الاثنين، 3 مارس 2025

رحلة من سواحل الخليج الى قلب نجد العذية الى عبق الأماكن ودفء القلوب.رحال الخبر1446هـ

رحلة من سواحل الخليج الى قلب نجد العذية الى عبق الأماكن ودفء القلوب

فبين الثالث والعشرين والثامن والعشرين من شعبان لعام 1446هـ، الموافق 22 إلى 29 فبراير 2025م، انطلقت في رحلة من الخبر الى ربيع الشمال متوجها الى نجد العذية ، وكان مروري عبر عاصمة الربيع "النعيرية" وأرخت مرساتي في أحد مزارع  "القرية العليا" حتى حين الانطلاق الى "حفر الباطن" وكل تلك الرحلة انما كانت بحثًا عن الجمال في تفاصيل الأرض وربيعها ودفء اللقاء في صدور الرجال ومن مررت بهم.

 إنطلقت من الخبر، قاصدًا النعيرية والقرية العليا، لأحلّ ضيفًا على أخي الكريم، أبو يوسف مازن الحمودي، في مزرعته البهية، 

حيث احتواني بجود مضافته وسخاء روحه. قضيت ليلةً من أجمل ليالي رحلتي وسفرتي الربيعية وقبيل رمضان لهذا العام ، وقضيتها بين نسائم الطبيعة وكرم الضيافة، قبل أن أتابع المسير صوب الصداوي، ومعرج السوبان… 

 هناك كان لي وقفة لمنظر أسرني واضطرني للوقوف بلا خطة ولا نيّة وكل ذلك بسبب كمية الجمال في ما رأيته بذاك الحقل الزاهي والذي حوى من الورود الوان واشكال ، هناك حيث تفتحت الأرض عن بساط أحمر قانٍ من زهور الديدحان، يغازل لون العشق الوردي لبعضها اعيننا، في مشهد يأسر القلوب.

وكل ذلك في المنتزه البري الواقع في مدخل الصداوي ليكون أجمل أستقبال واروع كلمات تستقبلك كباقة مزهرة ..
فما اروعها من بلدة وما اجمل زهورها الربيعية المورقة البهيّة.


حفر الباطن.. حيث لكل شاي حكاية

بعد القرية العليا والصداوي ، يمّمت وجهي صوب حفر الباطن، ومررت قبلها بالقيصومة وهي احدى المدن التي انبثقت من مشروع التبلاين وليس قبله وفيها المطار لحفر الباطن ، وتعتبر مدخلا للحفر من الجهة الشرقية تبعد عن الحفر 20 كيلا فقط ، ثم دخلت حفر الباطن. 


 وهي بلدة تاريخية ترجع للصحابي الجليل أبو موسى الأشعري، والذي أسسها عام ١٧هـ حين حفر أول بئر من آبارها ليجعل منها أهم محطة على طريق الحجاج القادمين من العراق في الدرب المشهور( درب الحاج البصري) ، ومن أسمائها في كتب التاريخ "حفر أبي موسى"، "حفر بني العنبر".
 وواديها البديع، مستكشفًا عبق المكان، ومستمتعًا بأقداح الشاي التي تحكي قصصًا من أصقاع الأرض.

 كانت محطتي الأولى "بيت الشاي" لأبي سلمان الشمري، حيث تذوقت شاي "النهرين" الشهير، برائحته الزكية ونكهته العميقة، إلى جانب أنواع نادرة تجسد ثقافات الشعوب. ولم يكتمل شغفي إلا بزيارة "شاهي 78"، ذاك المقهى الذي يعيدك إلى سبعينيات القرن الماضي، بتصميمه العتيق ونكهاته الأصيلة. 

والمحل له فرعين وشايه يضرب المخيخ الاعلى ومن المعروف أن ذائقة اهل حفر الباطن واهل حايل للشاي عالية الطلب ، ولا عجب ان يجمعوا أفضله وأجمله .

واكملت جولتي عبر أزقة السوق القديم، استرجعت ذكريات الأمس، قبل أن أكون ضيفًا على أبي سعود نواف الفضلي، بحضور والده الكريم، في لقاء عامر بالودّ والكرم.

ثم بعد قضاء يوم في الحفر اتجهت على طريق الرياض جنوبا متجها للزلفي مرورا بمدينة الملك خالد العسكرية والبطيحانية وام الجماجم وام طليحة والارطاوية لاتجه غربا عبر روضة السبلة ومن المطل الشرقي من طويق اذ ترحّب بي مدينة الزلفي البديعة.. 


رحلة لواحات الزلفي بين نفوذها وعقلها. 

دخلتها من مطلاتها الفريدة، فأطلّلت عليها آتيا من الشرق عبر "مطل طويق الشرقي"، حيث رحبّت بي المدينة المتجددة، والمتطورة دوما ومن الغرب الى "مطل الثويرات الرملي"، حيث النفود تحتضن الأفق. احتسيت هناك شاي "وجار" الشاي الزلفاوي" الأصيل، قبل أن أتجول بين "عِقَلِها" -جمع "عقلة" - وهي اماكن سكنى أهل الزلفي قديما أتخذو واحات من النخيل بديعة لسكناهم ، وحيث تبدو الرمال كأكاليل من زهور الزمن. 

وقفت عند أحدها وهي "عقلة المر"، موطن جدي لأبي إبراهيم الدغفق، حيث تلتقي جذور العائلة برمال الصحراء، في مشهد يبعث الدهشة. بتّ هناك، رغم البرد القارس الذي لامس ثلاث درجات مئوية،
.. عقلة المر موطن جدي ابراهيم الدغفق

 وقرب عقلة المر هناك منظرا يحج اليه محبو غرائب الامور واعجبها متمثلا بطريق مسفلت ومعتنى به وكانه يؤدي الى مدينة حديثة وانت في مساره وفجأة اذ بك تصطدم بكثيب رملي يقطع عليك هواجيسك وجمال واناقة الطريق لتدخل الى عالم آخر من عوالم الرمال والصحاري ورمال الثويرات البديعة.. 

 ثم أكملت رحلتي مع بزوغ الفجر متجها لأحدى مدن الوسم العريقة لأحط رحالي هناك.

عنيزة ثم أشيقر.. حيث الأصالة والهدوء

مررت عنيزة، وزرت منتزه "الطويريب"، لكنه لم يكن على مستوى التوقعات، فاكتفيت بجولة قصيرة، فعنيزة زرتها مرارا واردت اختصار الوقت للذهاب وإكتشاف الجديد ، لأتابع نحو أشيقر، تلك البلدة التراثية المتجددة حيث وجدت المكان ينبض بالتطوير والتاريخ معا. 

 ورغم أنه لا يفتح أبوابه إلا في مواسم محددة ، فقد سعدت باكتشاف مكان جميل أسمه "منتجع جدي حمد"، ذلك البيت الذي تحيطه النخيل، ويقدم وجباته في أجواء تراثية آسرة وحولة دور وشيجر ومزارعه وارفة الخضرة باسقة بنخيلها الشامخة. 

ومن هناك، انطلقت عبر "مسار تاريخي لتجار نجد"، وهو درب هايكنج بطول سبعة كيلومترات، يمر بقرية الفرعة إلى مدينة "شقراء" ، حيث تتعانق الهضاب مع التاريخ. ووصلت قرية شقراء التاريخية وزرت "قصر السبيعي" وسوق "حليوة" التراثي، قبل أن أواصل المسير شرقًا، نحو بلدة القصب، مرورا بثرمدا ومرات ولم اتوقف متجها للقصب حيث تنتظرني مفاجآت الملح والتاريخ هناك.

 مملحة القصب.. كنز الملح المدفون

رحلتي إلى مملحة القصب حينما يتحدث الملح بلغة الأرض وزمانه

حين اقتربت من مملحة القصب، كان المشهد أمامي أشبه بلوحة بيضاء رسمتها الشمس والرياح عبر العصور. مدّ البصرُ بحرٌ من البرك اللامعة، تتلألأ تحت أشعة الشمس وكأنها مرآة تعكس نقاء الملح وصفاء الأرض. هنا، حيث تلتقي الجيولوجيا بالصبر، وحيث لا يزال الإنسان يخوض صراعًا هادئًا مع الطبيعة لاستخراج كنزها الأبيض.

سلكت دربًا ترابيًا متعرجًا، تحفّه كُثبان الملح المتراكمة، حتى وصلت إلى قلب المملحة، حيث يقف العمال بملابسهم البسيطة وأيديهم التي أكلتها الشمس، منهمكين في مراقبة المياه المتبخرة وترسب الملح في البرك. على بعد خطوات، رأيت جفرًا عميقًا يحاكي الآبار التقليدية، لكنه لا يبحث عن الماء العذب، بل عن ماء مشبع بالملح، تُسحَب منه المياه إلى البرك المجاورة، حيث تبدأ عملية التبخير تحت أشعة الشمس اللاهبة.

جلست على صخرة قريبة، أراقب كيف يتحول السائل إلى بلورات صلبة، وكيف يأخذ الملح شكل الحياة التي منحته إياها الأرض، فإما أن يُجمع يدويًا بمجاريف خشبية كما كان يُفعل منذ قرون، أو يُضخ إلى خزانات الطين، ليبدأ رحلته نحو المعالجة والتعبئة.

أحد كبار الملّاحين هناك، بوجهه الذي نقشته السنون وابتسامته التي تعكس فخره بما يصنع، اقترب مني وقال: *"نحن لا نحصد الملح فقط، بل نحصد إرثًا عمره قرون… هذه الأرض تعطي لمن يصبر عليها، وهذا الملح، رغم بياضه الناصع، هو نتاج تعبٍ طويل وصبرٍ كبير."*

أخبرني عن تطور المهنة، كيف كانت قديماً تُعتمد فقط على الطبيعة، وكيف توسعت البرك وزادت الطاقة الإنتاجية، حتى أصبحت جفار القصب تنتج ثلث احتياج المملكة من الملح. نظرت إلى الأفق، حيث كانت أكياس الملح مكدسة بانتظار رحلتها إلى الأسواق، وتساءلت كيف أن هذه الحبيبات الصغيرة، التي لا يخلو منها بيت، تحمل في داخلها قصة طويلة من الكفاح والتاريخ.

وتحتاج برك الملح من شهرين إلى 3 أشهر لإنتاج حوالي 100 ألف كيس من الملح (5 كيلو للكيس).
وللعلم فان إنتاج الملح العالمي يبلغ (273.8 مليون طن) في 2023، كما ارتفع إنتاج السعودية من الملح إلى (2.5 مليون طن) وتحمل المملكة المرتبة 36 بين دول العالم ملحيا. 

مملحة ومنتجع المقحم النموذجية

زرت منتجع المقحم الملحي الجميل والأول على مستوى الخليج العربي حيث استغل أحدى الجفر "حفرة الملح" لتكون موقعا للإستجمام للزوار واماكن استراحة بين ثنايا البركة المتسعة وقد بنيت امواخ من القصب مرتفعة ليتخذ الزوار البركة ممشى ومسارا يخوضون بأقدامهم الملح الطبيعي ومافيه من علاج من اليود والأملاح المعدنية المتنوعة. 


والمكان مخدوم بالطرق والمرافق ووسائل الراحة ورايت زوار من المملكة والأجانب يفدون اليه لجمال تصميمه وروعة فكرته الاستجمامية النادرة ..
فشكرا للمقحم اضافة هذا الموقع الفريد ضمن مواقع الجذب السياحي بالمملكة ، مع مافي القصب من مواقع تاريخية مميزة أخرى سنتحدّث عنها تفصيليا. 

أول مسجد ملحي تحت الارض بالمملكة وربما بالعالم

في أحد أركان منتجع مملحة المقحم النموذجية ، وقفت أمام "المسجد الملحي"، وهو أول مسجد في العالم يُبنى بجدران من الملح، يشع بلونه العاجي، وكأنه منحوت من ضوء القمر. تذكرت خلال جولتي غرف "الساونا الملحية" في أوروبا، حيث يُستخدم الملح لعلاج الجهاز التنفسي، وأدركت أن لهذه البلورات سرًا لم يُكشف بعد. 

ومن المسجد خرجت من المملحة وأنا أحمل في ذاكرتي مشهدًا لا يُنسى… مئات البرك اللامعة، صفاء البلورات البيضاء، ورائحة الأرض الممزوجة بالملح… إنها ليست مجرد صناعة، بل حكاية صبرٍ وحكمة، تمتزج فيها الطبيعة بالإنسان في رقصةٍ أزلية لا تنتهي.

بلدة القصب التاريخية.. حين يحتضنك المكان وأهله

مدينة القصب والمعروفة بأنها مدينة «الرمال اللامعة» تقع على بعد 160 كيلومترًا شمال غرب العاصمة الرياض. وتتبع محافظة شقراء التابعة لمنطقة الرياض وتتجاوز مساحتها 1365 كيلومترًا مربعًا ويتجاوز عدد سكانها سبعة آلاف نسمة ، وتنتج الملح المستخرج من جوف الأرض الذي يغطي ثلث احتياجات المملكة من الملح

القصب مدينة الملح والتاريخ والكرم الذي يأسر القلوب

عندما غادرت مملحة القصب، كنت أظن أن رحلتي نحو هذه البلدة التاريخية ستكون زيارة عابرة، لا تتجاوز النظرة الخاطفة على تراثها وأزقتها، لكن للقصب سحرًا لا يُرى بالعين وحدها، بل يُشعر بالقلب، وكأن الأرض ذاتها تُصر على إبقاء زائريها بين أحضانها أطول مما خططوا له.

ما إن وصلت إلى مدخل البلدة حتى لمحت لوحة القرية التراثية، وكانت تعج بالحياة، السيارات مصطفة، والزوار يملأون المكان، فقررت العودة أدراجي تجنبًا للزحام. لكن أحد المنظمين، بعفويته وإصراره الجميل، أوقفني بلطف وأكد لي أنني لن أندم على الدخول، وأن القصب ستأسرني بجمالها وأهلها. لم أستطع إلا أن أستجيب لهذه الدعوة الصادقة، وكم كان محقًا! فقد كنت أنوي قضاء نصف ساعة فقط، لكنني مكثت أكثر من ست ساعات، بل كدت أبقى ليلتي هناك لولا التزاماتي اللاحقة.

كرم أهل القصب بأبهى صوره

استُقبلت بحفاوة مدهشة، رجالًا ونساءً، شبابًا وكبارًا، جميعهم يبثون في المكان دفئًا خاصًا. وما إن خطوت في أزقتها حتى أسرني *"أبو نورة، ناصر الغانم"* ، الذي لم يتركني إلا بعد أن أخذني في جولة شاملة داخل القصب، وختمها بعشاء كريم ودعني به وكأنني فرد من عائلته، بل كاد يقنعني بالمبيت في منزله!

أخذتني جولتي بين أحياء البلدة وأسواقها القديمة، وكانت البداية من بيت شيخ القصب عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم، الذي وافته المنية عام 1374هـ وهو من رجالات الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ورحمهم الله جميعا. حفيده كان هناك، يشرح للزوار كيف تحول هذا البيت العريق إلى محكمة في حقبة من الزمن. من هناك، تابعنا نحو قصر إبراهيم الراشد، ثم عبرنا منعطفات القصص التاريخية التي تشكلت بين جدران البلدة العتيقة.

مررنا بإحدى أبرز ديوانيات القصب، ديوانية المنيع من آل عاصم من قحطان، التي تفتح أبوابها طوال العام، ثم وصلنا إلى بيوت السويد والجريان، حيث كان الجميع متواجدين، كبارهم وصغارهم، في استقبال الضيوف، مقدمين العود والقهوة والتمر مع ابتسامات صادقة تعكس أصالة أهل القصب.

ما لفت انتباهي هو ذلك الترابط الاجتماعي القوي، وكأن الجميع يعرف بعضهم بعضًا، فلا تمر برجل أو امرأة إلا ويكون له صلة قرابة أو معرفة بأحد أبناء البلدة. كان أبو عبدالله، أو كما يحب أن يُدعى أبو نورة ناصر الغانم، يعرف كل شخص التقينا به، وكل واحد منهم لديه قصة، جارة الأم، صديق الطفولة، ابن الجار القديم، وهكذا… هذا التداخل الجميل جعلني أشعر وكأنني بينهم منذ سنوات، وليس مجرد زائر عابر.

كان من الملفت أيضًا رؤية رئيس مركز القصب، الأستاذ سعد بن إبراهيم القاسم، وهو يتجول بين الناس، يتفقد الزوار والمشاركين في الموسم، ما يعكس روح الاهتمام بالمكان وزواره. ومن هناك توجهنا إلى دار الحمد (الداغر)، حيث استقبلني أحد أبناء العائلة بجولة داخل المنزل العامر، ثم أهداني رمزًا للقصب: علبة شفافة تحتوي على ملح، مع فنجال صغير يرمز إلى مكانة الملح في حياتهم.

ثم انتقلنا إلى ركن مختلف من القصب، حيث التقينا بالفنان التشكيلي عبدالرحمن بن زاحم، الذي أبدع بتشكيلات خشبية ساحرة تعكس لمسات فنية ذات طابع سريالي. وبعد ذلك مررنا على منزل الشعلان والمحارب والفضل "الفضلي"، ثم المساجد القديمة في البلدة، مثل مسجد لبدة، مسجد الشعبة، والمسجد الجامع (جامع القصر)، وهو الأكبر في القصب.

عبق الماضي ونكهات التراث في اسواق القصب. 

لم تكتمل الجولة دون زيارة الأسواق التقليدية، حيث تجولت في سوق العبيدي، مرورًا بأجنحة الطعام في الموسم، التي قدمت أشهى المأكولات الشعبية مثل المرقوق، الجريش، الكليجة القصبية الأصيلة المقرمشة، وقرص عمر، ذلك الخبز المميز المصنوع من القمح والسكر مع لمسة من الكركم والملح.

أما المطاعم الحديثة فقد أضافت لمسة عصرية للمكان، ومن أبرزها مطعم "كبوتيك BK"، الذي صُمم ليكون من أجمل الساحات القصب، إضافة إلى مشاركة مطاعم "ماما نورة" و"سولت (Salt)"، التي بدأت رحلتها من الخبر ثم جابت العالم لتجد لنفسها مكانًا هنا في القصب، في قلب موسمها الفريد.

القصب مدينة حفرت تاريخها وعمّرت دورها من الأرض ومنها.

ما يميز القصب هو وجود (نقر) وهي "حفر" منتشرة في أنحائها، وهي حفر قديمة اُستخدمت لاستخراج الطين لبناء المنازل، وقد مررت على ثلاث منها، حيث شعرت أنني أمام شاهد حي على تقاليد البناء النجدية العريقة. 
كما تمتلك القصب ثلاث بوابات تاريخية:

البوابة الغربية (باب الحوطة).

البوابة الشرقية (باب المجيبيب)، تصغيرًا للمجبب كونه مسقوفًا.

البوابة الشمالية (باب البرج الشمالي)

وبني سور حولها على طريقة العقادة وهي صب كمية من الطين الممزوج بالتبن المخمّر لايام ، وعلى طول إمتداد السور في اول الامر ، ثم إكمال العقادة وسميت عقادة تشبيها بالعقد المحيط بالرقبة وهو كعقد من الطين فوق العقد الاول ، وحتى نهاية بناء  السور ، وهي ميّزة بناء تقوي السور من الهجمات وتمنع تسلل المياه لأساساته عن الطريقة العادية وهي البناء باللبن الطيني. 

بلدة القصب التاريخية

تقع بلدة القصب وسط نجد، وتتميز بمبانيها الطينية التي شُيّدت وفق أسلوب معماري يعكس بيئتها، حيث استخدمت الطين المتوفر محليًا، بينما كان الحجر نادرًا ويُجلب من مناطق بعيدة، مما جعله عنصرًا محدود الاستخدام في البناء. اعتمدت أسقف المنازل على خشب الأثل وجريد النخل وجذوعها، مما منحها قوةً واستدامة طويلة. أما الأبواب، فقد صُنعت من جذوع النخل المنشورة، وشُدّت بألواح خشبية ومسامير طويلة، مما جعلها قوية متينة.

تضم منازل القصب عدة أقسام، منها المضافة وتسمى "القهوة" أو "الروشن"، وهو المجلس المخصص للرجال، ويكون أحيانًا في الدور العلوي بمدخل منفصل. كما تحتوي المنازل على "الصفة"، وهي غرفة تخزين المؤن، و"بيت الحطب"، و"بيت الخلاء"، الذي أحيانًا يُبنى كبرج متصل بالأرض لتنظيفه. تتميز المنازل بنوافذ مثلثة ونقوش زخرفية تزين واجهاتها، وقد بُنيت بمهارة مكتسبة عبر الأجيال دون تدخل مهندسين.

أما شوارع القصب القديمة، فهي ضيقة، تتراوح بين مترين وثلاثة أمتار، صُممت لمرور الناس والدواب، وليس السيارات. كما تضم القصب "الأبراج" الدفاعية، وهي هياكل مرتفعة لحماية البلدة، و"المجباب" أو "الصاباط"، وهو ممر مسقوف تعلوه غرفة سكنية. وعلى تل شرق البلدة، يوجد "المرقب"، وهو برج مراقبة يُشرف عليه "الرقيبة"، وهو رجل ذو نظر ثاقب يراقب الطرق المحيطة بالقصب.

في المقابل، تحمل القصب الحديثة طابعًا عمرانيًا حديثًا، حيث شُيدت بالمباني المسلحة، وسُفلتت شوارعها، وأُنشئت فيها الحدائق والخدمات الحكومية والمدارس الحديثة، مما يجعلها مزيجًا متناغمًا بين الأصالة والتطور.

الرحيل بصعوبة… والعودة حتمية

حين دقت الساعة التاسعة مساءً، ومع اشتداد البرد، كنت قد اتخذت قراري بالخروج، لكن لم يكن سهلاً انتزاع نفسي من هذا الدفء الإنساني والكرم الذي شعرت به طوال اليوم. بعد جهد طويل في توديع من تعرفت عليهم، انطلقت نحو الرياض، لكن إرهاقي من الرحلة جعلني أتوقف عند مدخل ثادق، في منتزه عبيثران، حيث وجدت مسجدًا صغيرًا، جزى الله من بناه خيرًا، فكان ملاذًا لأخذ قسط من النوم، إذ كانت درجة الحرارة قد وصلت إلى 4°.

استيقظت مع ساعات الفجر الأولى، وأكملت رحلتي نحو الرياض، لكنني كنت أعلم أن هذه ليست الزيارة الأخيرة… فالقصب لم تكن مجرد محطة عابرة، بل قصة جميلة، وموعدٌ مؤجلٌ للعودة.

الرحال وائل الدغفق 1446هـ
رحال الخبر - القصب.