كيف ينقذون قبل أن يسافروا.
ومهارة الإنقاذ هي جزء من أخلاق السفر كما تعلّمناها من السيرة.
ختمناها بشهادات الدورة ومن ثم تكريم لجميع الرعاة والمشاركين بالرحلة لنختم فعالياتنا بكل حب وود وأمل تكرار مثل هذه اللقاءات.. 


🌅 اليوم الرابع – السبت: مسك الختام

6:00 صباحا كان برنامج اختياري للمشي وتطبيق السنة – المشي إلى مسجد قباء

خرجنا قبل الشروق، نمشي كما مشى النبي ﷺ إلى قباء.
كل خطوة كانت ذكرى… وكل نسمة كانت تذكيرًا بأن المشي سنة، وأن البساطة عبادة.
وحين وصلنا قباء، شعرنا بأن المسافة لم تكن أمتارًا… بل دروسًا في حبّ النبي ﷺ.
وكسبنا اجر عمرة في صلاتنا النافلة للضحى، وكما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم كل سبت من ايام اسبوعه المبارك وكما نقل عنه. . 
رجعنا للعنبرية وفي فوالة العم احمد "فوالة العنبرية" كان للفول طعما آخر ونكهة لاتصنعها البهارات بل تصنعها رفقة الطيبين. 
حيث اجتمعنا لنتناول الإفطار الأخير لرحلتنا الجميلة بكل نواحيها.. 

في نهاية اللقاء السادس، اجتمعنا كما بدأنا:
وجوهٌ رضيّة، وقلوبٌ ممتنة، وأحاديثٌ تمتزج بالذكريات.

كانت المدينة قد أخذت منا التعب…
وأعطتنا السكينة.

وكان اللقاء السادس ليس مجرد برنامج…
بل رحلة في السيرة، في الأرض، وفي القلوب.

وخلاصة الروح في كل مكان من أماكن المدينة ما يعلّمك شيئًا ، فقد اعطتنا السكينة وذكريات وشيئا من نور الروضة يبقى في القلب طويلا.. 

ومما عرفنا وتعلمنا هنا فمن أُحدٍ تعلّمك الصدق.
ومن الخندق يعلّمك الصبر واليقين.
القبلتين يعلّمك طاعة بلا تأخير.
ومجمع المصحف يعلّمك أن الرسالة مستمرة.

وفي السقيا تعرف ما للمكان من بركة مضاعفة ترى ولاتُلمس..
وأهل المدينة ميراث الأنصار في قلوب أحفادهم.. 

وفي لقائاتنا المجتمعية كان الود والحب يجمعنا بأهل المدينة وختمناها بدورات اسعافية وفي نادي الانصار كان الختام والتكريم والعشاء.. 

🤲شكر وثناء🌹

الحمد لله الذي جمع القلوب على المحبة، ووفق الخطى إلى لقاءٍ يليق بمدينة الرسول ﷺ، وجعل من رحالتنا إخوة طريق، ورفاق درب، ومصابيح سفر.

نتقدّم بوافر الشكر وعظيم الامتنان لكل من شرَّفنا بحضوره في اللقاء السادس لرحالة الجزيرة العربية بالمدينة المنوّرة؛ شكرًا لقلوبٍ قطعت المسافات، وتحملت عناء السفر، والتزمت بالمواعيد، وأسهمت بفكرها وروحها في إثراء برنامجنا حتى غدا لقاءً لا يُنسى.

والشكر موصولٌ لقائد المسار والمحتوى أبو أسعد حسن الحربي ، المرشد المتمرّس الذي أحسن القيادة، وقرأ الطريق بعين الخبير.
ولراعينا الكريم أبو محمد د. عادل الياقوت على دعمه المبارك.
وللمدير التنفيذي أبو حبيان محمد الدوسري الذي حمل أمانة التنظيم بهدوء واحتراف.
ولنائب الرحالة د. مسفر القحطاني شكرًا لوقوفه الدائم ودعمه غير المنقطع.
 ولاداري الرحلة الشيخ ابومعاذ عبدالعزيز الضويحي ومسؤول التسجيل ابوحكيم عبدالعزيز العثمان. 

كما نخص أبناء طيبة الطيبة، مرشديها ونواب مساراتها، من عماد الزاحم والأخ نور وماجد العوفي ومن معهم من الإخوة الكرام:
أبو راكان ماجد الداود ، وأبو بركات علي الشدي ، وأبو الزبير د.فهد الحمود من الاسياح ، والاخ أحمد الغامدي من الظهران ، والأخوة أحمد الدوّة، وعبدالله الشهراني من ابها البهيّة ، وأبو علي عبدالله الكريشان من عنيزة، واخيه خالد الخليوي ، وايضا د. سليمان التركي من الاسياح وحاليا في حائل ، والشاعر ذعار أبو تميم العوفي ، وأبو فرحان سلطان القحطاني من ام الساهك ، وأبو زياد صالح الحميدان من الرياض ، وعبدالعزيز الطريفي من عنيزة ، وفهد ابن سعد بن ثلاب السبيعي من الافلاج ، والاخ ماضي السريحي من طبرجل ، ومطلق الخضير من الدمام، وابويوسف وحيد المحسّن من الجبيل، وأبو خالد، وسليمان الخليوي من الرس…

كلكم دون استثناء: 
وجودكم شرف، وعطاؤكم نجاح، وروحكم زادت اللقاء بهاءً وتمامًا.

ختامًا…
يبقى جمال هذه اللقاءات بروحكم أنتم، فأنتم عنوانها الحقيقي، وبكم تستمر مسيرة رحّالة الجزيرة العربية في سفرٍ لا ينقطع، ورفقةٍ لا تبلى.


فالمدينة كلّها تهمس لك بصوت حبيبها ﷺ:
إنها طيبة… لا يسكنها إلا الطيبون.

🌿 وهنا فائدة وطرفة عن لأواء المدينة

فمن بين مشاعر البركة والاجر ومن بين الصبر على المدينة المنوّرة ولَأوائها… 

وقدّمت هذه الصياغة والموجّهة لمن تابع رحلتي للمدينة المنورة وبطريقة رحّال الخبر… 
أقدمها مختصرة، أدبية، ووثيقة بالأحاديث الصحيحة.. 

لمّا يقترب المسافر من المدينة المنوّرة، يشعر أنّ الطريق لا يقوده إلى مدينةٍ كغيرها؛ بل إلى مكانٍ يُحسَب له حساب قبل الدخول إليه. الطريق من الشمال يضيق بين الحرات، والريح الحارّة تمرّ عليك وكأنها تذكّرك أن هذه الأرض لم تُختر للراحة، بل اختارها الله لرسالة.

وحين تطأ قدمك طيبة، تدرك أن هذا المكان لم يكن يومًا سهل العيش:
حرٌّ شديد، أرضٌ صلبة، موارد قليلة، ووباءٌ كان مشهورًا قبل دعاء النبي ﷺ. ومع ذلك، تجد في القلوب طمأنينة لا تأتي من هواءٍ بارد، بل من نعمةٍ روحية لا تُرى.

هنا تتضح الحقيقة التي رواها أهل المدينة عبر الزمن:
المكان امتحان… والصبر عبادة.

🕌 المدينة في ميزان النبوّة

روى مسلم عن النبي ﷺ قوله:
«لا يصبر أحدٌ على لأوائها وجهدها إلا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة»

واللأواء في لغة العرب ليست الحرّ فقط؛ بل الشدّة بكل وجوهها:
الضيق، المرض، قلة الزاد، خشونة الحياة.
فمن اختار المدينة وهو يعلم مشقتها، فقد اختار طريقًا يرفع الدرجات.

وروى الشيخان قوله ﷺ:
«المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد»

وهذا معنى لا يعرفه إلا من زارها مرارًا:
المدينة لا تُبقي إلا على من صدق محبته، وتصرف عنها من دخلها بغير نية.

كما قال ﷺ:
«اللهم بارك لنا في مدينتنا… واجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة»

دعوةٌ قلبت المعادلة:
المكان صعب… لكن البركة مضاعفة.

🌧 منظر الرحّالة… 

هنا بالمدينة حين يصبح المشهد جزءًا من الدرس

فقد كنتُ في إحدى زياراتي السابقة الصيفية ، كنت أمشي بين نخيل المدينة من جنوبها بين مزارع العالية وبين مزارع جبل أحد ، كمزرعة طيبة الطيبة… 
وعند مغيب الشمس، والجوّ خانق لا تهب فيه ريح. 
ومع ذلك، شعرت بأنّ هذا الهواء – على شدّته – ليس عيبًا، بل شاهدًا على معنى الحديث:
المدينة كانت وستظل أرضًا تُختبر فيها النفوس.

وربّ مُقيمٍ فيها صابر ينال شفاعةً،
وربّ زائرٍ يفهم أن عظمتها ليست في طقسها، بل في مكانتها عند الله ورسوله.

فمن استطاع أن يجمع بين محبة المكان، والصبر على شدّته، فقد دخل بابًا أُغلق عن كثير من الناس.

🌙 خلاصة رحّاليّة
الصبر على المدينة ليس تقليدًا اجتماعيًا، بل عبادةٌ نبوية مؤكدة.

المشقة ليست المقصودة بذاتها، بل الثبات والرضا.

فضل المدينة لا يُنال بالسكن وحده، بل بالصبر على ما يجعل غيرك يتراجع.

ما كان في زمن النبي ﷺ من شدةٍ صار اليوم أخفّ، وبقي الأجر لمن فهم المعنى.

اخوكم الرحال وائل الدغفق رحّال الخبر المدينة المنورة 1447هـ

الخميس، 23 أكتوبر 2025

جولة الصين الخامسة الشاملة رحال الخبر 1447هـ



✦ رحلة الصين بين الجبال والأنهار (5–24 أكتوبر 2025)

✍️ د.الرحال وائل عبدالعزيز الدغفق

 (رحّال الخبر)

مقدمة

في الشرق البعيد، حيث تتعانق السحب بالجبال وتغفو الأنهار في أحضان المدن القديمة، كانت الصين على موعدٍ مع رحلةٍ عربيةٍ تحمل عبق القهوة وفضول المغامرة.
رحلةٌ جمعت بين الحنين إلى الطبيعة والبصيرة بالتاريخ، وبين دهشة المدن الكبرى وهدوء القرى النائية.
اثنا عشر يوماً بين غوانغجو وقويلين وتشانغجياجيه، في حكايةٍ تمزج بين الضوء والمطر، بين الحجر والماء، وبين الإنسان والطبيعة التي خلقها الله جمالًا يتجدد في كل نظرة.


الفصل الأول:

الوصول إلى غوانغجو عناق الشرق الأول

في صباح الثاني عشر من أكتوبر، كانت ثلاث طائراتٍ تشقّ طريقها من الرياض والكويت ودبي، تلتقي فوق سماء الصين في رحلةٍ جمعت الإخوة على أرضٍ غريبة الملامح، دافئة الاستقبال.


كنتُ في انتظارهم منذ الصباح، وعند الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة كانت القوافل قد وصلت مطار غوانغجو الدولي، حيث احتفى بنا المرشد المحلي بابتسامةٍ صينيةٍ مطمئنة، واتجهنا إلى فندق أوشن في قلب المدينة.

كان اليوم الأول حراً، فاختار بعض الرفاق مطاعم تركية وعربية قريبة، بينما انطلق آخرون بين أسواق غوانغجو الغارقة في الألوان والعطور.
ومع منتصف الليل، وصل احد اعضاء الرحلة، لتكتمل القافلة ويبدأ المشهد الأول من الرواية الشرقية.



في اليوم التالي، تجولنا بين معلم أشجار الصنوبر الستة، ثم إلى أكاديمية عائلة تشين وبيت الزعيم صن يات-سين.



وعلى جزيرة شاميان التي ما زالت تحتفظ بملامح الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، سرنا تحت أشجارها القديمة على ضفاف نهر اللؤلؤ.
واختُتم اليوم في سوق تشينغبينغ الشعبي، حيث تنبعث روائح الأعشاب والأسماك المجففة وذكريات الصين القديمة.


الفصل الثاني:

إلى قويلين ومدرجات الأرز أنشودة الريف الصيني

ليلة الرابع عشر من أكتوبر كانت مختلفة، إذ وصلت احد أعضاء الرحلة بعد تأخيرٍ طويل سببه جواز السفر، فكان استقباله في المطار كأننا نستقبل صديق عاد من رحلة صبرٍ طويلة.


وفي صباح اليوم التالي، انطلقنا بالقطار السريع نحو قويلين، مدينة الجبال والأنهار.
ومن هناك إلى لونغشنغ لزيارة قرية لونغ إي ذات المدرجات الأزلية التي تُزرع بالأرز منذ مئات السنين.
تسلقنا الممرات، وشاركنا القرويين طعامهم البسيط المطهو على البخار، في بيوتٍ خشبيةٍ تتدلّى من سفوح الجبال.
كانت الليلة بين الغيم والماء، أنوار صغيرة تتلألأ على مدرجات الأرز، كأن السماء انثنت لتقبل الأرض.

مع فجر الخامس عشر من أكتوبر، استيقظنا على صياح الديكة وهديل وتغاريد العصافير.
انطلقنا بعدها إلى يانغشوو، مدينة الشعر على ضفاف نهر لي، حيث ركبنا السفن وانساب بنا الماء بين الجبال المخروطية التي ألهمت الرسامين والشعراء.


وفي المساء، حضرنا عرض “ليو سانجيه” الأسطوري فوق سطح النهر، مشهدٌ من الضوء والموسيقى يحكي عن حبٍّ ووفاء في أسطورةٍ خالدة.



الفصل الثالث:

الكهوف والبحيرات حيث سكون قويلين وسحرها

صباح السادس عشر من أكتوبر ودّعنا يانغشوو، وعرّجنا على كهف الناي (Reed Flute Cave) حيث تتدلّى الصخور كأنها ألحانٌ متجمدة.
ثم زرنا مصنع الحرير قبل الوصول إلى فندق برافو جولين المطل على البحيرة، حيث انعكست أنوار المساء على الماء، فبدت المدينة لوحةً حية من جمالٍ وطمأنينة.

في السابع عشر من أكتوبر، زرنا صخرة خرطوم الفيل، رمز جولين الأيقوني، ثم ركبنا القطار السريع نحو مدينة العجائب تشانغجياجيه في رحلةٍ استغرقت سبع ساعات من الجنوب إلى الشمال، حتى وصلناها ليلاً تحت أمطارٍ خفيفة ونسيمٍ جبليٍّ بارد.


الفصل الرابع:

 تشانغجياجيه وجبال الأساطير بسلالم السماء

في الثامن عشر من أكتوبر بدأ فصل الأعاجيب.
توجهنا إلى محمية وولينغيوان الوطنية، وشاهدنا جبال جينبيان الشاخصة، ثم صعدنا بـ مصعد بايلونغ الزجاجي إلى حيث السحب تلامس قمم الصخور.
هناك وقفنا أمام مشهدٍ لا يُنسى؛ جبالٌ عمودية مغروسة في الغيم، ومنها استوحى المخرج الأمريكي فيلمه الشهير Avatar.

أما في التاسع عشر من أكتوبر، فقد واجهنا الطبيعة بصلابة الإنسان؛
توجهنا إلى جبل تيانمين (بوابة السماء)، لكن المطر والبرد والضباب حال دون رؤية الجسر الزجاجي الشهير.
ومع ذلك تابعنا السير حتى نزلنا 999 درجة معدنية وسط الرياح والضباب، وكانت الرحلة نزولاً من السماء إلى الأرض بكل ما تحمله الكلمة من تحدٍّ وجمال.

في اليوم الثالث (20 أكتوبر)، زرنا سوق وولينغيوان للعطارة الصينية، ثم مبنى الأبراج 72 التراثي المزدان بالعروض والرقصات الشعبية.
وفي المساء، كانت الرحلة الجوية إلى غوانغجو بديلاً عن القطار الطويل، لنصل منتصف الليل إلى فندق أوشن، منهكين ولكن فرحين.


الفصل الخامس:

 ختام الرحلة في غوانغجو — بين الأبراج والمساجد

في الحادي والعشرين من أكتوبر، كان لنا موعد مع المدينة الكبرى من جديد.
بدأنا من برج كانتون الشاهق، مروراً بـ ساحة هواشنغ الفسيحة، ثم أسواق الأزياء وسوق بيمان الشهير، وختام اليوم في شارع بيجين الصاخب بالحياة.
كانت غوانغجو تودّعنا بأنوارها التي لا تنام.

وفي الثاني والعشرين من أكتوبر، بدأنا جولتنا الختامية في حديقة الكباش الخمسة، رمز الخلاص من المجاعة، ثم زرنا أسوار سلالة مينغ العتيقة، والقاعة التذكارية للدكتور صن يات-سين مؤسس الجمهورية الصينية الحديثة.
ومن هناك إلى أسواق شوبينغ للعطارة والفطر والجينسنغ، تلتها زيارة روحية في مسجد هوايشنغ ذي المنارة البيضاء، ثم مسجد أبي وقاص، الذي يروي التاريخ أنه بني في عهد الصحابة الأوائل.
واختُتم اليوم في حديقة ليوان حيث تتناثر البرك والجسور الخشبية تحت مطرٍ خفيف يوشك أن يقول: انتهت الحكاية.

وفي ذلك المساء، انطلقتُ وحدي إلى سوق الشاي الأكبر في غوانغجو، لأكمل فصولي الخاصة؛ أبحث عن أوراق الشاي النادرة، وأغذي متحف الشاي في الخبر بمعرفةٍ جديدة من أرض الشاي الأولى.


الفصل السادس: الوداع ومعرض كانتون — رسالة الشرق الأخيرة

في الثالث والعشرين من أكتوبر، زرت المنطقة الثانية من معرض كانتون فير 2025، حيث تتجلى الصناعة الصينية في أبهى صورها.
ثم عدت إلى الفندق استعداداً للرحيل، مودعاً الرفاق الذين رافقوني في رحلةٍ كانت أجمل من الحلم.

وقبل أن تنطوي الصفحة، اتفقنا أن الرحلة القادمة ستكون إلى الهند والمثلث الذهبي (دلهي – آغرا – جايبور)، وربما إلى كشمير في ربيع مارس، حيث الجمال لا يُكتب بل يُعاش.


الخاتمة

هكذا كانت الصين...
بلادٌ تجمع في حضنها التاريخ والحكمة، الجمال والصرامة، الألوان والضباب.
رحلةٌ لم تكن مجرد مسارٍ جغرافي، بل عبورٌ في الذات؛ من صخب المدن إلى سكون الجبال، ومن أعشاب العطارين إلى بخار الشاي الذي يروي الحكايات.
وما بين الغيم والابتسامات والقطارات والأنهار، وُلدت ذاكرةٌ جديدة تضاف إلى سجل رحلات "رحّال الجزيرة العربية"،
ذكرى تقول لكل من يقرأ:

"سافر لتعرف، وتأمل لتشكر، وعد لتُحدّث بما رأيت من جمال الله في أرضه."



الخميس، 16 أكتوبر 2025

مسار رحال الخبر للصين بين نظرات وعبر الرحلة 1447هـ



من بكين إلى كاشغر فالتبت لشنغهاي مرورا بقوانزو وهونج كونج:

فسيفساء الصين بعين رحّال…لا بعين سائح

✍️ د. الرحال وائل الدغفق – 1447هـ / 2025م

لماذا هذه الجولة؟

كنت اتسائل وأنا أتجول مرتحلاً داخل الصين في محاولة لفهم وطبيعة التركيبة العميقة للشعب الصيني بنظر رحّال وليس بنظر سائح لهذا كانت هذه الجولة وللفهم والتعرف أكملتها وسرت في أقاصيها وبين مدنها وقومياتها وفهمت شيئا وغاب عني أشياء.

وهو جهد المقلّ ، ومع ذلك فلكل مرتحل صفحة يرويها ونقولات يسطّرها ولقطات يسجّلها في مساره.

«رحلات رحّال الخبر في الشرق الأقصى»

قد تضمّنتُ فيها التوثيق الجغرافي والوصف الحسي لمساجد وأسواق قومية الهوي والأيغور وقوميات متعددة من مسلمي الصين، مع روح السفر والتأمل من حبس اللحظة وبث الفكرة وتدوين اللقطة ، والتي تميّزنا عن غيرنا.

وسأتناول هذا الموضوع ضمن خمس من المناحي الإيضاحية لهذه التركيبة. 

وسأبدأها بتنوّع الشعب الصيني وتكوينه القبلي، ثم علاقة تلك المجتمعات مع بعضها. وثم علاقة المجتمع الصيني مع كل من حوله بالعالم، وبعدها سأتطرق إلى ملامح سلوكية قد تكون غريبة لمن يزور الصين ولم يلحظها، وأخيرًا الخلاصة التي وصلتُ إليها، وإلى التفاصيل.هذه الرؤية ستكون الخيط الذي يشد الرحلة كلها:

 من بوابات بكين ومآذن نيوجيه، إلى صحارى شينجيانغ وأسواق كاشغر، مرورًا بنينغشيا الى قوانزو وجولين وتشانغجياجيه وجبال تيان ان مين، حيث يتكلّم الإسلام بلهجة صينية.

الفصل الأول:

🏯 بكين... وقلاع الامبراطورية ومبانيها التراثية. 

من نينغشيا إلى بكين، تأخذك رحلة القطار إلى قلب المدينة الصاخبة، وهناك، وسط الأبراج والمراكز التجارية، يقف مسجد نيوجيه كأقدم شاهدٍ على الإسلام في العاصمة.
تخطو بوابته الخشبية التي كُتبت عليها عبارة «الله أكبر» بخطٍّ عربيٍّ مذهبٍ داخل إطارٍ صينيٍّ من الزخارف التنينية.
وحين يرتفع الأذان داخل المسجد وبين ضجيج السيارات، تشعر أن الزمن انحنى احترامًا لقرونٍ من التعايش.

في باحة المسجد وقت صلاة الجمعة ، يجلس شيخٌ من الهوي يشرح للمأمومين بالصينية والدعاء بالعربية وبكلماتٍ صينية، فهمت بعضها من مترجمي حين يبتسم قائلاً:

 "الإسلام لا يحتاج لغة، بل قلبًا يعرف الطريق إلى القبلة."

🏯بكين حين يلتقي الأذان بسور الصين العظيم. 

دخلت العاصمة من نافذة قطار الصباح، فأجد مدينةً تنبض بتناقض جميل حدائق إمبراطورية كالقصر الصيفي،وبحيرات أضفت على العاصمة حللٌ من الجمال بممرّاتٌ حجرية وفلل غاية في الجمال داخل حدائق صينية غاية في الدقة والتفاصيل المشتهرة في ثقافة الصين واعتنائهم بالحدائق وأسجار البونزاي وتصاميم البناء المدهشة، ولاشك أن سورها العظيم الذي يحيطها شمالا كعقد وتميمة حماية من الشماليين ، وسماءٌ تتكسّر عليها ناطحات ومبان غاية في الروعة. 

"هنا أضع أوّل لبنةٍ لفهم “التركيبة”: مدينةٌ حديثة لا تخجل من قِدمها، وإسلامٌ قديم لا يخجل من حداثته.

الفصل الثاني:

الخماسية التفسيرية الصين كفسيفساء حيّة

أولاً: تنوّع الشعب الصيني وتكوينه القبلي والإثني

رغم أن الصين تُقدَّم للعالم كأمّة واحدة موحّدة، إلا أنها في عمقها فسيفساء من القوميات والقبائل التي تنصهر في بوتقة الدولة الحديثة.

الأغلبية الهان (Han):
يمثلون نحو 92٪ من السكان، ويُعدّون العمود الفقري للثقافة الصينية، من اللغة إلى الفنون والعادات. يُعرف الهان بانضباطهم، وولائهم للأسرة، وحبهم للعمل، وبنظامهم الاجتماعي الدقيق الذي يقدّم الجماعة على الفرد.

القوميات الـ 55 الأخرى:
منها الويغور في تركستان الشرقية (شينجيانغ)، والتيبت في الهضبة الغربية (الأدق إداريًا: “منطقة شينغزانغ/Xizang”)، والزوانغ، والمنشور، والمغول، والكازاخ، والهوي (المسلمون الصينيون). كل مجموعة تحمل مزيجًا من العادات واللغات والمعتقدات والموسيقى والملابس.

وهناك بعض القبائل والتي ما زالت تحافظ على نظامها الأمومي مثل قبائل الموسو Mosuo في مقاطعة يونّان، حيث تُنسب الأنساب إلى الأم، وتُعتبر العلاقات الزوجية حرة نسبيًا — وهو أمر يثير دهشة الزائرين من العالم الإسلامي والغرب على حدّ سواء.
 
🀄 ثانيًا:علاقة المجموعات ببعضها داخل الصين
التعايش والتنافس:
يعيش الجميع تحت سلطة مركزية قوية تشجّع على الوحدة الوطنية، لكنّ التنوّع العرقي أحيانًا يولّد توتّرًا ثقافيًا مكتومًا، خاصة في المناطق البعيدة مثل التيبت وشينجيانغ.

التمازج الثقافي:
المدن الكبرى مثل شنغهاي وغوانزو وبكين صارت بوتقة تصهر كل الأعراق، حتى تكاد لا تميّز الأصل من اللهجة.

العائلة كوحدة مقدسة:
بغضّ النظر عن الأصل، تقديس العائلة والآباء هو الرابط الذي يجمع الصينيين كافة، حتى أصبح من سماتهم الأبرز عالميًا.

🌏 ثالثًا: علاقة الصينيين بالآخرين

مع الجيران الآسيويين: العلاقة مع اليابان وكوريا مشوبة بالمنافسة التاريخية والاحترام المتبادل — فهم أبناء حضارة الكونفوشيوسية نفسها.


مع الهند هناك توتر حدودي، لكن تبادل ثقافي قديم يعود إلى طريق الحرير وانتقال البوذية.

مع روسيا ومنغوليا علاقة براغماتية يغلب عليها البعد التجاري .

مع العالم العربي والشرق الأوسط:
علاقة تقوم على الاقتصاد والاحترام المتبادل أكثر من الفهم الثقافي العميق.
الصين ترى في العرب “بوابة للطاقة والأسواق”، والعرب يرون فيها “قوة اقتصادية بلا استعمار”.

المسلمون الصينيون (الهوي والويغور) يشكلون جسرًا روحانيًا وثقافيًا بين الجانبين، رغم تعقيدات الواقع السياسي.

للعرب حضور قديم في الصين منذ القرن السابع الميلادي، خاصة في مدن مثل قوانغتشو وشيان حيث بُنيت أولى المساجد في شرق آسيا.

ومع الغرب: إعجاب بالمنجز العلمي مقرون بريبة حضارية؛ وهي علاقة مركّبة من الإعجاب والريبة؛ فالصيني يحترم تفوق الغرب العلمي، لكنه لا يعترف له بالتفوّق الأخلاقي أو الحضاري. خصوصية البيت الصيني تحجب الضيافة المنزلية المباشرة عن الغرباء والغربيون يُدهشون من انغلاق الصينيين على خصوصيتهم الاجتماعية، حيث يندر أن يُدخل الصيني الغريب إلى بيته.


🧧رابعًا:ملامح سلوكية غريبة ومدهشة للغرباء… 

1- حب الصمت والانضباط: الصيني يفضّل الفعل على القول، وغالبًا ما يبتسم بدل الجدال.

2- ثقافة الجماعة:
لا يقدّم نفسه كفرد متفرّد بل كجزء من منظومة — حتى في العمل والسفر والصداقة.

3- تقديس الوقت والإنتاجية: فيُعتبر التأخير وعدم الدقة قلة احترام.

4- تجنّب المواجهة العلنية:
يسمّونها “حفظ الوجه” (Mianzi) أي حفظ الكرامة الاجتماعية، لذا لا ينتقدك مباشرة.

5- عادات الطعام:
يأكلون كل ما يُظن أنه لا يُؤكل، لكن في الغالب عن فلسفة قديمة تعتبر كل كائن دواءً من نوع ما.

6- الزواج والإنجاب:
تُحدده العائلة لا المشاعر، رغم أن الجيل الجديد بدأ يتغيّر.

7- التعامل مع الغرباء:
في البداية يبدو التحفّظ، لكن إذا كسبت ثقته، صار وفيًّا لأبعد الحدود.

🏮 خامسًا: الخلاصة الفكرية المستخلصة لفهم شعب الصين. 
الشعب الصيني يشبه نهر اليانغتسي: واسع، متعدد المنابع، لا يُدرَك من نظرة واحدة.
قد تراه ساكنًا، لكنه يحمل في العمق طاقةً هائلة من الصبر، والالتزام، والإيمان بالعمل كعبادة دنيوية.
ومع أنه يبدو مغلقًا أحيانًا، إلا أن جوهره الإنساني منفتح على السلام والتعايش، ما دام الآخر يحترم حدوده وثقافته.

الفصل الرابع:

 الخريطة الواسعة لمسلمي الصين موجز منظّم.

الجانب الإنساني والتاريخي من حضارة مسلمي الصين قلّ من يتناوله بدقّة.
واقدم إليكم عرضًا موجزًا ومنظّمًا يبيّن جغرافية المسلمين في الصين، وتاريخهم، ومعاناتهم وجزء من الذي رأيته وزرته في هذه الرحلة ورحلات ماضية بين مقاطعات شينغيانغ و ينغشي وزيزانج وتشينغهاي وتشينغي وخبي وغيرها… 
ولتكوّن رؤية شاملة ومختصرة:

🕌 أولًا: خريطة توزّع المسلمين في الصين
يقدَّر عدد المسلمين بنحو 250 مليون نسمة، موزّعين على أكثر من عشر قوميات. 
وهم متمازجين في التعايش بينهم وبين الهان.. 

🌏 رحلة للشرق وقبلة صلاتنا للغرب.

مع قومية الهوي (Hui) حين يتحدث الإسلام بلهجة صينية. 

في شمال الصين، حيث يتلوى النهر الأصفر… تمتد أرض نينغشيا كواحةٍ صغيرة… تشعر أنك لا تسير في الصين فحسب، بل في فصلٍ نادر من تاريخ الإسلام…
... هكذا نشأت هوية الهوي ليست قومية دمٍ، بل قومية إيمانٍ وثقافة… مسلمون تمامًا، وصينيون تمامًا… جسرٌ بين الشرقين…

ومن هنا أُكمّل الخيط فقومية الهوي اندماجٌ بلا ذوبان، يقرأون القرآن بلسانٍ صيني، ويعلّقون زينة رمضان بالأحمر الذي يرمز للحظ السعيد.يعيشون في جميع أنحاء الصين، خاصة في مقاطعات نينغشيا، غانسو، ويونّان.
أصلهم من تزاوج العرب والفرس والترك الذين قدموا عبر طريق الحرير منذ القرن السابع الميلادي.
يتميّزون بانسجامهم مع الدولة الصينية مع حفاظهم على الإسلام والعادات العربية (العمامة، المساجد، اللغة العربية الدينية).

وصلتُ إلى نينغشيا عبر قطارٍ طويلٍ يشقّ أراضي الشمال الغربي، تمرُّ بك الحقول المصفّرة والقرى التي ترفرف فيها أعلامٌ خضراء صغيرة فوق القباب.
كل محطةٍ تبدو وكأنها تستقبل ضيفًا من التاريخ فهنا مرّ التجار العرب والفرس الذين جاؤوا منذ أكثر من ألفٍ وثلاثمئة عام يحملون العطور واللؤلؤ والقرآن.
على طريق الحرير، عبروا من سواحل قوانغتشو وتشوانتشو إلى عمق الصين، حيث تركوا وراءهم أسماءً عربيةً كُتبت بخطٍّ صيني على شواهد القبور القديمة.

في تلك الأزمنة البعيدة، كان الإيمان يسافر مع القوافل، لا مع الجيوش.
ولذلك، حين وُلد شعب الهوي، وُلد من رحم التجارة والمودة، لا من فتوحاتٍ ولا حروب.

🌙 هوية متجذّرة رغم العواصف

مرّت قرونٌ شهد فيها الهوي محنًا وأحداثًا مؤلمة، من تضييقٍ سياسي إلى ثوراتٍ متقطعة، لكنهم ظلّوا على عهدهم مع الله.
في القرى البعيدة، كانت النساء يعلّمن أبناءهن الوضوء سرًا في فترات المنع، ويُخفين المصاحف في صناديق الشاي القديمة.
حتى اليوم، حين تلتقي أحدهم في قانسو أو يونان أو خنان، تشعر أن الإيمان ما زال حيًّا في ملامحه الهادئة.

🌸 شعبٌ يجمع النقيضين
من أجمل ما يميز الهوي أنهم يعيشون التوازن النادر بين الإيمان والانتماء، بين الأصالة والانصهار.
هم مسلمون تمامًا، وصينيون تمامًا — يقرأون القرآن بلسانٍ صينيٍ واضح، ويحتفلون برمضان بالزخارف الحمراء التي ترمز للحظ السعيد في ثقافتهم.
لقد أصبحوا جسرًا بين الشرق الإسلامي والشرق الأقصى، برهانًا على أن التلاقي لا يفسد الهوية، بل يثريها.

🕋 من المغول إلى الهان... اندماج دون ذوبان

في القرن الثالث عشر، حين اجتاحت جيوش المغول آسيا الوسطى، كانت تفتح الطرق التجارية والقلوب معًا.
جاء المسلمون من بخارى وسمرقند وهرات إلى أراضي الصين، واستقر كثير منهم في نينغشيا وقانسو وشنشي.
ومع مرور السنين، تزاوجوا مع الصينيين من قومية الهان، فأنجبوا أبناءً عيونهم شرقيةٌ، لكن قلوبهم تتجه غربًا نحو الكعبة.

هكذا نشأت هوية الهوي ليست قومية دمٍ، بل قومية إيمانٍ وثقافة.
يتحدثون الصينية، لكنهم يبدأون طعامهم بـ «بسم الله»، ويُغلقون يومهم بالدعاء على سجادةٍ في زوايا بيوتهم.
وفي حفلات الزواج، يختلط صوت المزمار الصيني بنغمات الأناشيد الإسلامية، كأن ثقافتين تصليان معًا صلاة الجماعة.

🕌 نينغشيا... وطنٌ بلا منفى

حين دخلتُ مدينة ينتشوان عاصمة نينغشيا، شعرتُ أني في مدينةٍ مزدوجة الهوية فواجهات المتاجر صينية الخط، لكن تحتها عبارات بالعربية: مطعم حلال – السلام عليكم – لحوم طازجة.. 
 وان كانت فيه تغيّرات ضمن التغيير القسري لثقافة المسلمين التي تنتهجها الصين لكل الشعوب المسلمة او البوذية في التبت.
ومع ذلك ففي الأسواق القديمة، تلتقي رائحة الكمون الصينية مع طهو اللحم المشوي على الطريقة البخارية، وتحسّ بصوت مكبوت لأذان المغرب ينساب عبر الذاكرة المنقولة من شكل المساجد والمآذن الطينية والتي لايسمح برفع الآذان فيها هذا اذا مابقيت كمساجد حيّة..

أهل نينغشيا لا يتحدثون كثيرًا عن تاريخهم، لكنه حاضرٌ في ملامحهم وفي كل مسجدٍ حكاية:
ففي مسجد تشونغوي ترى القباب البيضاء تتناغم مع السقوف الخشبية الحمراء في لوحةٍ لا تشبه إلا الهوي أنفسهم.
وفي مسجد شياهو، يمتدّ محرابٌ نحته الحرفيون الصينيون بدقةٍ مذهلة، وهو يتجه تمامًا نحو مكة. 

حين غادرتُ نينغشيا، كانت المآذن الصغيرة تبتعد عني شيئًا فشيئًا، وكنت أسترجع وجوه الأطفال الذين يردّدون السلام بلغتين:
«السلام عليكم» و«ني هاو».
أدركت حينها أن الإسلام في الصين ليس غريبًا ولا دخيلًا، بل جزءٌ من نسيجها القديم، من نسمة الحرير ومن نكهة الشاي ومن دعاء الأمهات عند الغروب.

إن شعب الهوي ليس سلالةً من دمٍ، بل من ضوءٍ امتزج بالحضارة الصينية وبقي حيًّا حتى اليوم.

شيان مدينة الأذان القديم وطريق الحرير

على سكّةٍ تشقّ الشمال باتجاه الغرب أصل إلى شيان ، مدينة الجند الطينيين وبوابة طريق الحرير الشرقي. هنا بُنيت أولى مساجد شرق آسيا، وهنا عبر العربُ والفرس والتُّرك، ونُقشت الشواهد بالعربية والصينية.
للعرب حضور قديم في الصين منذ القرن السابع الميلادي، خاصة في مدن مثل قوانغتشو وشيان حيث بُنيت أولى المساجد في شرق آسيا.

بين أزقة شيان أسمع صدى “السلام عليكم” قديمًا، يمتزج بطرق الطبول في مواسم الاحتفال.


الويغور (Uyghur) – يعيشون في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية) غرب الصين، قرب حدود كازاخستان.
أصولهم تركية، لغتهم قريبة من الأوزبكية.
يعانون من قيود شديدة على العبادة والتنقل والتعليم الديني منذ عقود، وتخضع منطقتهم لرقابة أمنية مكثفة.
الثقافة الويغورية غنية بالموسيقى والرقص والمأكولات المشابهة لآسيا الوسطى.

 الكازاخ والقيرغيز والطاجيك – في أقصى الشمال الغربي قرب جبال تيان شان والحدود مع آسيا الوسطى.
قبائل رعوية إسلامية، متأثرة بثقافة البدو الرحّل.
يعيشون في مناطق جبلية، ومعاناتهم أقل من الويغور لكنّهم مراقبون بشدة.

 السالار (Salar) في مقاطعة تشينغهاي شمال غرب البلاد.
أصولهم من التركمان، ويتحدثون لغة تركية قديمة.
يُعرفون بتمسّكهم بالإسلام وبتشييد مساجد جميلة صغيرة الطراز.

الباوان والبوهي والمغول المسلمون في غانسو ومنغوليا الداخلية.
تأثّروا بالبوذية المحيطة لكنهم حافظوا على صلاتهم الدينية.

 مسلمو يونّان (Yunnan Muslims) – في الجنوب الغربي قرب ميانمار ولاوس.
مزيج من الهوي والأقليات المحلية، شاركوا تاريخيًا في التبادل التجاري مع العرب والهنود.
كثير منهم هاجر إلى بورما وتايلاند بعد الثورات في القرن التاسع عشر.

🧭 ثانيًا: المعاناة عبر التاريخ

 العصور الإمبراطورية:
المسلمون حظوا باحترام في عهد أسرتي تانغ ويوان بسبب دورهم التجاري والعلمي.
لكنهم تعرّضوا لاحقًا للقمع في فترات أخرى، خاصة بعد تمردات القرن التاسع عشر (مثل ثورة دو ونشيوان في يونّان وثورة دنغن في غانسو).

القرن العشرون:
بعد قيام الصين الشعبية عام 1949، اعترفت الدولة رسميًا بالإسلام كدين معترف به، لكن السيطرة الحكومية على المؤسسات الدينية كانت كاملة.
فترة “الثورة الثقافية” (1966–1976) شهدت تدميرًا للمساجد والمخطوطات ومنع الشعائر وتقييد التعليم الديني ومنع الاذان.

العصر الحديث:
اليوم يتمتع المسلمون بحرية محدودة ومراقَبة.
في المدن الكبرى تُسمح المساجد بهدوء، لكنّ التعليم الإسلامي المستقل مقيّد.

الويغور يواجهون أشدّ القيود: إعادة التثقيف الإجباري، مراقبة الاتصالات، وتقييد التنقل.

أما الهوي فمقبولون اجتماعيًا أكثر لأنهم لا يطالبون بالاستقلال ويستخدمون اللغة الصينية وأكثر سببا لقبولهم كونهم على مذهب التصوف .



🌍 ثالثًا: الأثر الثقافي والديني للمسلمين في الصين

أدخل المسلمون إلى الصين الطب العربي، والفلك، والتجارة البحرية.
وبنوا أقدم المساجد في شرق آسيا مثل مسجد هوايشن في غوانغتشو ومسجد شيان الكبير.
وكانوا جسرًا بين الحضارة الإسلامية والشرق الأقصى عبر طريق الحرير.
وما زال طعامهم (الحلال، النودلز اليدوي، خبز النان) جزءًا محبوبًا من المطبخ الصيني العام.

🕊️ رابعًا: خلاصة فكرية 
المسلمون في الصين يشكّلون خيوطًا دقيقة في نسيج حضارة ضخمة ؛ بعضهم مندمج في الجسد، وبعضهم غريب في روحه،
لكنّهم جميعًا يحمِلون نورًا عربيًا تركيًّا فارسيًّا لم يخمد رغم العصور والضغوط ، ولا عجب فهم أبناء طريق الحرير، ما زالوا يسيرون عليه… ولكن بأقدامٍ أثقل وخطواتٍ صابرة.


الفصل الخامس:

نحو الغرب الأقصى – شينجيانغ والبوابة الكبرى

وها انا أشدُّ الرحلة أكثر الى الغرب ، حيث تتبدّل التضاريس، وتصبح السماء أكثر اتساعا ، والهواء أكثر نقاء وجفافاً ، والجبال من حولنا أضحت حُرّاسًا على الحدود. 

هنا تبدّلت الأرض والإنسان والدين والحياة، لأننا من هنا نبدأ في سرد حكاية الأيغور.

رحلاتي بين الأزقّة والأسواق في كاشغر (Kashgar)…لقومية الأيغور في قلب آسيا المسلمة. 

🕌 حين تدخل كاشغر، تشعر وكأنك تقف عند بوابة الزمن…

 خبز الأفران الطينية، جامع إيدي كاه (1442م)…والسوق القديم يعجّ بألوان القبّعات والتوابل وصدى الأذان المفقود عدا داخل المسجد وبصوت الهمس. هنا، في الجنوب الغربي من إقليم شينجيانغ (Xinjiang Uygur Autonomous Region)، يعيش الأيغور شعبٌ تركيٌّ مسلمٌ يغزل حياته بين رياح الصحراء وضفاف واحات تبعث على الحياة وتجدد الماضي ، وبين قوافل درب الحرير والحدود القهرية، بين درب منقطع للحرير تجاري وآذان الجمعة متوقف لسوقها الحامي .


كاشغر ليست مجرد مدينة  إنها قلب الهوية الأيغورية، مفترق طرقٍ بين الشرق والغرب، بين الصين وآسيا الوسطى، بين التاريخ والحاضر.

🌄 منذ القِدم: التاريخ يُكلّم الحجر

قبل أن تُدعى كاشغر بهذا الاسم، كانت تُعرف باسم شولي (Shule)، وقد ذُكرت في السجلات الصينية منذ القرن الثاني قبل الميلاد كواحةٍ في طريق القوافل. 
مرّت على هذه الواحة قصص كثير، من إمبراطورياتٍ عابرة، من صراعٍ على الطرق، من أممٍ ودولٍ وملوكٍ:

في عهد أسرة تانغ، دخلت كاشغر ضمن نفوذ الصين في فترات معينة، كحصنٍ على حدود الإمبراطورية الغربية. 

عبر العصور، كانت تحت سيطرة الإمبراطوريات التركية، والمغول، والكاراخانيين، وغيرهم من الدول التي تتقاسم السلطة هناك. 

في القرن العاشر، اتّخذت سلالة الكاراخانيد الإسلام كدين رسمي، فكان ذلك لحظة محورية في تشكيل الهوية الدينية للمنطقة، وأثرت في كاشغر كأحد مراكز المسلمين الجدد. 

في العصور اللاحقة، خضعت لزخم الحركات السياسية والدينية، بما في ذلك محاولات الاستقلال والحكم الذاتي، مثل قيام جمهورية تركستان الشرقية الأولى من كاشغر عام 1933 لفترة قصيرة. 

في عهد الإمبراطورية الصينية (السلالة الكينغ)، اجتُلبت المناطق الغربية تدريجيًّا إلى الحكم المباشر الصيني، فواجه الأيغور تحديات السيطرة المركزية. 

بذلك، كاشغر ليست فقط مدينة عابرة في التاريخ، بل ميدانٌ تجري فيه قصة الأيغور — خلقوا التاريخ كما يُخلَق التاريخ من روح الناس.

🕌 كاشغر اليوم: السوق والنبض الديني

حين تتجوّل في سوق التجمع الكبير (Grand Bazaar) في كاشغر، ترى بضائعٍ من شرق آسيا ووسط آسيا وأوروبا، وتسمع لغاتٍ تركية وفارسية وصينية تتداخل كأنها ألحانٌ في سيمفونية تجارية.
وفي الأزقة الضيقة تنشق رائحة الخبز الأيغوري المطهو في أفران طينية، وتنظر إلى الحُليّ والنقوش التقليدية التي تحكي تاريخًا وجدانياً للأجيال.

من أبرز معالمها التاريخية والدينية هو جامع إيدي كاه (Id Kah Mosque)، الذي بُني عام 1442م، ويُعدُّ أحد أكبر المساجد في شينجيانغ ثالوحيد المعدّ للصلاة كما يقولون . 
تصميمه يجمع بين الطراز المعماري المركزي-آسيوي والعناصر الإسلامية — يحتوي على ساحات واسعة، وقبة كبيرة، وأبراج دقيقة. 
في أيام الجمع قديما كان الملايين من المؤمنين يتجمعون في أفنيته وصحنه للصلاة، وكانت المساجد المحيطة تنبض بالدعاء والقرآن. 

لكن السنين الأخيرة شهدت تغييرات كبيرة. بعض المصادر تقول إن المسجد قد تحوّل من مركز عبادة نشط إلى جذب سياحي كمقهى وبعضه حول لمتحف ، وإن الصلوات تُقام بمجموعات محدودة، وأن عدد المصلّين قد تراجع كثيرًا. 
بعض المعلمين المطرودين يقولون إن بعض الفقرات الدينية تُرتّب من جهة رسمية وأن النشاط الحقيقي اختفى. 

كاشغر اليوم، بالرغم من ضغوط التحديث، لا تزال تحافظ على بقايا هويتها الأيغورية — في المبان التقليدية، وفي أسواق الحرف، وفي همس الأذان داخل المساجد المسموحة للصلاة والذي يختلط بصدى السيارات والازدحام وقد رأيت في كل كاشغر القديمة مسجدا واحدا معدّ للصلاة ولم يسمح لي بذلك ربما لتأخري بالدخول .

🧭 رحلة في الهوية: أمةٌ في مواجهة التحدّيات

الأيغور هم قوم تركيّون مسلمون، لغتهم اللغة الأويغورية تنتمي إلى الفرع التركي لغات آسيا الوسطى، وهي كتابة عربية مخصصة. 
هم مرتبطون ثقافيًا وتراثيًا بشعوب آسيا الوسطى، أكثر من ارتباطهم الصيني، لكنهم يعيشون داخل الدولة الصينية، بين الهوية المغايرة والمصلحة السياسية. 

على مدى السنوات الأخيرة، تعرض الأيغور لسياسات صارمة من السلطات الصينية: برامج “إعادة التربية” أو “التدريب المهني”، مراقبة واسعة للهوية الدينية، ترحيل قسري، وإفراغ بعض الأحياء القديمة كجزء من مخاطبة “السلامة الوطنية”. 
تقارير كثيرة تقول إن مدينة كاشغر القديمة — ومنازلها التقليدية ومساجدها وأزقتها — عُرضت لهدم جزئي أو إعادة بناء بأشكال أكثر تجانسًا مع التخطيط المركزي، مما أثار جدلًا كبيرًا حول ما إذا كان ذلك نوعًا من “محو الذاكرة”. 
كبعض أسماء الشوارع الأيغورية والعلامات الدينية والتي “نُقِحت” أو أُزيلت. 
بل حتى لفظة السلام عليكم ورحمة الله ممنوعة من التداول..
كما ان لفظة "حلال" بالمطاعم محرّمة.. 
هنا في كاشغر، في الأزقة التي تخُتَمّ بالأبواب الخشبية القديمة، تسير نساءٌ يلبسن شيئا من الاحتشام دون الحجاب ، وبصراحة لم اجد محجبة فعليا خلال زيارتي...  
ورجال يعتمرون قبعة مربعة كحلية اللون مزدانة باشكال نباتية تسمى" الدوبا " هي ماتبقى من شكل الأيغور ظاهريا وهم يلبسون الطقم الاسود المكون من بالطو وبنطال اسودين عادة. 
 واراهم في المحال والازقة يتهادون بهدوءٍ ، والامر تحت المراقبةٍ الصارمة ، قد تبيّن لي ذلك الأمر من عدم ردّهم للسلام حينما ابدأهم بالسلام...
وفي القرى البعيدة، تُروى قصص عن أولئك الذين أُخذوا إلى مراكز “التدريب” (السجون)، ولم يعودوا، أو يعيدون إلى أهلهم بعد تغيّرات لا تُعلن.

في الختام: بين الأمس واليوم

حين تغادر كاشغر، تأخذ معك صوت الأذان خلف المكان لاتسمعه بل تحس بوجودة لمآذن تراها بلا روح والمتناثرة بين الأزقة، وبين قطعة خبز محمصة بالتنور ، وذكريات الحكايات التي لم تُكتب بعد في كتب التاريخ.
تدرك أنه لا شيء يُعطى لهويةٍ مسلمةٍ في قلب الصين، إن لم تحمله الأجيال بصبرٍ وإيمان.
إن الأيغور في كاشغر هم شمسٌ في أفقٍ غير مستقرّ، ينهضون من بين الرمال ليحافظوا على نورهم، رغم العواصف.

إن كاشغر ليست مجرد مدينة في غرب الصين، بل هي جرحٌ وشاهدٌ وصوتٌ يصارع من أجل ألا يخمد.

الفصل السابع:

أسطورة العطر والماء “شيانغفي” وظلال النقشبندية

رواية شيانغفي [ أسطورة العطر والماء ] 

في قلب شينجيانغ، حيث تنساب الرياح الشمالية الشرقية وتحمل معها عبق الماضي، تقع "حديقة شيانغفي" ذات المناظر الخلابة. هناك، حيث تلتقي السماء بالأرض وتلتف الجبال حول القرية الصغيرة "آيزريتي"، في بلدة هاوهان، تظهر الطبيعة على صورتها الأكثر نقاءً. الحديقة التي تمتد على مساحة تزيد عن ألف فدان (حوالي 1000 فدان) لم تكن مجرد بقعة من الأرض، بل كانت بداية لحكاية قديمة تكتبها الرياح والنهر والذكريات.

بدأت رحلة حديقة شيانغفي في عام 2014، عندما قرر القائمون على تطوير المنطقة أن يجعلوا منها معلمًا سياحيًا يعكس الثقافة الفريدة لشعوب المنطقة. ومع مرور السنوات، أصبحت الحديقة في عام 2019 واحدة من الوجهات السياحية الوطنية المصنفة ضمن المواقع السياحية من المستوى 4A، حيث تجذب الزوار من شتى أنحاء العالم لاستكشاف تاريخها العريق وجمالها الخلاب.

داخل هذه الحديقة، سيجد الزائر نفسه محاطًا بمجموعة من المعالم التي تحكي قصصًا ضاربة في عمق التاريخ. من بينها "حجر شيانغفي" الذي يحمل ذكرى تلك الأيام التي ولدت فيها الأساطير، إلى "مقر إقامة شيانغفي السابق" حيث سكن الأشخاص الذين شكلوا تاريخ المنطقة. أما "طاحونة الماء القديمة" فتُعتبر شاهدًا على التقاليد القديمة في استخدام الماء، بينما تحمل "شجرة الحب" رمزًا للرغبات المستحيلة والمشاعر الخالدة.

وفي الزمان الذي نكتب عنه، حيث كانت الأسطورة تُكتب بالحبر ذاته الذي ينساب من عيون الجبال، كانت "أسطورة شيانغفي" تروي عن "المحظية العطرة" التي أصبحت جزءًا من القصص التي يتناقلها الناس. يتداولها الأجداد كما يتداولون الزهور العطرية، لكن الحكاية، رغم جمالها، تحولت إلى مأساة، لتبقى تلك الفتاة العطرة التي "تحولت إلى فراشة" مع مرور الأيام، عالقة في الأذهان.

لكن القصة الحقيقية التي يجب أن تُروى هنا هي قصة "محمد يوسف" الرجل الذي جاء إلى جنوب شينجيانغ ليغير مجرى التاريخ. لم يكن محمد يوسف مجرد معلم صوفي عادي، بل كان رمزا لطريقة "النقشبندية" التي حملها من بلاد ما وراء النهر إلى هذه الأرض، ليبدأ مسارًا روحيًا وأيديولوجيًا كان له الأثر العميق على سكان المنطقة.

عاش "محمد يوسف" في زمن لم يكن فيه الطريق إلى الله إلا عبر المشقة والتضحية، فكان يروج للطريقة النقشبندية التي جمعت بين السلوك الصوفي والالتزام الديني، حتى أصبحت طريقة صوفية لها أتباع مخلصون في كافة أنحاء شينجيانغ. وعندما وافته المنية، خلفه ابنه "آفاق خوجة"، الذي حمل الراية بعده وأصبح خليفته في نشر تعاليم الطريقة.

ورغم أن هذا الضريح الذي يُعد اليوم من أبرز المعالم الإسلامية في شينجيانغ كان في البداية مجرد مكان للراحة الأبدية لمعلم صوفي، إلا أنه سرعان ما تحول إلى رمز من رموز التاريخ الروحي والسياسي في المنطقة. يضم الضريح القبور التي تتراكم عليها طبقات من الزمن لعائلة "آفاق خوجة" التي حملت الإرث نفسه لعدة أجيال.

ومن هنا، تبدأ أسطورة "شيانغفي" في الظهور. كانت أحد أحفاد "آفاق خوجة" قد ارتبطت بإمبراطور "تشيان لونغ" في قصة تُخلد في الزمان والمكان. كانت تلك الفتاة، التي اشتهرت بعطرها الذي لا يُنسى، قد اختارت طريقًا شائكًا، حين تخلت عن أصولها لتصبح محظية في قصر الإمبراطور. لكن ما لبثت أن تلاشت في ظلال القصر، وسط الأحزان والآلام، حتى ظهرت، بعد وفاتها، في الأساطير كفراشة تحلق في السماء، تحمل في جناحيها العطر الذي سلبت به القلوب.

وكلما مر الزمان، كلما تجددت الأسطورة، وتشبثت بالذاكرة الجمعية للناس. فتجدها اليوم في "معرض شيانغفي" داخل الحديقة، حيث تُعرض أدوات وقطع أثرية تحكي عن حياة هذه الشخصية الغامضة، وكذلك في "جناح العطور" الذي يحمل عبير تلك الأيام البعيدة. أما "سوق كاشغر القديم" فيعج بروائح التوابل، حيث يلتقي المزارعون والتجار المحليون، بينما يعكس "المعرض الثقافي" تاريخًا عريقًا يمتد إلى ما وراء حدود الجغرافيا.

ومع كل زاوية في هذه الحديقة، يبقى السؤال نفسه يتردد: هل ماتت "المحظية العطرة" أم تحولت إلى فراشة؟ أم أنها، في الواقع، هي أسطورة بحد ذاتها، ستظل تحوم في الأفق إلى الأبد، مثل العطر الذي لا يزول؟




✦ رحلة جنوب الصين بين التسوق وقمم الجبال وعمق الاودية والأنهار (5–24 أكتوبر 2025)

✍️ د.الرحال وائل عبدالعزيز الدغفق
 (رحّال الخبر)

مقدمة: 

في الشرق البعيد، حيث تتعانق السحب بالجبال وتغفو الأنهار في أحضان المدن القديمة، كانت الصين على موعدٍ مع رحلةٍ عربيةٍ تحمل عبق القهوة وفضول المغامرة.
رحلةٌ جمعت بين الحنين إلى الطبيعة والبصيرة بالتاريخ، وبين دهشة المدن الكبرى وهدوء القرى النائية.
اثنا عشر يوماً بين غوانغجو وقويلين وتشانغجياجيه، في حكايةٍ تمزج بين الضوء والمطر، بين الحجر والماء، وبين الإنسان والطبيعة التي خلقها الله جمالًا يتجدد في كل نظرة.

الفصل الأول:

الوصول إلى غوانغجو عناق الشرق الأول

في صباح الثاني عشر من أكتوبر، كانت ثلاث طائراتٍ تشقّ طريقها من الرياض والكويت ودبي، تلتقي فوق سماء الصين في رحلةٍ جمعت الإخوة على أرضٍ غريبة الملامح، دافئة الاستقبال.


كنتُ في انتظارهم منذ الصباح، وعند الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة كانت القوافل قد وصلت مطار غوانغجو الدولي، حيث احتفى بنا المرشد المحلي بابتسامةٍ صينيةٍ مطمئنة، واتجهنا إلى فندق أوشن في قلب المدينة.

كان اليوم الأول حراً، فاختار بعض الرفاق مطاعم تركية وعربية قريبة، بينما انطلق آخرون بين أسواق غوانغجو الغارقة في الألوان والعطور.
ومع منتصف الليل، وصل احد اعضاء الرحلة، لتكتمل القافلة ويبدأ المشهد الأول من الرواية الشرقية.



في اليوم التالي، تجولنا بين معلم أشجار الصنوبر الستة، ثم إلى أكاديمية عائلة تشين وبيت الزعيم صن يات-سين.



وعلى جزيرة شاميان التي ما زالت تحتفظ بملامح الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، سرنا تحت أشجارها القديمة على ضفاف نهر اللؤلؤ.
واختُتم اليوم في سوق تشينغبينغ الشعبي، حيث تنبعث روائح الأعشاب والأسماك المجففة وذكريات الصين القديمة.

الفصل الثاني:

إلى قويلين ومدرجات الأرز أنشودة الريف الصيني

ليلة الرابع عشر من أكتوبر كانت مختلفة، إذ وصلت احد أعضاء الرحلة بعد تأخيرٍ طويل سببه جواز السفر، فكان استقباله في المطار كأننا نستقبل صديق عاد من رحلة صبرٍ طويلة.


وفي صباح اليوم التالي، انطلقنا بالقطار السريع نحو قويلين، مدينة الجبال والأنهار.
ومن هناك إلى لونغشنغ لزيارة قرية لونغ إي ذات المدرجات الأزلية التي تُزرع بالأرز منذ مئات السنين.
تسلقنا الممرات، وشاركنا القرويين طعامهم البسيط المطهو على البخار، في بيوتٍ خشبيةٍ تتدلّى من سفوح الجبال.
كانت الليلة بين الغيم والماء، أنوار صغيرة تتلألأ على مدرجات الأرز، كأن السماء انثنت لتقبل الأرض.

مع فجر الخامس عشر من أكتوبر، استيقظنا على صياح الديكة وهديل وتغاريد العصافير.
انطلقنا بعدها إلى يانغشوو، مدينة الشعر على ضفاف نهر لي، حيث ركبنا السفن وانساب بنا الماء بين الجبال المخروطية التي ألهمت الرسامين والشعراء.


وفي المساء، حضرنا عرض “ليو سانجيه” الأسطوري فوق سطح النهر، مشهدٌ من الضوء والموسيقى يحكي عن حبٍّ ووفاء في أسطورةٍ خالدة.

الفصل الثالث:

الكهوف والبحيرات حيث سكون قويلين وسحرها

صباح السادس عشر من أكتوبر ودّعنا يانغشوو، وعرّجنا على كهف الناي (Reed Flute Cave) حيث تتدلّى الصخور كأنها ألحانٌ متجمدة.
ثم زرنا مصنع الحرير قبل الوصول إلى فندق برافو جولين المطل على البحيرة، حيث انعكست أنوار المساء على الماء، فبدت المدينة لوحةً حية من جمالٍ وطمأنينة.

في السابع عشر من أكتوبر، زرنا صخرة خرطوم الفيل، رمز جولين الأيقوني، ثم ركبنا القطار السريع نحو مدينة العجائب تشانغجياجيه في رحلةٍ استغرقت سبع ساعات من الجنوب إلى الشمال، حتى وصلناها ليلاً تحت أمطارٍ خفيفة ونسيمٍ جبليٍّ بارد.

الفصل الرابع: 

تشانغجياجيه وجبال الأساطير بسلالم السماء

في الثامن عشر من أكتوبر بدأ فصل الأعاجيب.
توجهنا إلى محمية وولينغيوان الوطنية، وشاهدنا جبال جينبيان الشاخصة، ثم صعدنا بـ مصعد بايلونغ الزجاجي إلى حيث السحب تلامس قمم الصخور.
هناك وقفنا أمام مشهدٍ لا يُنسى؛ جبالٌ عمودية مغروسة في الغيم، ومنها استوحى المخرج الأمريكي فيلمه الشهير Avatar.

أما في التاسع عشر من أكتوبر، فقد واجهنا الطبيعة بصلابة الإنسان؛
توجهنا إلى جبل تيانمين (بوابة السماء)، لكن المطر والبرد والضباب حال دون رؤية الجسر الزجاجي الشهير.
ومع ذلك تابعنا السير حتى نزلنا 999 درجة معدنية وسط الرياح والضباب، وكانت الرحلة نزولاً من السماء إلى الأرض بكل ما تحمله الكلمة من تحدٍّ وجمال.

في اليوم الثالث (20 أكتوبر)، زرنا سوق وولينغيوان للعطارة الصينية، ثم مبنى الأبراج 72 التراثي المزدان بالعروض والرقصات الشعبية.
وفي المساء، كانت الرحلة الجوية إلى غوانغجو بديلاً عن القطار الطويل، لنصل منتصف الليل إلى فندق أوشن، منهكين ولكن فرحين.

الفصل الخامس: 

ختام الرحلة في غوانغجو بين الأبراج والمساجد

في الحادي والعشرين من أكتوبر، كان لنا موعد مع المدينة الكبرى من جديد.
بدأنا من برج كانتون الشاهق، مروراً بـ ساحة هواشنغ الفسيحة، ثم أسواق الأزياء وسوق بيمان الشهير، وختام اليوم في شارع بيجين الصاخب بالحياة.
كانت غوانغجو تودّعنا بأنوارها التي لا تنام.

وفي الثاني والعشرين من أكتوبر، بدأنا جولتنا الختامية في حديقة الكباش الخمسة، رمز الخلاص من المجاعة، ثم زرنا أسوار سلالة مينغ العتيقة، والقاعة التذكارية للدكتور صن يات-سين مؤسس الجمهورية الصينية الحديثة.
ومن هناك إلى أسواق شوبينغ للعطارة والفطر والجينسنغ، تلتها زيارة روحية في مسجد هوايشنغ ذي المنارة البيضاء، ثم مسجد أبي وقاص، الذي يروي التاريخ أنه بني في عهد الصحابة الأوائل.
واختُتم اليوم في حديقة ليوان حيث تتناثر البرك والجسور الخشبية تحت مطرٍ خفيف يوشك أن يقول: انتهت الحكاية.

وفي ذلك المساء، انطلقتُ وحدي إلى سوق الشاي الأكبر في غوانغجو، لأكمل فصولي الخاصة؛ أبحث عن أوراق الشاي النادرة، وأغذي متحف الشاي في الخبر بمعرفةٍ جديدة من أرض الشاي الأولى.

الفصل السادس:

 الوداع ومعرض كانتون — رسالة الشرق الأخيرة

في الثالث والعشرين من أكتوبر، زرت المنطقة الثانية من معرض كانتون فير 2025، حيث تتجلى الصناعة الصينية في أبهى صورها.
ثم عدت إلى الفندق استعداداً للرحيل، مودعاً الرفاق الذين رافقوني في رحلةٍ كانت أجمل من الحلم ، حيث الجمال لا يُكتب بل يُعاش.


خاتمة الجنوب قوانزو وجولين وتشاغجياجيه من جبال تيانمين

هكذا كانت الصين...
بلادٌ تجمع في حضنها التاريخ والحكمة، الجمال والصرامة، الألوان والضباب.
رحلةٌ لم تكن مجرد مسارٍ جغرافي، بل عبورٌ في الذات؛ من صخب المدن إلى سكون الجبال، ومن أعشاب العطارين إلى بخار الشاي الذي يروي الحكايات.
وما بين الغيم والابتسامات والقطارات والأنهار، وُلدت ذاكرةٌ جديدة تضاف إلى سجل رحلات "رحّال الجزيرة العربية"،
ذكرى تقول لكل من يقرأ:

"سافر لتعرف، وتأمل لتشكر، وعد لتُحدّث بما رأيت من جمال الله في أرضه."




الفصل الأخير:
الخلاصة الكبرى  عينُ رحّال، لا عين سائح

🏮 خامسًا: 

الخلاصة الفكرية المستخلصة لفهم شعب الصين.

الشعب الصيني يشبه نهر اليانغتسي… ومع أنه يبدو مغلقًا أحيانًا، إلا أن جوهره الإنساني منفتح على السلام والتعايش ما دام الآخر يحترم حدوده وثقافته.

خلاصة المسلمين في الصين:

هم أبناء طريق الحرير: بعضهم مندمجٌ في الجسد، وبعضهم غريبٌ في الروح… لكن الضوء باقٍ ما بقي الدعاء عند الغروب ورغيف النان الحارّ في سوق كاشغر.

خاتمتي الشخصية:
حين غادرتُ كاشغر، كانت المآذن الصغيرة الصامتة تبتعد شيئًا فشيئًا، وأطفالٌ يهمسون بالتحية بلغتين: «السلام عليكم» و «ني هاو». أدركتُ أن هذه البلاد لا تُقرأ بعيون العابر، بل بخطواتٍ طويلة وصبرٍ جميل. هنا تتجاور بكين الزجاجية ونينغشيا الهادئة وشيان العتيقة وكاشغر التي تضعُ الملحَ على جرح الذاكرة حتى لا ينام.

✍️: الرحال وائل الدغفق 1447هـ

السبت، 4 أكتوبر 2025

مسلاخ الذئب في وادي حضرموت بين الأسطورة والذاكرة (مستئذب صيعر) رحال الخبر.

*مسلاخ الذئب في وادي حضرموت: بين الأسطورة والذاكرة* 


✍️: اعداد وتحقيق

د. وائل بن عبدالعزيز الدغفق


مؤرخ  رحّالة الجزيرة العربية – المملكة العربية السعودية

 

مقدمة: 

في قلب الربع الخالي، حيث تتثاءب الرمال وتغفو الأساطير على وهج الشمس، نشأت حكايةٌ هزّت خيال المؤرخين والرحّالة والعلماء معًا: 

حكاية المستئذب الصيعري.

هناك، في أودية حضرموت البعيدة، يُروى أن الإنسان لم يعد يكتفي بجلده، بل لبس مسلاخ الذئب وخرج يركض في القفر بحثًا عن النجاة أو الفناء.

ليست هذه سطور رواية خيالية، بل أثرٌ حقيقي دوّنه المقريزي في القرن التاسع الهجري، وشهد عليه فقهاء ومؤرخون، ثم صوّر وجوه أهله الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر، قبل أن يدوّن عنهم الأنثروبولوجي النمساوي والتر دوشتال في القرن العشرين.


بين الخرزة المنسوبة لقوم عاد، وفتوى السقّاف عن الذئب البشري، تمتدّ هذه الأسطورة مثل ظلٍّ طويلٍ على رمال حضرموت:

هل كان أولئك رجالًا التهمهم الجوع فصاروا ذئابًا؟ أم أن الذئب هو الذي تعلّم من الإنسان كيف يخفي أنيابه؟


الملخص

تتناول هذه الدراسة رواية فلكلورية موثَّقة من حضرموت، تتحدث عن قبيلة الصيعر التي ارتبط اسمها بما يُعرف في التراث الشعبي بـ«مسلاخ الذئب» أو «الاستئذاب»، حيث يُروى أن بعض أفرادها يتحولون إلى ذئاب ضارية بابتلاع خرزةٍ منسوبةٍ إلى قوم عاد.

وتتابع هذه الورقة مسار الحكاية من أقدم مصدرها عند المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي في القرن التاسع الهجري، مرورًا برواية ابن جندان في القرن الثامن، وفتوى السقّاف في القرن الرابع عشر، ثم توثيق ويلفريد ثيسيجر المصوّر عام 1947م، وصولًا إلى الدراسة الأنثروبولوجية الميدانية للباحث والتر دوشتال في القرن العشرين، لتبيّن كيف انتقلت الأسطورة من فم الجوع إلى مدوّنة العلم.

 

 تمهيد:

 بين الأسطورة والأنثروبولوجيا

يُعدّ التراث الشعبي الحضرمي أحد أغنى المخازن الأسطورية في الجزيرة العربية، إذ تختلط فيه عناصر البيئة الصحراوية بالعزلة الجغرافية والذاكرة الشفهية المتوارثة. ومن أبرز تلك الأساطير قصة استئذاب الصيعر، التي جمعت بين الرمز والمعاناة، بين الجوع والتحوّل، وبين الإيمان والخرافة.

 

الرواية الأولى: 

المقريزي (ت 845هـ)

يُعدّ المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي أول من دوّن خبر “تحوّل” قبيلة الصيعر في رسالته النادرة «الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة». كتبها سنة 839هـ أثناء مجاورته بمكة، استنادًا إلى روايات حضرمية نقلها عنه “العبد الصالح أبو بريك عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن سالم بن بريك الحضرمي” (من بني سيف الشبوي).

قال المقريزي في نصّه:

«… وبأرضهم نبق كثيرة جدًا… فإذا أجدبت أرضهم لقلة الغيث انقسم الصيعر قسمين: فرقة تخيف السبيل، وفرقة تتقلب ذئابًا ضارية. وذلك أن الواحد منهم عنده خرزة من كنوز ظفروا بها من عهد عاد، فإذا أراد أن ينقلب ذئبًا تثاءب مرارًا… ثم يبتلع الخرزة فينقلب في الحال ذئبًا له وبر وذنب… فإذا أراد الرجوع تمرّغ بالأرض فعاد بشرًا، وتبقى الخرزة… وهذا أمر مشهور عند جميع أهل حضرموت لا ينكره أحد منهم»【1】.

بهذا النصّ، أسّس المقريزي ما يشبه النواة الأنثروبولوجية الأولى لفكرة “التحوّل الحيواني” في التراث العربي، قبل ظهور مصطلح werewolf في الدراسات الغربية بقرون.

 

شهادة ابن جندان (القرن الثامن الهجري)

يورد ابن جندان العلوي الحضرمي في كتابه «مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت» أن سنة 790هـ شهدت مجاعة كبيرة “كان فيها جماعة من الصيعر على سفوح الجبال ينهشون لحوم البشر”【2】.

هذا الوصف، وإن لم يصرّح بـ"الخرزة" أو التحوّل، إلا أنه يربط الظاهرة بالجوع الشديد والانفلات الحيواني، مما يؤكد أن الأسطورة لم تكن خرافةً صافية بل نتاجًا لتجربة بيئية قاسية.


وهنا اتت فتوى السقّاف في (القرن الرابع عشر الهجري)

وبعد قرون من المقريزي وابن جندان، ترد هذه الفتوى النادرة للعلامة المفتي والمؤرخ عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف (توفى 1375هـ) في كتابه «بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد»، جاء فيها:

«سُئلتُ عن رجلٍ من أهل بلادنا يتصوّر بصورة الذئب ويعدو على الغنم، فأفتيتُ بحلّ قتله ما دام على تلك الصورة، ولا سيما في حال اعتدائه. وما كدت أصدّق بذلك حتى كادت تتواتر الأخبار عن مشاهدته»【3】.


الفتوى تُبرز تعامل الفقيه مع الحكاية كواقعة حسّية ذات أثر فقهي، لا كخرافةٍ أو حكايةٍ للتندر.

وهي من أقوى الشواهد على أن الفولكلور المحلي تسلل إلى بنية الفقه الاجتماعي، ليصبح الحدّ بين الخيال والحقيقة غائمًا في الوعي الجمعي.

 

الشاهد البصري: 

ويلفريد ثيسيجر (1947م)

في منتصف القرن العشرين، زار الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر (Wilfred Thesiger) وادي حضرموت، ووثّق بعدسته صورًا لقبيلة الصيعر عام 1947م في مناطق "منوخ وبئر تامس".

تظهر صوره المحفوظة في Pitt Rivers Museum – Oxford رجال الصيعر بملامحهم البدوية الصلبة، ونساءً يملأن القِرب من الآبار【4】.

لم يذكر ثيسيجر حادثة “التحوّل” صراحة، لكنه سجّل القبيلة نفسها التي تناقلتها الأسطورة، مضيفًا بذلك بعدًا بصريًا للذاكرة الفلكلورية.

 

وهنا الدراسة الأنثروبولوجية الأكثر حداثة: 

لوالتر دوشتال(1960–1995م)

ففي ستينيات القرن العشرين، أجرى الباحث النمساوي Walter Dostal دراسة ميدانية شاملة عن قبائل شمال شرق اليمن، منها الصيعر، ركّزت على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للقبيلة【5】.

ورغم أن دراسته لم تذكر الاستئذاب نصًا، إلا أن الباحث أشار إلى وجود تصورات أسطورية عن التحوّل الحيواني في المرويات الشفوية للبدو، مما يؤكد بقاء الظاهرة كموروثٍ رمزيٍّ حيّ.

 

وهنا استقصاء لما وراء الأسطورة: 

ودلالات الاستئذاب في الوعي الجمعي العربي. 


هناك تقاطع لحالة “مسلاخ الذئب” وهو مايطلق عليه غربيا في اساطيرهم "المستئذب" وهو تحول رجال لذئاب في حالات خاصة. 

اما عربيا فهناك رموزٍ فولكلورية مشابهة في عالمنا العربي منها :

• السعلوة في العراق والجزيرة؛

• القطرب في الحجاز؛

• البودا (الإنسان-الضبع) في السودان والقرن الإفريقي. 


وجميعها تشير إلى تحوّل الإنسان تحت وطأة الجوع أو اللعنة أو السحر.


في ضوء ذلك، يمكن قراءة “خرزة عاد” بوصفها رمزًا لقوةٍ كامنة في الإنسان تُخرجه من إنسانيته حين تشتدّ الحاجة أو الفناء ، وفي جلب عاد لسياق القصة كون قصة عاد من القصص الشهيرة وذات دلالة اسطورية يصعب نكرانها مع صعوبة اثباتها كون عاد بكبر قصتها وقوتها واساطيرها غير موجودة ، فتنسب كل مجهول لمجهول لتتراكم الاسطورة بعضها فوق بعض .

فالذئب هنا ليس حيوانًا فقط، بل استعارةٌ عن التحوّل النفسي والوجودي في مواجهة القفر والمجاعة.

ومن بين الحيوانات المعروفة تظل اسطورة الذئب وخباياه والأساطير التي تروى عنه وعلاقته بالجن وما الى ذلك حاضرة في مسلاخ الذئب في قصتنا… 


 

واذا اردنا ان نستبدل البحث التاريخي والموثق برواية فلكلورية لمسلاخ الذئب في وادي حضرموت فسيكون لها معنى واسطورة ممكن فهمها خلال الرواية لا البحث والاستدلال.. 


ولتكن البداية من نثر غبار القفر ومن صرخة التحوّل في حال الفقر ، لتبدأ الحكاية… 


ففي الليالي التي كان القمر فيها كقرص نحاسيّ يطفو على رمال حضرموت، وحين كانت المجاعة تلسع الأرض وييبس النبق في سدر وادي الصيعر.

هناك، بين هضاب “جارول” ورمال “الربع الخالي”، يُروى أن رجالًا من الصيعر إذا اشتدّ بهم الجوع، ولاذت السماء بالصمت، تحوّل بعضهم إلى ذئاب ضارية؛ فيلتهمون الغنم والبشر على السواء.

وقد أمدّنا المؤرخ المصري تقيّ الدين المقريزي(ت 845هـ) حيث دوّن ما سمعه من “ثقاتٍ من أهل حضرموت” أثناء مقامه بمكة سنة 839هـ.. 

ففي رسالته النادرة «الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة».


قال عن قبيلة الصيعر شيئا عجيبا حيث قال:

«… فإذا أجدبت أرضهم لقلة الغيث، يبس شجر النبق، وانقسموا قسمين: فرقة تخيف السبيل "قطّاع طرق"، وفرقة تتقلب ذئابًا ضارية "المستئذبون"، يبتلع الواحد خرزةً من كنوزٍ قديمةٍ من عهد عاد، فينقلب في الحال ذئبًا ذا وبرٍ وذنب، فإذا أراد الرجوع تمرّغ بالأرض فعاد بشرًا، وتبقى الخرزة…».

وأنهى المقريزي سرده بقوله:

«وهذا أمرٌ مشهورٌ عند أهل حضرموت لا ينكره أحدٌ منهم».

هكذا سجّل أول “شاهد حضرمي-منقول” لفكرة مسلاخ الذئب، ودوّنها في وثيقة علمية لا في أسطورةٍ شفهية.

وما حال المجاعة الكبرى عام (790هـ) وشهادة ابن جندان العلوي الحضرمي بعد نصف قرنٍ من المقريزي، في كتابه «مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت» أن سنة 790هـ شهدت مجاعةً عظيمة:

«وكان جماعة من الصيعر على سفوح الجبال ينهشون لحوم البشر».

قد لا يذكر “خرزة عاد”، لكنه يربط الجوع بالعنف الحيواني، وكأن أسطورة المقريزي وجدت شاهدها الواقعي في زمن المجاعة.


وفي خضم النقاش والتاويل وفنش الرواية تأتي فتوى السقّاف

بعد ستة قرون وفي الوقت الحاضر، حيث عاد الصدى في فتوى الفقيه عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف (ت 1375هـ) في كتابه «بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد»، ص 460 بقوله :

«سُئلتُ عن رجلٍ من بلادنا يتصوّر بصورة الذئب ويعدو على الغنم، فأفتيتُ بحلّ قتله ما دام على تلك الصورة، ولا سيما في حال اعتدائه… حتى كادت تتواتر الأخبار عن مشاهدته».

تلك الفتوى المدهشة أعادت للموروث القديم حياةً فقهية، إذ تعامل السقّاف مع التحوّل كـ”واقعة حسّية” تستوجب حكمًا شرعيًا، لا كخرافة.


وفي مشهد أخير عام 1947م

وبعد الحرب العالمية الثانية، عبر الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر وادي حضرموت وعدّسته ترصد وجوه الصيعر في بئر منوخ وبئر طامس وريضة صيعر .

وتُظهر صوره المنشورة في Pitt Rivers Museum – Oxford رجالًا أشدّاء بملامحٍ صارمةٍ كأنها استبقت في ملامحها ظلال الحكاية القديمة؛ لم يرَ ثيسيجر “ذئبًا”، لكنه وثّق القبيلة ذاتها التي حملت الأسطورة قرونًا.

والدراسة الحديثة للباحث النمساوي والتر دوشتال (1960 – 1995م)

في ستينيات القرن العشرين، حيثأجرى Walter Dostal دراسةً ميدانية عن قبائل اليمن، شملت الصيعر، بعنوان «Sozio-ökonomische Aspekte der Stammesdemokratie in Nordost-Yemen» وغيرها، ثم أضاف ملاحظات حتى 1995م.

تناول مساكنهم ونظامهم الاجتماعي وتأثير الحداثة، ولم يؤكد روايات “التحوّل”، لكنه سجّل أن “الأسطورة عن رجلٍ يتلبّس شكل الذئب لا تزال حيّة في الذاكرة الشفوية للصيعر والبدو المجاورين”.

فكانت دراسته صكّ توثيقٍ إثنوغرافي لما تبقّى من صدى الأسطورة.

ولكي نفهم الجذور الفولكلورية لأساس قصتنا. 

من فكرة التحوّل إلى حيوان وكونها ليست حصرًا على حضرموت بل تعدّت للعالم العربي والغربي :

ففي الجزيرة العربية عُرف القُطرُب أو السَّعلوة، ذلك الكائن الذي يتبدّل ليلًا بين إنسانٍ ووحش.

وفي السودان والقرن الإفريقي ووحش “البودا” المتحول ببن (الرجل-الضبع).

وفي العراق خرافة “السعلوة” التي تأكل المسافرين.

كل تلك الحالات والخرافات تؤكد أن الخوف من الجوع والعزلة والقفر والفقر يولّد في خيال الشعوب كائنًا يتقمّص الوحش ليبقى حيًا.


وفي الختام بين الأسطورة والذاكرة، وبين خرزة عاد واستئذاب الصيعر، وما بين خرزة المقريزي ومجاعة ابن جندان وفتوى السقّاف وعدسة ثيسيجر ودراسة دوشتال—تُرسم ملحمة حضرمية نادرة:

أسطورةٌ بدأت من فم الجوع، وخرافة خرزة قوم عاد لتتحوّل إلى فتوى، ثم إلى ذاكرةٍ مصوّرة، ثم إلى مادةٍ إثنوغرافية، وأخيرًا إلى أيقونة من أساطير حضرموت.

وفي كل مرةٍ يُروى فيها عن “مسلاخ الذئب”، يختلط الصدق بالعجب، ويبقى السؤال معلّقًا فوق وادي حضرموت:

هل كان الصيعر ذئابًا بالفعل؟ أم أن الذئب كان رمزًا للجوع، والخرزة استعارة عن تحوّل الإنسان حين تضيق به الحياة؟

ولعلّ السرّ يكمن في “خرزة عاد”، فإذا اكتُشف موضعها يومًا، اكتملت الرواية.

 

المراجع

1. تقيّ الدين المقريزي، الطرفة الغريبة في أخبار وادي حضرموت العجيبة، تحقيق طارق بن محمد العمودي، صـ 23–26.

2. ابن جندان العلوي الحضرمي، مختصر الدرّ والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت، جـ1، صـ 71.

3. عبدالرحمن بن عبيد الله السقّاف، بلابل التغريد فيما استفدناه أيام التجريد، صـ 460.

4. Wilfred Thesiger, Arabian Sands, and photographic archive, Pitt Rivers Museum (Oxford), “Sa’ar tribe at Minwakh, Hadramawt, 1947.”

5. Walter Dostal, Sozio-ökonomische Aspekte der Stammesdemokratie in Nordost-Yemen, Sociologus, Vol. 24, No.1 (1974); and subsequent notes (1995), Vienna Academy of Sciences.

 

د. وائل بن عبد العزيز الدغفق  1447هـ

الجمعة، 3 أكتوبر 2025

اول زيارة للهند 1980 وزيارة بعد40 عام لرحال الخبر ..My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

الرحلة الأولى إلى الهند (1400هـ / 1980م) 

My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

رواية من فصول الذاكرة

المقدمة:

من الثانوية إلى المطار

كنتُ حينها طالبًا في المرحلة الثانوية، أبحث عن معنى للحياة خارج أسوار المدرسة. كان الصيف فرصة ذهبية، فالتحقت ببرنامج عمل للطلبة لاكتساب الخبرات، وكان الراتب مجزيًا بمعايير ذلك الزمن. شيئًا فشيئًا، تجمّع في يدي مبلغ طيب بلغ نحو 2000 ريال، وهو ما اعتبرته ثروة صغيرة تمنحني جناحين لأحلّق بهما.

عندها بدأ الحلم يتشكّل: أن أستقل الطائرة وحيدًا، وأن أعتمد على نفسي، وأختبر قدرتي على مواجهة المجهول.

اختيار الوجهة: وكانت الهند.

وحددت خط الانطلاق: 

ومن مطار الظهران الدولي، ذلك المطار العريق الذي كان آنذاك في أوج شهرته، بوابة الشرق الأوسط إلى العالم، قبل أن يتوقف عمله لاحقًا ويُستبدل بمطار الملك فهد بالدمام.

وحين جلست على مقعدي في طائرة Air India، شعرت لأول مرة أنني لم أعد مجرد طالب ثانوي، بل مسافر على أعتاب حياة جديدة.


الفصل الأول. 

بومباي… مسرح المغامرة الأولى

هبطت الطائرة في بومباي، فوجدت نفسي في مدينة تضج بالحياة والفوضى معًا. هناك بدأت المغامرة الكبرى لاكتشاف ذاتي. ارتديت اللباس الأبيض الهندي، واندمجت بين الناس كأنني واحدٌ منهم. سكنت فنادقهم الشعبية في أزقة ضيقة، واستأجرت دراجة هوائية، أجوب بها شوارع المدينة المزدحمة بحرية دون أن يلحظني أحد.

قضيت أسبوعًا كاملًا في هذه التجربة، أعيش بينهم بلا وسطاء، أتناول طعامهم، أرى حياتهم اليومية عن قرب. رأيت مشاهد ستبقى محفورة في ذاكرتي: أطفال يخرجون من أنبوب معدني مخصّص للمجاري، ثم يرتدون زيّ المدرسة الأزرق والأبيض ويذهبون بابتسامة بريئة. مزيج من الفقر والعزيمة، من البؤس والكرامة.

في بومباي تعلمت أن المغامرة الحقيقية ليست في رؤية الأماكن، بل في الانغماس بالحياة كما يعيشها أهلها. وهناك أيقنت أنني اجتزت الاختبار الأول للاعتماد على النفس، وأن هذه ليست سوى بداية الطريق.

اول صورة لي في بومبي1980

الصورة الثانية بعد مرور 40 عام على الاولى كانت في عام2020

التقطت في هذا الشارع في بومبي


الفصل الثاني:

 اللقاء في دلهي

بعد أسبوع من مغامرتي في بومباي، جاءني خبر أن والدي قد وصل إلى دلهي لإنهاء أعماله الخاصة بالمصانع وجلب المعدات والعمال. حملت حقيبتي، وتركت وراء ظهري أزقة بومباي الصاخبة، وانطلقت لألتحق به.

في دلهي كان اللقاء. أخبرته عن مغامرتي الأولى، وكيف نجحت في أن أعيش وحدي بينهم دون أن ينكشف أمري. ابتسم الوالد، وربما شعر بالارتياح أن ابنه بات يملك الجرأة والقدرة على مواجهة الحياة. 



الفصل الثالث:

 دلهي… بين التاريخ والمآذن

انطلقت مع والدي أستكشف وجهًا آخر للهند. دخلنا القلعة الحمراء، حصن المغول، حيث كان السلطان "أكبر" يبسط سلطانه على الهند والسند. وبين جدرانها شعرت أنني أسمع همس التاريخ وصليل السيوف.

ثم زرنا المسجد الجامع (المغولي الأحمر)، المهيب بمآذنه الشامخة وساحاته الواسعة. هناك ازداد يقيني بعظمة البصمة الإسلامية في أرض الهند، وكيف أنها لم تكن عابرة، بل جزء أصيل من حضارتها.

مع الوالد في زيارة لتاج محل في اكرا

الفصل الرابع: أغرا… مرثية من الرخام الأبيض

ومن دلهي ارتحلنا إلى أغرا، حيث وقفت وجهاً لوجه أمام أعجوبة الدنيا: تاج محل. كان المشهد أكبر من الكلمات، مبنى أبيض من المرمر يضيء كالحلم، مرثية خالدة للحب. تجولت بين حدائقه وقبابه، والدهشة لا تفارقني.

إلى جواره وقفنا عند القلعة التي بناها السلطان "أكبر"، رمز القوة والسيطرة. في تلك اللحظة أدركت كيف تجتمع في الهند كل المتناقضات: الحب والحرب، الرخاء والفقر، العظمة والبساطة. 


الختام:

 انطلاقة نحو العالم

هكذا كانت رحلتي الأولى: بدأت وحيدًا في بومباي لاختبار نفسي، ثم التقيت والدي في دلهي، وأكملنا سويًا جولة في أغرا حيث تاج محل الخالد.
كانت تجربة صغيرة في ظاهرها، لكنها شكلت بدايتي الحقيقية. لقد علمتني أن السفر ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو انطلاقة نحو الذات أولًا، ثم نحو العالم. ومن هناك بدأت رحلتي الطويلة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، والحمد لله على التيسير.

وائل بن عبدالعزيز الدغفق1980 1400هـ
_________________________________
وهنا الرحلة بعد ترجمتها باللغة الانجليزية

My First Journey to India (1980 / 1400 AH)

A Tale from the Early Days of Rahhal al-Khobar

Prologue: From Schoolboy to Traveler

At the time, I was still a high school student, restless and curious about life beyond the classroom walls. During the summer, I joined a student work program designed to build character and provide practical experience. The pay was generous for those days, and by the end of the season, I had managed to save around 2,000 Saudi riyals — a small fortune in my young eyes, yet enough to give me wings.

The dream quickly took shape: to buy a ticket, board a plane alone, and rely entirely on myself in a foreign land.

The departure point was Dhahran International Airport, the legendary hub of the Eastern Province and one of the busiest airports in the Middle East before it was later replaced by King Fahd International. My ticket was with Air India, and as I fastened my seatbelt, I felt a surge of anticipation. This was no ordinary trip; it was my initiation into the world of independence and discovery.


---

Chapter One: Bombay — A Stage for the Self

When the aircraft descended over Bombay (now Mumbai), I stepped into a city brimming with chaos and vitality. It was here that my true adventure began — a test of courage, self-reliance, and the art of blending in.

I donned the simple white attire of the locals, checked into modest lodgings tucked away in narrow alleys, and rented a humble bicycle. With this disguise, I roamed the city freely, moving unseen through crowded markets and teeming streets.

I lived for a week among the people of Bombay — eating their food, watching their daily struggles, listening to their laughter and quarrels. Some images etched themselves forever into my memory: children crawling out of a sewer pipe in the morning, only to emerge freshly dressed in crisp blue-and-white school uniforms; a family living in despair, yet holding on to dignity; the endless rattle of buses, rickshaws, ox-drawn carts, horse carriages, even elephants pulling wagons. A river of humanity, all flowing in directions that seemed chaotic yet strangely harmonious.

That week in Bombay was more than survival; it was an awakening. I realized that the essence of travel lies not in monuments or photographs, but in immersing oneself in the rhythm of ordinary lives.


---

Chapter Two: Reunion in Delhi

After seven days of anonymity in Bombay, news reached me that my father had arrived in Delhi to oversee factory arrangements and the import of machinery and workers. I gathered my few belongings, left the bustle of Bombay behind, and made my way north.

There, in Delhi, I rejoined him. With excitement, I recounted my hidden adventure, how I had lived unnoticed among strangers. He listened with quiet pride, perhaps relieved to see that his son had the courage to carve his own path.


---

Chapter Three: Delhi — Where History Whispers

With my father beside me, I discovered another face of India: its imperial grandeur. We walked through the towering gates of the Red Fort, once the seat of the mighty Mughal emperor Akbar. The fortress walls seemed to murmur tales of power, conquest, and splendour.

Not far away, we stood in awe at the Jama Masjid, one of the largest mosques in India, with minarets piercing the Delhi sky. In its vast courtyard, I felt the weight of history — of Islam’s enduring imprint on this land.


---

Chapter Four: Agra — A Love Carved in Marble

From Delhi, our journey took us further to Agra, and there I encountered one of the world’s wonders: the Taj Mahal. No words could capture the majesty of that white marble mausoleum, gleaming like a dream against the sky. It was not merely architecture, but a poem in stone — a love story immortalized in symmetry and silence.

Beside it stood the massive fort built by Emperor Akbar, a reminder that India has always been a land where beauty and might, romance and empire, lived side by side.


---

Epilogue: A Beginning, Not an End

And so ended my first voyage to India: beginning alone in the labyrinth of Bombay, continuing in Delhi with my father, and culminating in Agra before the timeless Taj.

What began as the adventure of a high school boy with 2,000 riyals became the foundation of a lifelong journey. That trip taught me that travel is more than movement across maps; it is an inward discovery, a dialogue with the self, and an endless invitation to the world.

From that summer of 1980, my life as a traveler truly began. And for that, I remain forever grateful.